قاعدة لا ضرر و لا ضرار

اشارة

نام كتاب: قاعدة" لا ضرر و لا ضرار" موضوع: قواعد فقهي نويسنده: سيستاني، سيد علي حسيني

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

تاريخ نشر: ه ق

[المقدمات]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 5

[مقدمة الناشر]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و صلي الله علي محمد و آله الطاهرين بين يديك أيها القارئ العزيز مجموعة من محاضرات سماحة آية الله العظمي السيد علي السيستاني دام ظله، التي ألقاها قبل سنين في مهد العلم و المعرفة جامعة النجف الأشرف، حول القاعدة الفقهية المعروفة لا ضرر و لا ضرار. و إننا بعد مراجعتها و استئذان سماحته في طبعها نقدمها لأرباب الفضيلة و أساتذة الحوزة العلمية منهلا زاخرا بالعطاء الفكري علي صعيد علم الفقه و الأصول و الحديث و الرجال. نسأل الله تعالي أن يوفق الجميع للعلم و العمل الصالحين إنه جواد كريم.

مكتب سماحة أية الله العظمي السيد السيستاني دام ظله قم المقدسة 20 رجب 1414 ه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 7

[مقدمة المقرر]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي أشرف الأنبياء و المرسلين محمد و علي آله الهداة المهديين الغر الميامين. و بعد: هذه بحوث حول قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) حررتها من محاضرات سيدي الأستاذ الوالد مد ظله الوارف. أسأل الله العلي القدير أن ينفعني بها و يوفقني لما يحب و يرضي إنه حسبنا و نعم الوكيل.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 9

(قاعدة لا ضرر و لا ضرار)

تمهيد:

من القواعد المعروفة بين فقهاء المسلمين قاعدة (لا ضرر و لا ضرار)، و علي المسلك المشهور في تفسيرها من أن مفادها نفي الحكم الضرري تترتب عليها آثار مهمة في الكثير من الفروع الفقهية، حتي ادعي بعض العامة «1» إن الفقه يدور علي خمسة أحاديث أحدها حديث لا ضرر و لا ضرار. و قد أصبحت هذه القاعدة موردا لاهتمام علمائنا لا سيما في العصر الأخير حيث عني بها الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عناية خاصة، و تطرق إلي البحث عنها في رسائله فانتظمت بذلك في سلك علم الأصول، و أشبع البحث فيها لدي المتأخرين. و حديثنا عن هذه القاعدة يقع في ضمن فصول ثلاثة:

الفصل الأول: في تحقيق موارد ذكر حديث لا ضرر و لا ضرار في الروايات و تشخيص متنه.

الفصل الثاني: في تحقيق مفاده.

الفصل الثالث: في أمور شاع التعرض لها بعنوان تنبيهات القاعدة، و هي أما مكملة للبحث عنها أو متضمنة لبعض تطبيقاتها. و يلاحظ إنا قد تركنا البحث عن سند أصل الحديث لانه لا إشكال في

______________________________

(1) نقله السيوطي في تنوير الحوالك 2/ 122 عن أبي الفتوح الطائي في الأربعين عن أبي داود

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص:

10

وروده بطريق معتبر «1»، عن طريق زرارة كما سيأتي. كما أن أسانيده و مصادره من كتب العامة و الخاصة تظهر مما سنذكره في الفصل الأول إن شاء الله تعالي.

______________________________

(1) حكي الشيخ الأنصاري عن فخر المحققين (قدس سرهما) الله ادعي تواتر حديث نفي الضرر في باب الرهن من الإيضاح، و يظهر من الشيخ (ره) قبوله لذلك، و لكنه غير واضح لانه لم يرد هذا الحديث من طرق الخاصة مسندا إلا عن راويين في الطبقة الأولي و هما زرارة و عقبة، و في سائر الطبقات ربما يكون عدد الرواة ثلاثة أو أربعة، و هذا المقدار لا يكفي في عد الحديث مستفيضا فضلا عن أن يعد متواترا، و ربما يظن أن دعوي التواتر تستند إلي الاطلاع علي أخبار أخري لم تصل إلينا لفقد أكثر كتب الحديث في عصرنا و لكنه ضعيف، و لعل الأوجه أن يقال: إن نظره (قده) إلي مجموع أخبار الخاصة و العامة فإن العامة كما سيأتي في الفصل الأول قد رووا هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، فيمكن عد الحديث متواترا بلحاظ ذلك و هو محل تأمل أيضا.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 11

الفصل الأول

اشارة

و فيه بحثان:

البحث الأول: في ذكر قضايا (لا ضرر) و تحقيقها

اشارة

. و هي قضايا اشتملت علي ذكر حديث (لا ضرر و لا ضرار) تطبيقا له و لو علي بعض الأقوال و الاحتمالات علي مواردها، و لهذا البحث أهمية كبري، لأن ملاحظة هذه الموارد و التعرف علي مبني تطبيق الحديث عليها يسلط بعض الضوء علي معني الحديث نفسه، و يبطل بعض الوجوه التي ذكرت في تفسيره كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالي في الفصل الثاني. و القضايا التي تضمنت ذكر حديث (لا ضرر و لا ضرار) تبلغ ثماني قضايا، وردت في مجموع كتب الفريقين: منها ثلاث قضايا وردت في كتب الإمامية، و واحدة وردت في دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري الاسماعيلي، و أربع قضايا وردت في كتب العامة، و نحن نبحث عن الجميع مفصلا.

1 قضية سمرة بن جندب مع رجل من الأنصار

اشارة

. و هي أشهر القضايا، و لا ينبغي الإشكال في ثبوت هذه الجملة أي لا ضرر و لا ضرار في موردها «1» إلا أنه قد يبالغ فيعد ذلك مستفيضا بل فوق

______________________________

(1) لكن قد يستشكل في ثبوتها من وجهين: الأول: إن قاعدة لا ضرر و لا ضرار لا يمكن تطبيقها علي مورد قضية سمرة، مما يثير الشكوك في اشتمالها علي جملة (لا ضرر و لا ضرار)، لا سيما أنها نفلت مجردة عنها أيضا كما سيأتي، و هذا الوجه سوف يجي ء الكلام في تقريبه و دفعه في الفصل الثالث. الثاني: إن هذه القضية كما أشرنا قد نقلت علي نحوين مقرونة بهذه الجملة و مجردة عنها فيدور الأمر بين الزيادة و النقيصة، و لا ترجيح لأصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة علي أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة كما سيأتي تحقيقه في البحث الثاني من هذا الفصل، فالنتيجة أنه لا يمكن إثبات اشتمال قضية

سمرة علي هذه الجملة.

و يرد عليه (أولا) إن الروايات التي نقلت القضية مجردة عن هذه الجملة لم تصح بطريق معتبر، فلا معارض لمعتبرة ابن بكير المشتملة عليها.

و (ثانيا): إن مورد دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة هو ما إذا لم تكن الزيادة المحتملة جملة مستقلة بحيث لا يكون حذفها مؤثرا علي معني الرواية لكنه مؤثر علي عموم المعني و شموله كما في حذف العلة و بقاء المعلل نحو لا تأكل الرمان لانه حامض معني الرواية و إلا فما يتضمن الزيادة حجة علي ثبوتها بلا معارض، و مقامنا من هذا القبيل فإن جملة (لا ضرر و لا ضرار) جملة مستقلة و بمثابة العلة للحكم المذكور في القضية فلا يكون حذفها مؤثرا علي معني بقية الرواية، لكنه مؤثر علي عموم المعني المعلل بها. و مما تقدم يظهر النظر فيما أفاده العلامة شيخ الشريعة قدس سره في رسالة لا ضرر: 6: حيث بني ثبوت الجملة المذكورة في قضية سمرة رغم خلو بعض رواياتها عنها علي قاعدة الترجيح لأصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة عند دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة، قال قده (و من جهة هذه القاعدة المطردة حكم الكل بوجود لا ضرر و لا ضرار في قضية سمرة مع أن رواية الفقيه بسنده الذي هو صحيح أو كالصحيح عن الصيقل عن الحذاء خالية عن نقل هذين اللفظين بالمرة كما عرفت. و وجه النظر فيما أفاده أن ثبوت جملة لا ضرر في المقام ليس من باب ترجيح أصالة عدم الزيادة علي أصالة عدم النقيصة، فإننا لا نقول بها بل من باب أن ما تضمن الزيادة حجة في نفسه بلا معارض.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 12

حد

الاستفاضة، بادعاء إن هذه القضية مذكورة في كتب الفريقين بطرق متعددة «1». و لكن الصحيح: أن قضية سمرة و إن ذكرت في كتب الفريقين بطرق متعددة، إلا إنها لم تذكر مقرونة بهذه الجملة في جميع طرقها، بل ذكرت مقرونة بها تارة و مجردة عنها أخري

فأما النحو الأول: فلم يرد في شي ء من كتب العامة و أحاديثهم، و إنما ورد في كتبنا
اشارة

، و قد انفرد بنقله في الطبقة الاولي من السند زرارة بن أعين ناقلا

______________________________

(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 193.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 13

ذلك عن أبي جعفر عليه السلام، و نقله عنه اثنان من الرواة هما: عبد الله بن بكير و عبد الله بن مسكان. و

(رواية ابن بكير عن زرارة نقلت بصورتين:
الصورة الأولي: ما نقله الكليني في باب الضرار من كتاب المعيشة

عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار و كان منزل الأنصاري بباب البستان و كان يمر به إلي نخلته و لا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبي سمرة، فلما تأبي جاء الأنصاري إلي رسول الله صلي الله عليه و آله فشكا إليه و خبره الخبر، فأرسل رسول الله صلي الله عليه و آله و خبره بقول الأنصاري و ما شكا، و قال: إن أردت الدخول فاستأذن، فأبي. فلما أبي ساومه حتي بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبي أن يبيع، فقال صلي الله عليه و آله: لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبي أن يقبل، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله للأنصاري اذهب فاقلعها و ارم بها إليه فإنه لا ضرر و لا ضرار «1». و هذه الرواية معتبرة سندا، و قد أوردها الشيخ في التهذيب «2» مبتدئا فيها باسم (أحمد بن محمد بن خالد)، و الظاهر أنه قد أخذها عن الكافي فلا يمكن عده مصدرا مستقلا لها-، و ذلك لما أوضحناه في شرح مشيخة التهذيبين من أن دأب الشيخ (قدس سره) علي الابتداء باسم البرقي بعنوان (أحمد

بن أبي عبد الله) حينما ينقل الرواية عن كتاب البرقي نفسه و الابتداء باسمه بعنوان (أحمد بن محمد بن خالد) حينما ينقل الرواية عن الكافي دون

______________________________

(1) الكافي 5/ 292.

(2) التهذيب 6/ 146 147 خ 651.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 14

كتابه «1».

______________________________

(1) توضيحا لما أشار إليه مد ظله لا بأس بذكر أمرين مستفادين مما ذكره دام ظله في شرح مشيخة التهذيبين: الأول: إنه ربما يتصور و لعله هو التصور السائد إن جميع من يكون للشيخ طرق إليهم في المشيخة إنما يروي الأحاديث المبدوءة بأسمائهم في التهذيبين من كتبهم مباشرة، و لعل الأصل في هذا التصور هو عبارة الشيخ نفسه في مقدمة المشيخة و لكن هذا غير صحيح، بل التحقيق إن رجال المشيخة علي ثلاثة أقسام: الأول: من أخذ الشيخ جميع ما ابتدأ فيه باسمه من كتابه مباشرة، و هم أكثر رجال المشيخة كمحمد بن الحسن الصفار، و محمد بن الحسن الوليد، و علي بن الحسن بن فضال و غيرهم. الثاني: من أخذ الشيخ جميع ما ابتدأ فيه باسمه من كتابه مع الواسطة، و هو بعض مشايخ الكليني و مشايخ مشايخه كالحسين بن محمد الأشعري، و سهل بن زياد، فهؤلاء إنما ينقل الشيخ رواياتهم بواسطة الكافي. الثالث: من أخذ الشيخ بعض ما ابتدأ فيه باسمه من كتابه مباشرة و بعضه الأخر من كتابه مع الواسطة، و هم جماعة منهم خمسة ذكرهم الشيخ تارة مستقلا بصيغة (و ما ذكرته عن فلان.)، و أخري تبعا في ذيل ذكر أسانيده إلي آخرين بصيغة (و من جملة ما ذكرته عن فلان.) و هؤلاء هم الحسن بن محبوب، و الحسين بن سعيد، و أحمد بن محمد بن عيسي، و

الفضل بن شاذان، و أحمد بن محمد بن خالد البرقي، فإن هؤلاء و إن نقل الشيخ من كتبهم بلا واسطة و لكن نقل عنها أيضا بتوسط غيرهم ممن ذكرهم بعد إيراد أسانيده إليهم، فالبرقي مثلا قد ذكره الشيخ مرتين: تارة بعد ذكر أسانيده إلي الكليني بقوله (و من جملة ما ذكرته عن أحمد بن محمد بن خالد ما رويته بهذه الأسانيد، عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد.) و ذكره مرة أخري مستقلا بقوله (و أما ما ذكرته عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي فقد أخبرني.) فهذا يقتضي أنه (قده) قد اعتمد في نقل روايات البرقي علي كتابه تارة و إليه ينتهي سنده الأخير و علي الكافي تارة أخري و إليه ينتهي سنده الأول. و علي هذا فلا يمكن لنا بمجرد ابتداء الشيخ باسم البرقي و أضرابه استكشاف أن الحديث مأخوذ من كتبهم مباشرة. الثاني: إن في القسم الثالث حيث ينقل الشيخ روايات الشخص من كتبه علي نحوين: مباشرة تارة و مع الواسطة أخري، هل يمكن تمييز أحد النحوين عن الأخر أم لا؟ ذكر مد ظله إن ذلك ممكن في بعض هؤلاء و منهم البرقي فإنه متي ابتدأ به بعنوان (أحمد بن محمد بن خالد) فالحديث مأخوذ من الكافي، و متي ابتدأ به بعنوان أحمد بن أبي عبد الله فالحديث مأخوذ من كتبه مباشرة، و هذا مضافا إلي أنه مقتضي ظاهر عبارة المشيخة حيث فرق بين القسمين في التعبير كما تقدم فهو مقرون ببعض الشواهد الخارجية منها إن الملاحظ أن كل رواية في التهذيبين ابتدأ فيها الشيخ بعنوان أحمد بن محمد بن خالد موجود في الكافي كما

تحققته بالتتبع لاحظ ج 3 ح 910 و ج 6 ح 352، 358، 366، 369، 372، 608، 697، 850، 886، 1158. و ج 7 ح 28، 35، 36، 44، 45، 56، 651، 709. و ج 9 ح 383، 413، 415، 465، 467، 470. و ج 10 ح 67، 115، 208، 262، 452، 803، 805، 872، 901، 903، 931، 937، و ليس كذلك ما ابتدأ فيه بعنوان أحمد بن أبي عبد الله فإنه قد يوجد في الكافي و قد لا يوجد فيه كما في ج 1 ح 1056، 1144. و ج 2 ح 415. و ج 3 ح 295، 486، 711. و ج 6 ح 258، 329، 878، 1060. و بهذا يتجلي صحة ما ذكرناه من أنه كلما ابتدأ الشيخ بعنوان (أحمد بن محمد بن خالد) فإنه يكون قد أخذ الحديث من كتاب الكافي فلا يمكن عده مصدرا مستقلا في مقابله.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 15

الصورة الثانية: ما نقله الصدوق في الفقيه

«1» قال: روي ابن بكير عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري فيه الطريق إلي الحائط فكان يأتيه فيدخل عليه و لا يستأذن، فقال: إنك تجئ و تدخل و نحن في حال نكره أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتي نتحرز ثم نأذن لك و تدخل قال لا أفعل هو مالي أدخل عليه و لا أستاذن، فأتي الأنصاري رسول الله صلي الله عليه و آله فشكا إليه و أخبره فبعث إلي سمرة فجاء فقال استأذن عليه فأبي و قال له مثل ما قال الأنصاري، فعرض عليه رسول الله صلي الله

عليه و آله أن يشتري منه بالثمن فأبي عليه و جعل يزيده فيأبي أن يبيع، فلما رأي رسول الله صلي الله عليه و آله قال له: لك عذق في الجنة فأبي أن يقبل ذلك فأمر رسول الله صلي الله عليه و آله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه و قال: لا ضرر و لا ضرار.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 3/ 147، 648.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 16

و يلاحظ أن هذه الصورة أكثر تفصيلا من الصورة الأولي لاشتمالها علي بعض الخصوصيات التي لم تذكر في تلك، و كيف كان فهذه الرواية معتبرة أيضا لصحة طريق الصدوق إلي عبد الله بن بكير في المشيخة بل يمكن عدها أقوي سندا من رواية الكليني لأن في سند الكليني محمد بن خالد البرقي و قد قال النجاشي (إنه ضيف في الحديث و إن كان المعتمد وثاقته) «1». نعم يلاحظ أن مصدر الصدوق في نقل هذه الرواية غير معلوم عندنا و ما قيل من أنه يبتدئ باسم من أخذ الحديث من كتابه أمر لا قرينة عليه، بل القرائن الواضحة تدل علي خلافه كما ذكرناها في شرح مشيخة الفقيه. هذا عن رواية ابن بكير عن زرارة.

و أما (رواية ابن مسكان) عنه فقد أوردها الكليني «2» أيضا في باب الضرار من كتاب المعيشة

عن علي بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق، و كان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار فكان يجي ء و يدخل إلي عذقه بغير إذن من الأنصاري. فقال له الأنصاري: يا سمرة لا تزال تفاجئنا علي حال لا نحب أن تفاجئنا عليها، فإذا

دخلت فاستأذن. فقال: لا أستأذن في طريقي و هو طريقي إلي عذقي، قال فشكا الأنصاري إلي رسول الله صلي الله عليه و آله فأرسل إليه رسول الله صلي الله عليه و آله فأتاه فقال له إن فلانا قد شكاك و زعم أنك تمر عليه و علي أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت

______________________________

(1) رجال النجاشي: 335/ رقم 898.

(2) الكافي 5: 294/ 8.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 17

أن تدخل، فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلي عذقي؟ فقال له رسول الله صلي الله عليه و آله خل عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا و كذا فقال لا، قال: فلك اثنان، قال لا أريد، فلم يزل يزيده حتي بلغ عشرة أعذاق فقال لا، قال فلك عشرة في مكان كذا و كذا فأبي، فقال خل عنه و لك مكانه عذق في الجنة، قال لا أريد، فقال له رسول الله صلي الله عليه و آله: إنك رجل مضار و لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن، قال ثم أمر بها رسول الله صلي الله عليه و آله فقلعت، ثم رمي بها إليه و قال له رسول الله صلي الله عليه و آله انطلق فاغرسها حيث شئت. و هذه الرواية ضعيفة بالإرسال، و لا سيما إن مرسلها هو محمد بن خالد البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء كثيرا كما ذكر ذلك ابن الغضائري «1»، و ربما يناقش في سندها أيضا بعدم ثبوت وثاقة (علي بن محمد بن بندار) و لكنه في غير محله، لانه كما احتمل ذلك الوحيد البهبهاني (قده) «2» هو علي بن محمد بن أبي القاسم الذي وثقه النجاشي «3»، فإن

بندار لقب أبي القاسم جده كما صرح بذلك النجاشي في ترجمة محمد بن أبي القاسم «4».

هذا كل ما ورد في نقل قضية سمرة مقرونة بجملة (لا ضرر و لا ضرار).

و أما النحو الثاني: في نقل قضية سمرة مجردة عن جملة (لا ضرر و لا ضرار) فقد ورد في جملة من كتبنا و كتب العامة
اشارة

. أما في (كتبنا) فقد ورد في الفقيه «5» قال: روي الحسن الصيقل عن

______________________________

(1) مجمع الرجال 5/ 205.

(2) تنقيح المقال 2/ 303.

(3) رجال النجاشي: 268/ 700.

(4) رجال النجاشي: 353/ 947.

(5) من لا يحضره الفقيه 3: 59/ 208.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 18

أبي عبيدة الحذاء قال قال أبو جعفر عليه السلام: كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلي نخلته نظر إلي شي ء من أهل الرجل يكرهه الرجل، قال فذهب الرجل إلي رسول الله صلي الله عليه و آله فشكاه، فقال: يا رسول الله إن سمرة يدخل علي بغير إذني، فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتي تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول الله صلي الله عليه و آله فدعاه فقال: يا سمرة استأذن أنت إذا دخلت، ثم قال رسول الله صلي الله عليه و آله يسرك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال لك ثلاثة قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة إلا مضارا، اذهب يا فلان فاقطعها و اضرب بها وجهه. و سند الصدوق في المشيخة إلي الحسن الصيقل هو: محمد بن موسي المتوكل، عن علي بن الحسين السعدآبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن زياد الصيقل.

و يمكن أن يناقش في اعتبار هذه الرواية
اشارة

تارة من جهة الحسن الصيقل و أخري من جهة سند الصدوق إليه.

أما الجهة الاولي: فلان الحسن الصيقل لم يوثق

و إن استظهر المحدث النوري وثاقته من وجهين ذكرهما في خاتمة المستدرك «1» و فصلهما العلامة شيخ الشريعة (قده) في رسالته «2» و هما: 1 رواية خمسة من أصحاب الإجماع عنه و هم: عبد الله بن مسكان و حماد بن عثمان و أبان بن عثمان من الستة الوسطي، و يونس بن عبد الرحمن

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 588.

(2) رسالة لا ضرر و لا ضرار: 55 56.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 19

و فضالة بن أيوب من الستة الأخيرة علي تردد في عد فضالة منهم «1». و يرد عليه إن استكشاف وثاقة الراوي من رواية هؤلاء عنه يبتني علي أحد أمرين: الأول: أن يفسر ما قاله الكشي في حق هؤلاء من الإجماع علي تصحيح ما يصح عنهم بصحة ما رووه من الروايات، ليكون ذلك في قوة توثيق رواتها، و لكن هذا التفسير غير صحيح فإن المقصود بما ذكره كما أوضحناه في محله هو الإجماع علي صحة نقل هؤلاء و الثقة بهم في ذلك لا صحة الحديث الذي رووه، مضافا إلي إن تصحيح أحاديثهم أعم من الحكم بوثاقة رواتها كما لا يخفي. الثاني: إن بناء أجلاء الأصحاب و أعاظمهم كهؤلاء علي عدم الرواية عن الضعفاء، و لكن هذا أيضا لم يثبت كقاعدة كلية، نعم ثبت علي المختار في حق ثلاثة منهم و هم محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيي و محمد بن أبي نصر البزنطي. 2 رواية جعفر بن بشير عنه «2»، و قد قال النجاشي في ترجمته (روي عن الثقات و رووا عنه) «3» و هو يقتضي وثاقة من يروي عنهم.

و يرد عليه إنه لا وجه لاستظهار الحصر من العبارة المذكورة لأن إثبات روايته عن الثقات لا ينفي روايته عن غيرهم. (لا يقال) إن الأمر و إن كان كذلك إلا أن هذه العبارة لما كانت مسوقة في مقام المدح فلا محيص من إرادة الحصر منها، لأن أصل رواية الشخص عن الثقات و رواية الثقات عنه أمر لا يستوجب المدح و لا تميز لجعفر بن بشير

______________________________

(1) لاحظ رجال الكشي: 556/ رقم 1050.

(2) رسالة لا ضرر و لا ضرار: 56.

(3) رجال النجاشي: 119/ 304.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 20

عن غيره في ذلك، بل هو ثابت في حق كثير من الرواة حتي الضعفاء منهم. (فإنه يقال) المقصود بالعبارة المذكورة إكثاره الرواية عن الثقات و إكثار الثقات الرواية عنه، و لا شك إن هذا أمر ممدوح و صفة عالية في الشخص في مقابل ما يذكر في شأن بعض الرواة كمحمد بن خالد البرقي من أنه يروي عن الضعفاء و المجاهيل، فإنه يعد نوعا من المدح و الذم في حقه. و بالجملة لا يستفاد من العبارة المذكورة انحصار رواية جعفر بن بشير بما يرويه عن الثقات مضافا إلي أن هذه الاستفادة لا تخلو من غرابة في ناحية الرواة عنه فإنا لم نجد أحدا مهما بلغ من الجلالة و العظمة لا يروي عنه إلا الثقات حتي أن الأئمة المعصومين عليهم السلام كثيرا ما روي عنهم الوضاعون و الكذابون. و يشهد لما ذكرناه ما قاله الشيخ في التهذيب فإنه بعد أن أورد روايتين لجعفر بن بشير، الاولي: عمن رواه عن أبي عبد الله و الثانية عن عبد الله بن سنان أو غيره عنه عليه السلام «1». قال بصدد النقاش

في الخبر المحكي بهما (أول ما فيه أنه خبر مرسل منقطع الإسناد لأن جعفر بن بشير في الرواية الأولي قال عمن رواه، و هذا مجهول يجب اطراحه، و في الرواية الثانية قال عن عبد الله بن سنان أو غيره، فأورده و هو شاك فيه و ما يجري هذا المجري لا يجب العمل به). فيلاحظ أنه قدس سره لم يبأ في إسقاط الرواية بالإرسال بكون المرسل هو جعفر بن بشير، و هذا لا وجه له لو كان جميع مشايخه و من يروي عنهم من الثقات فتأمل «2».

______________________________

(1) التهذيب 1/ 196/ 567 و 568.

(2) وجهه أن الاستشهاد بكلام الشيخ قدس سره مدفوع نقضا و حلا (أما النقض) فإن الشيخ قد ناقش في موضع من التهذيبين في بعض مراسيل ابن أبي عمير و ردها بالإرسال (التهذيب ج 8 ح 932) مع أننا نري حجية مراسيله اعتمادا علي كلام الشيخ نفسه في العدة من أنه لا يروي و لا يرسل إلا عن ثقة. (و أما الحل) فإن الشيخ قد تكفل في التهذيبين لحل ظاهرة التعارض بين الاخبار و ذلك مما ألجأه أحيانا إلي اتباع الأسلوب الإقناعي في البحث المتمثل في حمل جملة من الروايات علي بعضر المحامل البعيدة، أو المناقشة في حجيتها ببعض الوجوه التي لا تنسجم مع مبانيه الرجالية و الأصولية المذكورة في سائر كتبه. و هذا ظاهر لمن تتبع طريقته قدس سره في الكتابين، و لتوضيحه و ذكر الشواهد عليه مجال آخر، و علي هذا فلا يمكن الاستناد إلي ما ذكره في التهذيبين خلافا لما صرح به هو في كتاب العدة أو ذكره غيره من أعلام الرجاليين.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 21

و أما الجهة الثانية: فلاشتمال السند علي علي بن الحسين السعدآبادي و محمد بن موسي بن المتوكل

. فأما

علي بن الحسين السعدآبادي فهو ممن لم يوثق و إن بني جمع علي وثاقته استنادا إلي بعض الوجوه الضعيفة: (منها) كونه من مشايخ ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بناء علي استفادة توثيق جميع رواة هذا الكتاب أو خصوص مشايخ مؤلفه من الكلام المذكور في مقدمته «1». و لكن الصحيح إن العبارة المذكورة في المقدمة لا تدل علي هذا المعني بل مفادها أنه لم يورد في كتابه روايات الضعفاء و المجروحين، لذا لم يكن قد أخرجها الرجال الثقات المشهورون بالحديث و العلم، المعبر عنهم بنقاد الأحاديث كمحمد بن الحسن بن الوليد و سعد بن عبد الله و أضرابهما و أما لو كان قد أخرجها بعض هؤلاء سواء كانوا من مشايخه أو مشايخ مشايخه فهو يعتمدها و يوردها في كتابه، فكأنه قدس سره يكتفي في الاعتماد علي روايات الشذاذ من الرجال علي حد تعبيره بإيرادها من قبل بعض هؤلاء الأعاظم من نقاد الأحاديث. و هذا المعني مضافا إلي كونه ظاهر عبارته المشار إليها كما يتبين عند التأمل مقرون ببعض الشواهد الخارجية المذكورة في محلها.

______________________________

(1) كامل الزيارات: 4.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 22

فليس مراده وثاقة جميع من وقع في أسانيد رواياته فإن منهم من لا شائبة في ضعفه ويي د مراده وثاقة عامة مشايخه فإن منهم من لا تنطبق عليهم الصفة التي وصفهم بها قدس سره و هي كونهم مشهورين بالحديث و العلم. و (منها) كونه أي السعدآبادي من شيوخ الإجازات الذين لا حاجة إلي التنصيص علي وثاقتهم بل لا يضر ضعفهم بعد تواتر الكتاب الذي أجازوا روايته، و يرد عليه أنه لم يثبت اقتصار الأصحاب علي الاستجازة من الثقات فقط بل ثبت خلاف

ذلك كما يعلم بمراجعة كتب الرجال. و أيضا لم يعرف الكتاب الذي أخرج منه الصدوق رواية الصيقل ليقال إنه متواتر فلا يقدح عدم وثاقة السعدآبادي في جواز الاعتماد علي روايته. و (منها) كونه أحد العدة الذين يروي الكليني بواسطتهم عن البرقي و قد روي عنه أيضا علي بن إبراهيم و علي بن الحسين والد الصدوق و أبو غالب الزراري و غيرهم من الأجلاء ففي ذلك دلالة علي وثاقته. و فيه إنه لم يثبت اقتصار هؤلاء علي الرواية عن الثقات كما سبقت الإشارة إليه. هذا و قد حاول العلامة شيخ الشريعة قدس سره تصحيح سند الصدوق إلي الحسن الصيقل حتي علي تقدير عدم ثبوت وثاقة السعدآبادي بدعوي أن للصدوق طريقا آخر إلي البرقي و هو صحيح بالاتفاق فإنه يروي عنه أيضا بتوسط أبيه و محمد بن الحسن بن الوليد عن سعد بن عبد الله عن البرقي و هذا السند صحيح اتفاقا «1». و يرد عليه أن هذا الطريق يختص بما يرويه الصدوق في الفقيه مبتدئا باسم البرقي لا إلي جميع الروايات التي وقع البرقي في طرقها و هذا واضح، نعم يمكن تعميم الطريق المذكور لما نحن فيه و نظائره فيما إذا ثبت أمران:

______________________________

(1) رسالة (لا ضرر و لا ضرار): 54 55.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 23

الأول: إن الصدوق قد أخذ رواية الصيقل من كتاب البرقي بالرغم من إنه لم يبتدأ باسمه. الثاني: إن السند المذكور إلي البرقي في المشيخة مسند إلي كتبه لا إلي خصوص رواياته المبدوءة باسمه في الفقيه، و لكن لا يمكن إثبات شي ء من الأمرين؟ أما الأول: فواضح. و أما الثاني، فلما أوضحناه في محله من أن سند الصدوق إلي

شخص في المشيخة إنما هو سنده إلي الروايات المبدوءة باسم ذلك الشخص في الفقيه، و لا يمكن تعميمه إلي كتبه إلا بدليل يوجب ذلك كأن يصرح الصدوق نفسه بذلك كما صرخ به عند ذكر طريقه إلي علي بن جعفر حيث قال: (و كذلك جميع كتاب علي بن جعفر فقد رويته بهذا الاسناد) و كذلك صرح به عند ذكر طريقه إلي الكليني فقال: (و كذلك جميع كتاب الكافي فقد رويته عنهم عنه عن رجاله). و الحاصل إن طريق الصدوق إلي الحسن الصيقل ضعيف بعلي بن الحسين السعدآبادي و لا يمكن تصحيحه بشي ء من الوجوه المذكورة. و أما الخدشة فيه من ناحية محمد بن موسي بن المتوكل، الذي لم يوثق في كلمات الاعلام المتقدمين كالشيخ و النجاشي و إنما وثقه بعض المتأخرين كابن طاوس و العلامة، ففي غير محلها، إذ يرد عليها مضافا إلي ضعف التفريق بين توثيقات المتقدمين و المتأخرين أمثال ابن طاوس و العلامة كما أوضحناه في محله «1» إنه قد وقع في إسناد رواية ادعي ابن طاوس في فلاح السائل الإجماع علي وثاقة رواتها مما يكشف عن توثيق بعض المتقدمين له علي أقل تقدير. فتحصل مما ذكرناه إن رواية الحسن الصيقل ضعيفة سندا و إن حاول

______________________________

(1) باعتبار أنه لا فرق بينهما في احتمال الحدس و لا فرق بينهما في دعوي الحس.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 24

بعض الأعاظم تصحيحها. هذا ما في كتبنا من نقل قضية سمرة من دون جملة (لا ضرر). و أما ما في (كتب العامة) فقد نقلت في جملة منها مع اختلاف في كيفية طرح الشكوي و المخاصمة و نشير إلي بعضها: (منها) ما في سنن أبي داود، فقد

روي بإسناده عن واصل مولي عيينة قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب، إنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال و مع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلي نخلة فيتأذي به و يشق عليه فطلب إليه أن يناقله فأبي فأتي النبي صلي الله عليه و آله، فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلي الله عليه و آله أن يبيعه فأبي فطلب إليه أن يناقله فأبي، قال فهبة له و لك كذا و كذا مرارا رغبة فيه فأبي فقال أنت مضار، فقال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم للأنصاري: اذهب فأقلع نخله «1». و (منها) ما في مصابيح السنة للبغوي «2».

و (منها) ما في الفائق للزمخشري «3»، و المروي فيهما لا يختلف عما في سنن أبي داود إلا يسيرا. و (منها) ما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال روي واصل مولي ابن عيينة، عن جعفر بن محمد بن علي عليهما السلام، عن آبائه قال كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار فكان يؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلي رسول الله صلي الله عليه و آله فبعث إلي سمرة فدعاه

______________________________

(1) سنن أبي داود 3: 315/ 3636.

(2) مصابيح السنة 2/ 372/ 2220.

(3) الفائق في غريب الحديث 2/ 442.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 25

فقال له بع نخلك من هذا و خذ ثمنه قال: لا أفعل، قال: فخذ نخلا مكان نخلك قال لا أفعل. قال: فاشتر منه بستانه قال لا أفعل قال فاترك لي هذا النخل و لك الجنة قال: لا أفعل فقال صلي الله عليه و آله للأنصاري:

اذهب فاقطع نخله فإنه لاحق له فيه «1». فظهر من مجموع ما تقدم إن قضية سمرة و إن نقلت في كتب الفريقين بطرق متعددة، إلا إنها لم تذكر مقرونة بجملة (لا ضرر و لا ضرار) إلا في كتبنا و بطريق واحد فقط، فلا ينبغي الخلط بين ثبوت هذه القضية في نفسها و بين ثبوتها مقرونة بهذه الجملة، فإنه إن صحت دعوي استفاضة أصل القضية فلا تصح دعوي استفاضتها مقرونة بهذه الجملة كما يظهر من المحكي عن المحقق النائيني قدس سره. هذا بعض ما يتعلق بقضية سمرة و اقترانها بجملة (لا ضرر و لا ضرار) و للكلام في ذلك تتمة يأتي في البحث الثاني إن شاء الله تعالي.

2 حديث الشفعة

و قد رواه المشايخ الثلاثة:
1 رواه الكليني

، عن محمد بن يحيي، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله بن حلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضي رسول الله صلي الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن و قال: لا ضرر و لا ضرار، و قال: إذا رفت الأرف و حذت الحدود فلا شفعة «2».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 78.

(2) الكافي 5/ 280/ 4.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 26

2 و رواه الشيخ في التهذيب

«1» بإسناده عن محمد بن يحيي، و الظاهر أنه أخرجه عن الكافي لما أوضحناه في شرح مشيخة التهذيبين من أنه كلما ابتدأ الشيخ باسم بعض مشايخ الكليني كمحمد بن يحيي و علي بن إبراهيم و نظرائهما، فإنه قد أخذ الحديث من الكافي لا من كتبهم «2» إلا مع التصريح بخلاف ذلك. و إن كان ظاهر كلامه في أول المشيخة يوهم أنه لم يبتدئ، إلا باسم من أخذ الحديث من كتابه أو أصله، و لكن هذا و إن كان هو الغالب علي أحاديث التهذيبين إلا أنه لا كلية له كما تدل عليه القرائن الكثيرة، و علي هذا فلا يمكن عد التهذيب في المقام مصدرا مستقلا لهذا الحديث.

3 و رواه الصدوق

«3» بإسناده عن عقبة بن خالد كما نقله الكليني و لكنه أسند الجملة الثالثة من الحديث إلي الامام الصادق عليه السلام قال: (و قال الصادق عليه السلام: إذا رفت الأرف)، قال صاحب الوسائل بعد نقل الحديث عن الكافي و التهذيب: و رواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد و زاد (و لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم) «4» و لكن الظاهر أن هذه الجملة من كلام الصدوق نفسه و ليست زيادة في الرواية علي نقله و لذا لم ينقلها في الوافي «5»

______________________________

(1) التهذيب 7/ 164/ 727.

(2) أقام مد ظله قرائن عديدة علي هذا المدعي من نفس المشيخة و خارجها و مما يختص منها بالمقام أن المراجع لرجال الشيخ و فهرسته، يجد أنه قدس سره لم يذكر محمد بن يحيي العطار في الفهرست و إنما ذكره في الرجال قائلا (روي الكليني عنه قمي كثير الرواية)، و لكن النجاشي عنونه و قال (له كتب منها كتاب مقتل الحسين و كتاب النوادر)

فيستظهر من ذلك أن كتب محمد بن يحيي لم تصل إلي الشيخ قدس سره لينقل منها مباشرة و إلا فكيف لم يذكرها في الفهرست مع إن غايته فيه الاستيفاء قدر الإمكان كما يعلم من مقدمته.

(3) الفقيه 3/ 45/ 154.

(4) الوسائل 25: 400/ 32218.

(5) الوافي مجلد 3 جزء 10/ 103.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 27

عن الفقيه، و من راجع الفقيه يجد أن دأب الصدوق (قدس سره) علي تعقيب بعض الروايات بكلام لنفسه من دون فصل مشعر بالتغاير كما إن الأمر كذلك في التهذيب و من هنا قد يشتبه الأمر علي الناظر فيعد كلامه جزءا من الرواية.

و كيف كان فتحقيق الكلام في هذه الرواية يقع في ضمن جهات:
(الجهة الاولي) في سندها

، و هو ضعيف لأن رواية الكليني و الشيخ مخدوشة ب (محمد بن عبد الله بن هلال) و (عقبة بن خالد) فإن الأول لم يوثق بل لم يذكره القدماء من أعلام الرجاليين، و ربما يوثق: لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات أو لأنه من شيوخ محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الذي هو من أجلاء الطبقة السابعة، و لرواية جماعة أخري من الأجلاء عنه و لكن قد تقدم ضعف هذه الوجوه، و أما الثاني فهو و إن ذكره النجاشي و الشيخ إلا أنهما لم يوثقاه، نعم وثقه صاحب الوسائل (قده) لرواية الكشي مدحه و دعاء الصادق له و رواية الكليني في الجنائز مدحا له، و لأن له كتابا ذكره الشيخ و النجاشي و ربما يوثق لكونه من رجال الكامل و جميع ذلك ضعيف أيضا. و بما تقدم يظهر ضعف رواية الصدوق أيضا، لأنها تنتهي إلي عقبة بن خالد نفسه، مضافا إلي أنها مرسلة حيث إن الصدوق (قده) لم يذكر طريقه إلي عقبة في المشيخة، و أما دفع الإرسال

عنها بأن للشيخ (قده) طريقا معتبرا في الفهرست إلي كتاب عقبة و قد توسطه الصدوق فيعلم بذلك سنده إليه فتخرج الروايات التي ابتدأ فيها باسمه في الفقيه عن الإرسال (فمخدوش) إذ لم يثبت إن الصدوق التزم في الفقيه أن لا يبتدئ إلا باسم من أخذ الحديث من كتابه، بل ثبت خلافه في جملة من الموارد كما سبقت الإشارة إلي ذلك، و علي ضوء ذلك فمن أين يعلم إنه أخذ حديث عقبة هذا من كتابه مباشرة لا من كتب مشايخه أو مشايخ مشايخه مثلا كي يجدي استكشاف طريقه إلي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 28

كتاب عقبة في إخراج رواياته في الفقيه عن الإرسال فتأمل. و الذي يهون الأمر إن مورد الإشكال في سند الكليني و الشيخ إلي عقبة إنما هو محمد بن عبد الله بن هلال كما تقدم و هو مذكور أيضا في السند المذكور في الفهرست إلي كتاب عقبة، فإن أمكن تصحيح طريق الكليني و الشيخ بوجه فلا حاجة إلي دفع شبهة الإرسال عن رواية الصدوق بما ذكر.

الجهة الثانية: في انجبار ضعف سندها بعمل الأصحاب و عدمه

. قد يقال إن رواية عقبة هذه و إن كانت ضعيفة سندا إلا إنها منجبرة بعمل الأصحاب فقد أوردها المشايخ الثلاثة في كتبهم من غير رد ظاهر و كذا من بعدهم من المتأخرين فيستظهر من ذلك عملهم بها و اعتمادهم عليها. و في مقابل ذلك قد يدعي وهنها بإعراض الأصحاب عنها فيلزم طرحها حتي و إن أمكن تصحيح سندها ببعض الوجوه المتقدمة، و تقريب دعوي الاعراض أن يقال إن مقتض استخدام الجمع لا المثني في قوله عليه السلام (قضي رسول الله صلي الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء) ثبوت الشفعة لأزيد من شريك واحد،

و هذا خلاف المشهور، فإن المشهور بينهم شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعا عدم ثبوت حق الشفعة إلا مع وحدة الشريك، فالشفعة مجعولة عندهم لازالة الشيوع في الأموال لا لتقليله، و لم يخالف في ذلك غير ابن الجنيد حيث حكم بثبوتها للشركاء مطلقا، و غير الصدوق حيث قال بثبوتها للشركاء في خصوص العقار كما نقله عنهما السيد المرتضي في الانتصار «1» ورد عليهما قائلا: (إن إجماع الإمامية تقدم الرجلين فلا اعتبار بخلافهما) و نقل أيضا: متن رواية عقبة هذه وعدها من أخبار الآحاد التي لا توجب علما و ذكر وجهين في تأويلها.

______________________________

(1) الانتصار: 217 218.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 29

و قال الشيخ في الخلاف «1» بعد اختيار المسلك المشهور: دليلنا علي المسألة الاولي إنه إذا كان الشريك واحدا فلا خلاف في ثبوت الشفعة و إذا كانوا أكثر من ذلك فلا دليل علي ثبوت الشفعة لهم، و أخبار أصحابنا التي يعتمدونها ذكرناها في الكتاب الكبير فنصرة القول الأخر أخبار رويت في هذا المعني و الأقوي عندي الأول. هذا و لكن يمكن أن يقال إنه لا يظهر من الرواية ما يخالف المسلك المشهور و لذا لم يعتبرها الشيخ في التهذيبين من الاخبار المخالفة في الباب، ففي التهذيب «2» نقلها علي إنها من الاخبار الموافقة و لم يعلق عليها بشي ء، كما فعل ذلك بالنسبة إلي بعض الاخبار الأخر، و في الاستبصار «3» نقل عدة أخبار تدل علي ثبوت الشفعة في أكثر من شريكين و ردها و لم يذكر هذه الرواية في ضمنها رغم أنه أوردها في التهذيب. و الوجه في ذلك إن استخدام صيغة الجمع في الرواية إنما هو باعتبار ذكر لفظتي (الأرضين) (و المساكن)

فيها، فهو من مقابلة الجمع بالجمع و ظاهره الانحلال، فلا دلالة في الرواية علي ثبوت الشفعة للشركاء بلحاظ مورد واحد من أرض أو مسكن لتقتضي خلاف ما هو المشهور في المسألة حتي يدعي و هنا بإعراض الأصحاب عنها. هذا بالنسبة لدعوي وهنها بإعراض الأصحاب. و أما دعوي انجبارها بعمل الأصحاب فهي في غير محلها أيضا، لأن كبري الانجبار غير مسلمة علي إطلاقها بل للانجبار مواضع خاصة ليس المقام منها و توضيح ذلك موكول إلي محله.

الجهة الثالثة [هل يظهر من الرواية ارتباط قوله (لا ضرر و لا ضرار) بالحكم فيها بثبوت الشفعة للشركاء]

و هي عمدة ما ركز عليه في كلماتهم: في أنه هل يظهر

______________________________

(1) الخلاف 3: 435 436 مسألة 11.

(2) التهذيب 7/ 164/ 727.

(3) الاستبصار 3/ 116 117/ 416 418.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 30

من الرواية ارتباط قوله (لا ضرر و لا ضرار) بالحكم فيها بثبوت الشفعة للشركاء أم لا؟ و علي التقدير الأول فهل هناك قرينة خارجية توجب رفع اليد عن هذا الظهور أم لا؟ و وجه العناية بهذا البحث: إنه لو ارتبطت جملة (لا ضرر و لا ضرار) بالحكم بثبوت الشفعة، فإن ذلك يقتضي عدم إمكان تفسير هذه الجملة بما استظهره بعضهم منها من إرادة النهي التحريمي فقط، و لذا أصر جماعة منهم علي عدم الارتباط بينهما أولهم العلامة شيخ الشريعة (قده) حيث قال في رسالته «1» و هو يشرح منشأ ميله النفسي إلي ذلك: إن الراجح في نظري القاصر إرادة النهي التكليفي من حديث الضرر، و كنت أستظهر منه عند البحث عنه في أوقات مختلفة إرادة التحريم التكليفي فقط، إلا أنه يمنعني عن الجزم بذلك حديث الشفعة و حديث النهي عن منع فضل الماء، حيث إن اللفظ واحد و لا مجال لإرادة ما عدا الحكم الوضعي

في حديث الشفعة، و لا التحريم في منع فضل الماء بناء علي ما أشتهر عند الفريقين من حمل النهي علي التنزيه، فكنت أتشبث ببعض الأمور في دفع الإشكال، إلي أن استرحت في هذه الأواخر و تبين عندي إن حديث الشفعة و الناهي عن منع الفضل لم يكونا حال صدورهما من النبي صلي الله عليه و آله مذيلين بحديث الضرر، و إن الجمع بينهما و بينه جمع من الراوي بين روايتين صادرتين عنه صلي الله عليه و آله في وقتين مختلفين. و أضاف قده: و هذا المعني و إن كان دعوي عظيمة و أمرا يثقل تحمله علي كثيرين و يأبي عن تصديقه كثير من الناظرين إلا إنه مجزوم به عندي. و قد وافقه في هذا الادعاء جمع منهم المحقق النائيني و الاصفهاني

______________________________

(1) رسالة لا ضرر و لا ضرار: 28.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 31

قدس سرهما «1» و قد وافقاه في كيفية الاستدلال علي ذلك أيضا في الجملة كما سيأتي إن شاء الله تعالي.

و الكلام يقع تارة في تحقيق ظهور الرواية و أخري في ملاحظة القرائن الخارجية فهنا بحثان:
أما البحث الأول: لا إشكال ظاهرا في ظهور سياق الحديث في الارتباط بين الحكم بثبوت الشفعة للشركاء و بين كبري لا ضرر و لا ضرار
اشارة

، و قد اعترف بذلك جمع ممن أصروا علي عدم الارتباط بينهما بحكم القرائن الخارجية كالعلامة شيخ الشريعة و المحقق النائيني قدس سرهما، و لكن لتوضيح الأمر لا بد من ملاحظة نقطتين

النقطة الاولي: في تعيين فاعل (قال) في الجملة الثانية

أي (و قال لا ضرر و لا ضرار) فإن المحتمل في ذلك ابتداء وجهان:

1 أن يكون هو النبي صلي الله عليه و آله و يكون قوله (قال) عطفا علي قوله (قضي رسول الله).

2 أن يكون هو الامام الصادق عليه السلام و يكون قوله (قال) عطفا علي قوله (قال قضي رسول الله) و يكون مقصوده عليه السلام من إضافة هذه الجملة علي حكاية قضاء النبي صلي الله عليه و آله في الجملة الأولي بيان حكمة تشريع الشفعة، كما أن مقصوده عليه السلام بإضافة الجملة الثالثة توضيح معني الشركاء في الجملة الأولي و بيان أن المراد به المالك للكسر المشاع كما ذهب إليه المحدثون من العامة، خلافا لغيرهم ممن ذهبوا إلي ثبوت حق الشفعة للشريك المقاسم و الجار و نحوهما.

______________________________

(1) رسالة لا ضرر و لا ضرار تقريرات المحقق النائيني ص 194، نهاية الدراية للمحقق الأصفهاني 2/ 322.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 32

و الظاهر من الحديث هو الوجه الأول أما (أولا) فلان الظاهر من الرواية أن (قال) في الجملة الثانية معطوف علي أقرب فعل سبقه مما يصلح أن يكون معطوفا عليه و هو (قضي) لا علي ما قبله و هو (قال) في الجملة الأولي، و أما (ثانيا) فلمعروفية صدور هذه الجملة (لا ضرر و لا ضرار) عن النبي صلي الله عليه و آله لدي الفريقين مما يوجب انصراف القول إليه صلي الله عليه و آله ما لم يصرح بخلافه. و يقوي ظهور الحديث

في هذا الوجه بناء علي رواية الفقيه من إسناد الجملة الثالثة إلي الصادق عليه السلام، فإنه لو كان قائل الجملة الثانية هو الصادق عليه السلام أيضا لما كان هناك وجه لتغيير سوق الكلام في الجملة الثالثة دون الثانية بل كان العكس هو الأنسب، فالتصريح في الجملة الثالثة بعد الإضمار في الجملة الثانية يعين كون القائل في الجملة الثانية هو النبي صلي الله عليه و آله. إلا أن الشأن في إثبات وقوع التصريح بالقائل في الجملة الثالثة من هذه الرواية بمجرد نسخة الفقيه إذ لم يرد في نقل الكافي و التهذيب، و لا يمكن ترجيح نسخة الفقيه علي نسختهما إلا بناء علي تقديم أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة علي أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة و لكن هذا لم يثبت بدليل واضح كما سيأتي إن شاء الله تعالي. هذا مع إن الجملة الثالثة منقولة في كتب العامة عن النبي صلي الله عليه و آله أيضا فيقوي احتمال أن يكون إسنادها إلي الصادق عليه السلام في نسخة الفقيه اجتهادا من الصدوق (قده) أو بعض من تقدمه من الرواة. و ربما يرجح الاحتمال الثاني في الرواية أي كون فاعل قال في الجملة الثانية هو الصادق عليه السلام بأن الفيض الكاشاني نقل في

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 33

الوافي «1» قوله (قال) من الجملة الثانية معقبا بقوله عليه السلام، و هذا يناسب كون القائل هو الامام عليه السلام لا النبي صلي الله عليه و آله و إلا لقال صلي الله عليه و آله كما هو المعهود بالنسبة إلي النبي صلي الله عليه و آله في الروايات.

و لكن يرد عليه أولا بأنه لم يعلم وجود هذه الجملة

أي عليه السلام في نقل عقبة بن خالد فربما كانت إضافة من النساخ أو من صاحب الوافي (قده) استظهارا، و ثانيا إن استعمال جملة عليه السلام بالنسبة إلي النبي صلي الله عليه و آله مذكور في بعض الموارد «2» كما يظهر ذلك بالتتبع فلا ينبغي أن يعد ذلك مرجحا للاحتمال الثاني. فتلخص مما ذكرناه أن الرواية ظاهرة في كون قائل الجملة الثانية كالأولي هو النبي صلي الله عليه و آله.

النقطة الثانية [هل إن الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية أو إنه من قبيل الجمع في المروي]

في أنه بعد ما ثبت أن الجملة الثانية كالأولي من كلام النبي صلي الله عليه و آله فينبغي أن يبحث هل إن الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية أي أن النبي صلي الله عليه و آله جمع بين قضائه بثبوت الشفعة للشركاء و بين قوله (لا ضرر و لا ضرار)، أو إنه من قبيل الجمع في المروي فيكون من قبل الامام عليه السلام أو الراوي؟. ففي المقام ثلاثة احتمالات:

1 أن يكون الجمع من قبل النبي صلي الله عليه و آله.

2 أن يكون من قبل الامام عليه السلام.

3 أن يكون من قبل الراوي عنه.

______________________________

(1) الوافي مجلد 3 جزء 10/ 103

(2) الفقيه 4/ 258 و في الوسائل 30: 150 و اعلم إنه إذا أطلق في الرواية لفظ (قال عليه السلام) فالمراد به النبي. إلخ.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 34

و الفارق بين هذه الاحتمالات إنه علي الاحتمال الأخير لا يجب فرض ترابط بين مضمون الجملتين فإنهما علي هذا الاحتمال روايتان مختلفتان جمع الراوي بينهما في النقل. و أما علي الاحتمالين الأولين حيث يكون الجمع من قبل النبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام فلا بد من فرض ترابط بينهما في المفاد

كما هو واضح فإنه إذا كان الجمع من قبل النبي صلي الله عليه و آله فلا بد أن يفرض إن الجملة الثانية تتكفل لبيان حكمة تشريع الشفعة، و كذا إذا كان الجمع من قبل الامام عليه السلام فإنه لا بد أن يفرض إن إضافة الجملة الثانية جاءت بيانا لحكمة التشريع أو بغرض تأييد ثبوت الجملة الأولي عن النبي صلي الله عليه و آله بانسجامنا مع القول المعروف عنه من أنه (لا ضرر و لا ضرار) من باب التطبيق لقاعدة الأخذ بشواهد الكتاب و السنة في تقويم الأحاديث كما صرحت بذلك الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام «1». هذه هي الاحتمالات المتصورة. و أما الترجيح بين هذه الاحتمالات: فالظاهر أن أضعفها الاحتمال الأخير أي احتمال كون الجمع بين الجملتين من قبل الراوي، إذ لو كان كذلك لكرر كلمة (قال) مرتين عند نقله الجملة الثانية حتي يقع قول النبي صلي الله عليه و آله هذا مقولا لقول آخر من الامام عليه السلام، فظاهر عدم تكرار لفظة (قال) إن قوله صلي الله عليه و آله

______________________________

(1) و قد عقد في الكافي 1/ 55 بابا لذكر هذه الروايات كما فعل من قبله البرقي في المحاسن، و قد بحث السيد الأستاذ مد ظله عن مفاد هذه الاخبار في أبحاثه الأصولية في بحث حجية الخبر الواحد و تعارض الأدلة الشرعية و انتهي إلي تفسيرها بتفسير مختلف عن التفسير المتعارف لدي المتأخرين و هو إنها تنبط اعتبار الحديث لان كان صحيحا سندا بانسجام محتواه مع المبادئ الشرعية الثابتة بالكتاب و السنة و سيأتي لهذا توضيح في الفصل الثالث من هذا الكتاب.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 35

و قضاءه معا

كانا مقولين لقول واحد من الامام عليه السلام مما يعني إن الجمع بينهما إنما كان من قبله عليه السلام إما ابتداء أو تبعا لجمع النبي صلي الله عليه و آله بينهما. و بعد سقوط الاحتمال المزبور يدور الأمر بين الاحتمالين الأولين و لعل أقربهما هو الاحتمال الأول أي كون الجمع بين قضاء النبي صلي الله عليه و آله و قوله إنما جاء من قبله صلي الله عليه و آله نفسه.

البحث الثاني: في أنه بعد أن ثبت أن مقتضي ظاهر الحديث هو الارتباط
اشارة

بين الحكم بثبوت الشفعة و بين كبري لا ضرر و لا ضرار فهل هناك قرائن خارجية توجب رفع اليد عن الظهور المذكور و تثبت أن الجمع بين الجملتين إنما كان من قبل الراوي للحديث و هو عقبة بن خالد أم لا؟ قولان: ذهب إلي الأول العلامة شيخ الشريعة و وافقه فيه جمع من تأخر عنه فقالوا إن هناك قرائن تشهد علي أن الجمع بين الجملتين إنما جاء من قبل عقبة بن خالد، و إنه لا ارتباط بين كبري لا ضرر و لا ضرار و الحكم بثبوت الشفعة للشركاء في الأرضين و المساكن. و لكن الصحيح عندنا هو القول الثاني لعدم تمامية تلك الشواهد المدعاة بل هناك بعض القرائن المساندة لظهور الحديث في الارتباط بين الجملتين. منها إن كون الجمع بينهما من قبل الراوي لا ينسجم مع تكرار (لا ضرر و لا ضرار) بعد حديث منع فضل الماء كما سيأتي في القضية الثالثة فإنه لو كان عقبة بن خالد هو الذي اتبع ذكر قضائه صلي الله عليه و آله بالشفعة بحديث آخر عنه صلي الله عليه و آله هو حديث (لا ضرر و لا ضرار) فلما ذا كرر ذكر هذا الحديث مرة أخري بعد حديث منع

فضل الماء؟ و أي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 36

مبرر لهذا التكرار ما دام يفترض عدم الارتباط بينه و بين ذينك الحديثين أي حديث الشفعة و حديث منع فضل الماء-، فالتكرار المذكور قرينة واضحة علي إن تعقيب حديث الشفعة بحديث لا ضرر إنما كان لأجل الارتباط بينهما بملاحظة الجمع بينهما من قبل النبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام.

و أما ما يمكن أن يستشهد به للقول الأول فوجوه:
الوجه الأول: ما ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) في رسالته
اشارة

«1» قائلا: يظهر بعد التروي و التأمل التام في الروايات أن الحديث الجامع لاقضية رسول الله صلي الله عليه و آله و ما قضي به في مواضع مختلفة و موارد متشتتة كان معروفا، عند الفريقين. أما من طرقنا فبرواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام. و أما من طرق أهل السنة فبرواية عبادة بن الصامت فقد روي أحمد بن حنبل في مسنده الكبير الجامع لثلاثين ألف عن عبادة بن الصامت «2» قال إن من قضاء رسول الله أن المعدن جبار و البئر جبار و العجماء جرحها جبار. و قضي في الركاز الخمس، و قضي إن ثمر النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع. و قد نقل (قدس سره) هذا الحديث بطوله و هو يشتمل علي عشرين قضاء، و جاء في السادس منها (و قضي بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و الدور)، و جاء في الخامس عشر منها (و قضي أن لا ضرر و لا ضرار، كما جاء في السابع عشر و الثامن عشر منها (و قضي بين أهل المدينة في النخل: لا

______________________________

(1) رسالة لا ضرر و لا ضرار: 28 34.

(2) روي حديث عبادة هذا في صحيح أبي عوانة و المعجم الكبير للطبراني أيضا كما جاء في مختصر كنز العمال بهامش

مسند أحمد 2/ 203.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 37

يمنع نقع بئر و قضي بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلا) «1». و قال رحمه الله بعد نقل الحديث (و هذه الفقرات كلها أو جلها مروية من طرقنا، موزعة علي الأبواب و غالبها برواية عقبة بن خالد و بعضها برواية غيره، و جملة منها برواية السكوني، و الذي أعتقده إنها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام إلا إن أئمة الحديث فرقوها علي الأبواب). ثم تعرض (قده) لتخريج هذه القضايا من طرقنا إلا إنه لم يخرج من القضايا العشرين التي وردت في خبر عبادة سوي اثني عشر، منها سبعة عن عقبة بن خالد و هي ثلاثة موارد مضافا إلي الموارد التي ذكرناها مما اختلف فيه النقلان و خمسة لم يذكر الراوي لها. ثم قال ره: قد عرفت بما نقلنا مطابقة ما روي في طرق القوم مع ما روي من طرقنا من غير زيادة و نقيصة، بل بعنوان تلك الألفاظ غالبا إلا الحديثين الأخيرين المرويين عندنا من غير زيادة قوله (لا ضرر و لا ضرار) و تلك المطابقة بين الفقرات مما يؤكد الوثوق بأن الأخيرين أيضا كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر، و أن غرض الراوي إنه صلي الله عليه و آله قال كذا و قال كذا، لا أنه كان متصلا به و في ذيله مما يرجع إلي إنه كان حديث الشفعة مذيلا بحديث الضرر و كذلك الناهي عن منع فضل الماء و أسقطهما عبادة بن الصامت في نقله و إنه روي جميع الفقرات مطابقة للواقع إلا الفقرتين من

غير خصوصية فيهما، و لا تصور نفع له أو ضرر عليه في النقل للذيل و تركه. ثم قال قده: و بعد هذا كله: فظهور كون هذا الذيل متصلا بحديث

______________________________

(1) مسند أحمد 5: 326 327.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 38

الشفعة حال صدوره ليس ظهورا لفظيا وضعيا لا يرفع اليد عنه إلا بداع قوي و ظهور أقوي، بل هو ظهور ضعيف يرتفع بالتأمل فيما نقلناه، سيما مع ما علم من استقراء رواياته أي روايات عبادة من إتقانه و ضبطه و ما صرحوا به إنه كان من أجلاء الشيعة. ثم ذكر (ره) بعض ما يدل علي جلالة عباده و شهادته المشاهد مع النبي صلي الله عليه و آله و رجوعه بعده إلي أمير المؤمنين عليه السلام. و ملخص ما أفاده (قدس سره) إنه و إن كان ظاهر رواية عقبة إن كبري لا ضرر كانت ذيلا لحديثي الشفعة و منع فضل الماء في مرحلة سابقة علي نقل عقبة، إلا إنه يجب رفع اليد عن هذا الظهور الذي هو ضعيف أساسا بملاحظة أن أقضية النبي صلي الله عليه و آله قد روي بطريق العامة عن عبادة بن الصامت و لم يذكر فيها هذه الكبري ذيلا لحديثي الشفعة و منع فضل الماء بل جاء ذكرها قضاء مستقلا، و حيث إن عقبة بن خالد قد روي أيضا أقضية النبي صلي الله عليه و آله كما يدل علي ذلك وجود جملة منها منقولة عنه في الجوامع الحديثية الموجودة بأيدينا و المظنون أنها كانت مجتمعة في روايته و إنما فرقها أصحاب الكتب ليلحقوا كل قضية ببابها فيستنتج من ضم هذا إلي ذاك أن الجمع بين حديثي الشفعة و منع فضل الماء

و حديث لا ضرر في رواية عقبة إنما هو من قبيل الجمع في الرواية علي حذو ذلك في حديث عبادة. هذا ملخص كلامه قدس سره في هذا الوجه و قد وافقه عليه جمع من المحققين «1». و لتحقيق ما أفاده (ره) لا بد من البحث:

______________________________

(1) لاحظ رسالة لا ضرر و لا ضرار تقريرات المحقق النائيني: 194، و نهاية الدراية للمحقق الأصفهاني 2/ 322.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 39

أولا عن مدي اعتبار أصل حديث عبادة بن الصامت. و ثانيا عما يقتضيه الموقف في الحكم بينه و بين حديث عقبة بن خالد

فهنا جهتان:
الجهة الاولي: في اعتبار حديث عبادة و عدمه
اشارة

، و يلاحظ بهذا الشأن أمور

الأول: أنه لو ثبتت وثاقة عبادة بن الصامت

كما ذكره العلامة شيخ الشريعة قده فلا طريق لنا لإثبات وثاقة غيره من رجال سند الحديث المذكور، لأنهم من رجال العامة غير المذكورين في كتبنا، فلا تجدي وثاقة عبادة وحده في إمكان الاعتماد علي حديثه هذا بعد عدم نقله بطريق معتبر عندنا.

الثاني: إن هذا الحديث لم تثبت صحته

حتي عند العامة الذين رووه و أثبتوه في كتبهم فإنه حديث مرسل منقطع الاسناد كما تعرض لذلك جملة من علمائهم فإن إسحاق الراوي عن عبادة بن الصامت حديثه هذا لم يدركه، كما نص علي ذلك البخاري و الترمذي و ابن عدي و غيرهم «1».

الثالث: إن ما ذكره (قدس سره) من معروفية أقضية النبي صلي الله عليه و آله مجتمعة عند العامة

برواية عبادة بن الصامت لم يقترن بشاهد أصلا بل ربما كانت الشواهد علي خلافه، و يظهر ذلك بملاحظة سند الحديث و مصدره. أما عن سند الحديث فلانة قد تفرد بنقل هذه الأقضية مجتمعة عن

______________________________

(1) كما في تهذيب التهذيب 1/ 224 و تحفة الاشراف 4: 239 و ابن ماجة 2: 784 ذيل الحديث 2340.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 40

عبادة: إسحاق بن يحيي و تفرد بروايتها عن إسحاق موسي بن عقبة، فليس لها حظ من الشهرة الروائية. و أما عن مصدر الحديث فلان هذا الحديث لم يوجد بطوله في مجاميعهم الحديثية المهمة كالصحاح الستة بل لم ينقل في شي ء من صحاحهم جملة (لا ضرر و لا ضرار) إلا في سنن ابن ماجة «1» كما أن كثيرا من فقرأتها الأخري غير مذكورة فيها، فكيف يدعي مع ذلك شهرته و معروفيته عندهم. نعم ورد ذكره في مسند أحمد و صحيح أبي عوانة و معجم الطبراني و لكن هذه الكتب الثلاثة ليست بتلك الأهمية و الاعتبار عندهم، و أشهرها مسند أحمد الذي اطلع العلامة شيخ الشريعة علي تضمنه لهذا الحديث، غير أن المسند تدور حوله جملة من الشبهات: (منها) إنه بصورته المعروفة ليس من جمع أحمد بن حنبل و لذا لم يروه عنه تلامذته من غير أهل بيته لانما نقله عنه أهل بيته خاصة سيما ابنه عبد الله، فعن شمس الدين الجزري: إن

الامام أحمد شرع في جمع المسند لكنه في أوراق متناثرة و فرقه في أجزاء منفردة علي نحو ما تكون المسودة ثم توقع حلول المنية قبل حصول الامنية فبادر بإسماعه لأولاده و أهل بيته و مات قبل تنقيحه و تهذيبه فبقي علي حاله ثم جاء بعده ابنه عبد الله فألحق به ما يشاكله و ضم إليه من مسموعاته ما يشابهه و يماثله «2». و منها: إن المسند الموجود بأيدينا ليس جميعه من رواية أحمد بل لابنه

______________________________

(1) سنن ابن ماجة 2/ 784/ 2340 و 1341.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية محمود أبو زهرة 2/ 524 525.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 41

عبد الله فيه إضافات كثيرة قيل إنها نحو عشرة آلاف «1»، كما قيل إن لأحمد ابن جعفر القطيعي الراوي عن ابنه عبد الله بعض الزيادات «2». و ربما كانت روايتنا هذه مما ألحقه عبد الله بن أحمد بمسند أبيه «3» فإنه رواها أولا عن غير أبيه قال حدثنا أبو كامل الجحدري، حدثنا الفضيل بن سليمان قال: (حدثنا موسي بن عقبة، عن إسحاق بن يحمص بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن عبادة قال: إن من قضاء رسول الله صلي الله عليه و آله. إلخ، ثم نقلها عن أبيه، عن الصلت بن مسعود، عن الفضيل بن سليمان. إلخ).

الجهة الثانية: في المقارنة بين حديث عبادة بن الصامت و حديث عقبة ابن خالد
اشارة

و أنه هل ينبغي توجيه الثاني بما يوافق الأول من حيث كون حديث لا ضرر و لا ضرار قضاء مستقلا لا ربط له بحديث الشفعة و لا بغيره كما صنعه العلامة شيخ الشريعة (قده) أم لا، لعدم تمامية ما أفاده بهذا الصدد؟ الظاهر هو الثاني لعدة ملاحظات

أولاها: ما تقدم بيانه آنفا من أن حديث لا ضرر مذكور في رواية عقبة مرتين:

تارة عقيب حديث الشفعة و أخري عقيب حديث منع فضل الماء، و لا يمكن تخريج ذلك مع البناء علي أنه كان قضاء مستقلا في رواية عقبة كما هو كذلك في رواية عبادة فإنه لا معني لتكرار قضاء واحد في مجموعة واحدة، فتكرر جملة لا ضرر و لا ضرار خير دليل علي كونها مرتبطة بالحديثين المذكورين قبلها و ذيلا لهما، و لو كانت قضاء مستقلا لاقتصر عقبة علي

______________________________

(1) علوم الحديث و مصطلحه لصبحي صالح: 395.

(2) علوم الحديث و مصطلحه لصبحي صالح: 395.

(3) و من هنا نسب جماعة من علماء العامة هذا الحديث أو بعض قطعه إلي زيادات عبد الله في مسند أبيه (منهم) السيوطي في جمع الجوامع كما جاء في كنز العمال الذي هو مرتب جمع الجوامع 4/ 61 62 ح 9519، و (منهم) ابن تيمية صاحب منتقي الاخبار، لاحظ نيل الأوطار: 5/ 385 و 388.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 42

ذكرها مرة واحدة عقيب أحدهما كما هو واضح.

ثانيتها: إن الأنسب بمعني (لا ضرر و لا ضرار)

وعده من أقضية النبي صلي الله عليه و آله أن يكون قد ألقي في مورد خاص كما ورد في رواية عقبة لا أن يكون كلاما مستقلا قد ألقي ابتداء كما تضمنه حديث عبادة، و سيأتي لهذا توضيح في الجواب عن الوجه الثاني.

ثالثتها: إنه لم يثبت ما ذكره قدس سره من أن عقبة بن خالد قد روي أقضية النبي صلي الله عليه و آله مجتمعة

كما فعل عبادة ليتم ما استظهره (قده) بناء علي ذلك من إن الجمع بين حديث لا ضرر و حديث الشفعة جاء نتيجة للجمع بين أقضية النبي صلي الله عليه و آله في رواية عقبة لا لكونه ذيلا له كما يوهمه ظاهر روايته. فإن الذي ثبت روايته عن عقبة من القضايا العشرين التي رواها عبادة إنما هي سبع قضايا فقط، و هذا المقدار لا يدل بوجه علي ما ادعاه (ره) من إن عقبة نقل أو تصدي لنقل أقضية النبي صلي الله عليه و آله مجتمعة. و من الغريب ما أفاده (قده) من معروفية الأقضية المذكورة لدي الخاصة عن طريق عقبة رغم انحصار الراوي عنه بمحمد بن عبد الله بن هلال، و عدم ثبوت نقله لاغلبها، و عدم رواية المنقول منها مجتمعا في شي ء من مصادر الحديث الموجودة بأيدينا. فدعوي اشتهار أقضية النبي صلي الله عليه و آله لدي الخاصة من طريق عقبة تماثل دعوي اشتهارها لدي العامة من طريق عبادة الذي تقدم بيان ضعفه.

رابعتها: إنه (قدس سره) استبعد تذييل قضاء النبي صلي الله عليه و آله

في موردي حديث الشفعة و منع فضل الماء بكبري (لا ضرر و لا ضرار) مع عدم رواية عبادة لها قائلا إن لازم ذلك أنه روي جميع فقرأت الحديث

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 43

مطابقة للواقع إلا الفقرتين من غير خصوصية فيهما و لا تصور نفع له أو ضرر عليه في النقل للذيل و تركه. و لكن هذا الاستبعاد في غير محله، لان مجرد عدم تصور نفع له في الترك أو ضرر عليه في النقل لا يقوم حجة علي عدم وجود الذيل واقعا، إذ ترك نقل بعض الحديث قد ينشأ من عدم العناية به أو عدم التنبه له أو نسيانه. إلي

غير ذلك من العوامل و الأسباب و لا ينحصر بالنفع و الضرر الشخصي.

خامستها: إن أحاديثنا أوثق نوعا في كيفية النقل من أحاديث العامة

و أقرب إلي الصحة و الاعتبار، و ذلك مما أوضحناه في مبحث (تاريخ تدوين الحديث) من مباحث حجية خبر الواحد من إن تدوين الأحاديث عند العامة، قد تأخر عن عصر صاحب الرسالة صلي الله عليه و آله بما يزيد علي مائة عام، مما استتبع ذلك اتكاء رواتهم علي الحفظ في نقل الروايات، و معلوم إن ذلك يفضي في حالات كثيرة إلي إهمال خصوصيات الكلام، لأن ذاكرة الرواة غير المعصومين لا تستوعب عادة جميع خصوصيات الرواية و ملابساتها. و هذه العلة لا توجد في رواياتنا بالشكل الذي يوجد في روايات العامة، لأن رواياتنا متلقاة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام و خصوصا الصادقين عليهما السلام، و قد تم تأليف الكثير من الأصول و الكتب و المصنفات في عصرهما. و علي ضوء هذا فلا يستبعد في المقام أن يكون عدم ذكر كبري لا ضرر و لا ضرار في رواية عبادة في ذيل حديثي الشفعة و منع فضل الماء، و ذكرها مستقلا مستندا إلي توهم بعض رواة تلك الرواية كونها قضاء مستقلا، و يكون ذكرها في رواية عقبة في ذيل الحديثين استدراكا من الامام عليه السلام لما فات رواة العامة من الحديث، و تكميلا لما حدث فيه من النقص.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 44

فعلي هذا الأساس فرواية عقبة أحق بالاعتماد من حديث عبادة في كيفية النقل. هذا كله مضافا إلي أن المقام داخل في كبري دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة، إذ يدور أمر حديثي الشفعة و منع فضل الماء بين أن يكونا مشتملين علي كبري لا ضرر و لا ضرار كما

في رواية عقبة و عدمه كما في رواية عبادة-، و مقتضي ما ذهب إليه العلامة شيخ الشريعة (قدس سره) من ترجيح جانب الزيادة في أمثال ذلك هو ترجيح رواية عقبة لا عبادة. نعم، هذا لا يتجه علي المختار علي ما سيأتي توضيحه من عدم ثبوت ترجيح جانب الزيادة عند دوران الأمر بينها و بين النقيصة بل العبرة في الترجيح بتوفر القرائن و المناسبات التي تورث الاطمئنان. و لا يبعد ثبوت الزيادة إذا كانت جملة تامة الدلالة مع ورودها في خبر صحيح. و كيف كان فقد ظهر بما تقدم عدم تمامية هذا الوجه الذي ذكره (قده) كقرينة خارجية علي كون الجمع بين حديثي الشفعة و منع فضل الماء و كبري لا ضرر من قبل الراوي.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره)

«1» من إنه لو كان لا ضرر و لا ضرار من تتمة قضية أخري في رواية عقبة لزم خلو رواياته الواردة في الأقضية عن هذا القضاء، الذي هو من أشهر قضاياه صلي الله عليه و آله لانه لو كان تتمة لقضية أخري لا يصح عده من قضاياه صلي الله عليه و آله مستقلا. و يرد عليه: أولا: إنه لم يثبت كون هذا القضاء من أشهر قضاياه صلي الله عليه

______________________________

(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 194.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 45

و آله في العصر الأول، و قياس العصور المتأخرة بالعصر الأول في غير محله. و ثانيا: إن ما ذكره (ره) مبني علي أن عقبة بن خالد قد روي جميع أقضية النبي صلي الله عليه و آله أو معظمها، فيقال حينئذ إنه إذا كان قد أورد (لا ضرر) في ذيل حديثي الشفعة و منع فضل الماء، فهذا يعني أنه

قد فاته أن ينقل قضاء مستقلا من أشهر أقضية النبي صلي الله عليه و آله مع أنه نقل معظم أقضية النبي صلي الله عليه و آله و هو بعيد. و لكن قد ذكرنا فيما سبق إنه لم تثبت رواية عقبة إلا للقليل من أقضية النبي صلي الله عليه و آله فلا يتجه الاستبعاد المذكور. و ثالثا: أن كون (لا ضرر) قضاء لا ينافي وقوعه في ضمن مورد خاص حتي يرجع عدم نقله في غير ذلك المورد من قبل عقبة إلي عدم نقله له كقضاء، بل يمكن أن يقال إن الأنسب بعده قضاء أن يكون قد ألقي في واقعة خاصة لا ابتداء، لان الكلام الابتدائي لا يعبر عنه إنه من قضايا المتكلم بل يقال إنه من حكمه أو من جوامع كلمه. و يشهد لهذا كلمات بعض متقدمي الأصوليين كالشيخ في العدة و الشهيد في تمهيد القواعد حيث ناقشا في استفادة العموم من الروايات المتضمنة لقوله (قضي رسول الله صلي الله عليه و آله.) علي أساس أنها تحكي عن أحكام ذكرت في موارد جزئية فلا يمكن أن يستفاد منها العموم، و أنها من جوامع كلمه صلي الله عليه و آله بل هي قضاء في مورد خاص. قال الشيخ في العدة بعد ما فرق بين عبارة (قضي رسول الله صلي الله عليه و آله بالشاهد و اليمين) و بين عبارة (قضي أن الخراج بالضمان و إن الشفعة للجار)، بأنه يفهم من الأول حكاية فعل له صلي الله عليه و آله لا غير، و لكن السابق إلي الفهم من الأخير أنه صلي الله عليه و آله قال ذلك قولا لا إنه عمل به فحسب قال: إلا أنه و إن

كان كذلك فهو لا يقتضي صحة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 46

التعلق به لانه لا يعلم إنه قال ذلك بلفظ يقتضي العموم، أو بقول يقتضي الخصوص و يفيد الحكم في تلك العين، و إذا كان كذلك صار مثل الأول في أنه ينبغي أن يلحق بالمجمل، و إذا ثبتت هذه الجملة فيما روي إنه قضي بالشاهد و اليمين و إن الخراج بالضمان لما قلناه، إلا أن يدل دليل علي إلحاق غيره به فيحكم به «1». و قال الشهيد الثاني في تمهيد القواعد «2»: قول الصحابي مثلا إنه نهي رسول الله صلي الله عليه و آله عن بيع الغرر و قضي بالشاهد و اليمين، لا يفيد العموم علن تقدير دلالة المفرد المعرف علي العموم، لأن الحجة في المحكي و هو كلام الرسول لا في الحكاية، و المحكي قد يكون خاصا فيتوهم عاما، و كذا قوله (سمعته يقول قضيت بالشفعة للجار) لاحتمال أن تكون (ال) للعهد، كذا قال في المحصول و تبعه عليه مختصروا كلامه و غيرهم من المحققين، إلي آخر ما ذكره في ذلك.

الوجه الثالث: ما أشار إليه المحقق النائيني (قده) و أوضحه السيد الأستاذ (قدس سره)

من أن حديث لا ضرر إنما يمكن اعتباره ذيلا لحديث الشفعة إذا كان مصححا لجعل حق الشفعة بحسب مفاده و محتواه، و لكنه ليس كذلك لان مفاده هو نفي الحكم الضرري أما ابتداء أو بلسان نفي الموضوع، و الضرر في مورد ثبوت حق الشفعة إنما يأتي من قبل بيع الشريك حصته، فلو كان ذلك موردا لقاعدة (لا ضرر) لزم الحكم ببطلان البيع، و لو كان الضرر ناشئا من لزوم البيع لزم الحكم بثبوت الخيار بأن يكون له حق رد المبيع إلي البائع، و أما جعل حق الشفعة له لجبران الضرر و

تداركه بأن ينقل المبيع إلي ملكه فهو إنما يكون مستندا إلي قاعدة (لا ضرر) إذا كانت دالة

______________________________

(1) عدة الأصول 1/ 147 مخطوط.

(2) تمهيد القواعد ذيل القاعدة (57).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 47

علي جعل حكم يتدارك به الضرر و لكنها لا تدل علي ذلك و إنما تدل علي نفي الحكم الضرري «1». و يلاحظ عليه: أولا: إن إيراد هذه القاعدة بعد حديث الشفعة باعتبار تناسب الجملة الثانية منها أي قوله صلي الله عليه و آله (لا ضرار) مع حق الشفعة بأن تكون حكمة لجعل حق الشفعة علي ما سيأتي توضيحه في الجواب عن الوجه الرابع و علي هذا فلا يتوقف ارتباط القاعدة بحديث الشفعة علي تفسير (لا ضرر) بوجه يقتضي جعل الحكم الذي يتدارك به الضرر لكي يقال إن حديث لا ضرر لا يدل علي ذلك. و ثانيا: إن مرجع الوجه المذكور إلي إنه لما كان المختار في معني (لا ضرر) هو نفي الحكم الضرري دون غيره من المعاني التي سيأتي البحث عنها، و هو لا يناسب الترابط بين الجملتين علي ما هو ظاهر الكلام، فلا بد من رفع اليد عن هذا الظهور و اعتبار الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية، و هذا الكلام لا يخلو عن غرابة، لأنه يمكن أن يقال بأن نفس ورود هذه الجملة في ذيل حديث الشفعة قرينة علي كون معناها غير نفي الحكم الضرري، و لا وجه لاختيار معني للجملة مسبقا كأصل مفروض من دون ملاحظة القرائن المحتفة بها، ثم الاعتراض علي ترابط الجملة مع حديث الشفعة بعدم انسجام ذلك مع هذا المعني، و استكشاف كون الجمع بينهما من قبيل الجمع في الرواية، بل الأحري أن يعكس

الأمر فيجعل ظهور الكلام في ترابط الحديث مع قوله (لا ضرر و لا ضرار) المذكورة ذيلا له من وجوه ضعف استظهار ذلك المعني من جملة (لا ضرر) كما هو واضح.

______________________________

(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 195، و مصباح الأصول 2/ 521.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 48

و ثالثا: إنه لو فرضنا إن قوله (لا ضرر) في قضية سمرة مثلا بمعني نفي الحكم الضرري، لا بمعني جعل الحكم الذي يتدارك به الضرر، و لكن لا مانع من كونه في ذيل حديث الشفعة بهذا المعني الثاني إذا كان هذا الحديث بما له من الظهور السياقي لا يساعد مع المعني الأول، فيختلف معناه بحسب اختلاف الموردين، إذ لا موجب للالتزام بوحدة المراد منه في جميع الموارد، حتي يكون ظهوره في المعني الأول في سائر الموارد مقتضيا لإرادته في ذيل حديث الشفعة أيضا ليستلزم ذلك انفصاله عن معني هذا الحديث و سياقه فتدبر.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) و ذكر بعضه في كلام السيد الأستاذ (قده) أيضا
اشارة

«1»، و حاصله: إن الترابط بين (لا ضرر) و بين جعل حق الشفعة إما بلحاظ كون الأول علة للثاني، أو بلحاظ كونه حكمة لتشريعه و كلاهما باطل.

أما الأول: فلان الضرر إذا كان علة للحكم بثبوت حق الشفعة فلا بد أن يدور هذا الحكم مداره وجودا و عدما

، لان هذا شأن العلة كما في قولنا (لا تأكل الرمان لانه حامض)، مع إن هذا غير متحقق في المقام بلا إشكال فإن الحكم بالشفعة غير محدد بترتب الضرر الشخصي للشريك من البيع، بل بين موارد ثبوت حق الشفعة و تضرر الشريك بالبيع عموم و خصوص من وجه، فربما يتضرر الشريك و لا يكون له حق الشفعة، كما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين، و قد يثبت حق الشفعة بلا ترتب ضرر علي أحد الشريكين ببيع الأخر، كما إذا كان الشريك البائع مؤذيا و كان المشتري ورعا بارا محسنا إلي شريكه، و ربما يجتمعان كما هو واضح. إذا لا يصح إدراج الحكم بثبوت

______________________________

(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 195، و مصباح الأصول 2/ 521.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 49

الشفعة تحت كبري (لا ضرر).

و أما الثاني: فلان وقوع الضرر علي الشريك أمر اتفاقي

، و علة التشريع و إن لم يعتبر كونها أمرا دائميا و لكنه يعتبر أن تكون أمرا غالبيا أو كثير الوقوع، فإن الضرر الاتفاقي ليس بتلك المثابة من الأهمية بحيث يجعل له حكم كلي لئلا يقع الناس فيه. و يلاحظ عليه أولا: إن ما ذكر من عدم علية ترتب الضرر بأن يكون تمام الموضوع للحكم بثبوت الشفعة و إن كان تاما إلا أن ما ذكر من عدم كونه حكمة له أيضا في غير محله فإن توجه الضرر إلي الشريك بانتقال حصة شريكه إلي شخص آخر ليس أمرا نادرا، بحيث لا يصلح أن يكون حكمة لتشريع حق الشفعة، بل نفس الشركة في العين بحد ذاتها أمر يوجب كون الشركاء في معرض الضرر ببغي بعضهم علي بعض، كما أشير إليه في الآية الكريمة (وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطٰاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ

عَليٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ) «1» بناء علي تفسير الخلطاء بالشركاء المختلطة أموالهم كما عن جمع من المفسرين. و قد أبطل في بعض القوانين الحديثة الوقف الذري معللا بأنه يوجب ركود الملك و تقليل منافعه و صيرورته مثارا للاختلاف و التضرر، و قد أفتي جمع من الفقهاء بجواز بيع الوقف عند اختلاف الموقوف عليهم، بحيث يخاف منه تلف الأموال و الأنفس. و قد علل في بعض الروايات عدم إرث الزوجة من العقار بأن ذلك احتراز من تزوجها برجل آخر فيفسد الميراث علي أهله، ففي صحيحة زرارة و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ترث النساء من عقار الدور شيئا و لكن يقوم البناء و الطوب و تعطي ثمنها أو ربعها، قال: و إنما ذلك

______________________________

(1) سورة ص 38/ 24.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 50

لئلا يتزوجن فيفسدن علي أهل المواريث مواريثهم «1». و الحاصل إن دعوي ندرة توجه الضرر إلي الشريك من عدم جعل حق الشفعة له لا يمكن المساعدة عليها. و يشهد لذلك إن كثيرا من فقهاء العامة قد عللوا ثبوت الشفعة بدفع الضرر، قال ابن رشد «2» (ذهب مالك و الشافعي و أهل المدينة إلي إنه لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم، و قال أهل العراق الشفعة مرتبة فأولي الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم ثم الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة، ثم الجار الملاصق، و قال أهل المدينة لا شفعة للجار و لا للشريك المقاسم)، ثم قال في ذكر احتجاج أهل العراق (و من طريق المعني لهم أيضا أنه لما كان المقصود بالشفعة دفع الضرر الداخل من الشركة،

و كان هذا المعني موجودا في الجار وجب أن يلحق به، و لأهل المدينة أن يقولوا وجود الضرر في الشركة أعظم منه في الجوار). و احتج السيد المرتضي (قده) علي العامة في شمول الشفعة لغير الأرضين لعموم العلة، و قال (و مما يمكن أن يعارضوا به إن الشفعة عندكم إنما وجبت لازالة الضرر عن الشفيع، و هذا المعني موجود في جميع المبيعات من الأمتعة و الحيوان، فإذا قالوا حق الشفعة إنما يجب خوفا من الضرر علي طريق الدوام، و هذا المعني لا يثبت إلا في الأرضين و العقارات دون العروض، قلنا في الأمتعة ما يبقي علي وجه الدهر مثل بقاء العقارات و الأرضين كالياقوت و ما أشبهه من الحجارة و الحديث، فيدوم الاستضرار بالشركة فيه، و أنتم لا توجبون فيه الشفعة، و بعد فإن إزالة الضرر الدائم أو

______________________________

(1) الوسائل 26: 208 ح 32842 باب 6.

(2) بداية المجتهد 2/ 256 257.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 51

المنقطع واجبة في العقل و الشرع، و ليس وجوب إزالتها مختصة بالمستمر دون المنقطع، فلو كان التأذي بالشركة في العروض منقطعا علي ما ادعيتم لكانت إزالته واجبة علي كل حال.) «1». و الحاصل إن دفع الضرر صالح لان يكون حكمة لتشريع حق الشفعة، و ليس ذلك بأقل من تشريع الحج للتفقه في الدين و بسط أمر الولاية أو تشريع العدة لأجل عدم اختلاط المياه، أو تشريع غسل الجمعة لازالة ريح الآباط و غير ذلك من الأمثلة المضروبة لما هو حكمة لجعل حكم شرعي. و ثانيا: إن لحاظ دفع الضرر حكمة لتشريع حق الشفعة لا يمنع من اعتبار (لا ضرر و لا ضرار) كبري كلية و قاعدة مستقلة في

حد نفسها، إذ لا مانع من أن يكون أمر واحد قد لوحظ حكمه بالنسبة إلي جعل حكم مع إنه بنفسه موضوع لحكم آخر، كما اتفق ذلك بالنسبة إلي القاعدة (لا حرج)، فإن عدم الحرج النوعي حكمة لعدم إيجاب السؤال مثلا كما دل عليه النص في حين إن الحرج الشخصي موجب لرفع كل حكم يلزم منه الحرج علي المكلف. و ثالثا: إن اعتبار (لا ضرر و لا ضرار) حكمة للحكم بثبوت الشفعة لا ينافي تفسيره بشي ء من المعاني التي فسر بها في كلمات الاعلام، و ذلك لأنه إن فسر بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الإضرار بالغير فغاية الأمر أن هذا المعني لا يتأتي في مورد حديث الشفعة، فلا بد أن يكون المقصود بقوله (لا ضرر و لا ضرار) في ذيل هذا الحديث مجرد نفي الضرر و الضرار كحكمة للحكم بثبوت الشفعة، و أما في غير هذا الحديث فلا مانع من تفسيره بغير ذلك فتأمل. و إن فسر بما هو المختار من أن مفاد (لا ضرر) هو نفي التسبيب إلي

______________________________

(1) الانتصار: 215.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 52

تحمل الضرر، و مفاد (لا ضرار) التسبيب إلي نفي الإضرار بالغير بما يشمل تحريم و تشريع ما يمنع من تحققه خارجا و جعل الاحكام الرافعة لموضوعه، فعلي هذا القول يمكن تطبيق نفس هذا المعني علي مورد حديث الشفعة بملاحظة الجملة الثانية أي (لا ضرار)، باعتبار إن الحكم بالشفعة بنفسه مثال للحكم الرافع لموضوع الإضرار بالغير كما اتضح ذلك مما تقدم. ثم إن ما ذكرناه من كون الارتباط بين قوله (لا ضرر و لا ضرار) و بين جعل حق الشفعة للشريك إنما هو بمناط كون (لا ضرر) حكمة

لجعل هذا الحق، لا مناص من الالتزام به لو كان الجمع بين حديث الشفعة و لا ضرر من قبل النبي صلي الله عليه و آله كما هو الأقرب، و أما علي الاحتمال الأخر الذي سبق أن ذكرناه من كون الجمع بينهما من قبل الامام عليه السلام، فبالامكان أن يخرج الارتباط بينهما علي وجه آخر، و قد أشرنا إليه فيما مضي أيضا و هو أن يكون ذكر (لا ضرر) بعد نقل قضاء النبي صلي الله عليه و آله بالشفعة من باب الأخذ بشواهد السنة لكون قوله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار) كلاما مشهورا عنه صلي الله عليه و آله، فأراد الإمام عليه السلام بذكره الاستشهاد لثبوت القضاء المذكور عنه صلي الله عليه و آله بتوافقه مع ذلك الكلام الثابت عنه صلي الله عليه و آله يقينا. هذا و قد تحصل من جميع ما تقدم إن الوجوه الأربعة التي ذكرت لدعوي عدم الارتباط بين قضاء رسول الله صلي الله عليه و آله بالشفعة و بين قوله لا ضرر و لا ضرار، خلافا لظاهر رواية عقبة بن خالد مما لا يمكن المساعدة عليها.

3 حديث منع فضل الماء

اشارة

. و قد رواه الكليني عن محمد بن يحيي، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله عليه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 53

السلام قال: قضي رسول الله صلي الله عليه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخيل إنه لا يمنع نقع البئر، و قضي بين أهل البادية إنه لا يمنع فضل ح ماء ليمنع به فضل كلا، و قال: لا ضرر و لا ضرار «1».

و

الكلام في هذا الحديث من جهات:
الجهة الاولي: في سنده

، و هو ضعيف علي غرار ما تقدم في سند حديث الشفعة فإن سندهما واحد، و قد سبق إن كلا من (محمد بن عبد الله ابن هلال) و (عقبة بن خالد) لم تثبت وثاقتهما عندنا و إن وثقهما بعض لرواية الأجلاء عنهما، أو لكونهما من رجال كامل الزيارات و شبه ذلك مما تقدم الاشكال فيه.

الجهة الثانية: في شرح مفادها إجمالا
اشارة

، أما قوله صلي الله عليه و آله في القضاء الأول (نقع البئر ففي النسخ التي رأيناها من الكافي (نقع الشي ء) بدل (نقع البئر و هو تصحيف كما نبه عليه في الوافي «2» و يشهد له مناسبة الحكم و الموضوع، مضافا إلي إن الرواية مذكورة في كتب العامة و فيها (نقع البئر) «3». قال ابن الأثير في النهاية «4» في شرح الحديث: فيه نهي أن يمنع نقع البئر أي فضل مائها لانه ينقع به العطش أي يروي (و شرب حتي نقع أي روي) و قيل النقع الماء الناقع و هو المجتمع، و منه الحديث لا يباع نقع البئر و لا رهو الماء و قال (رهو الماء مجتمعة). و أما قوله صلي الله عليه و آله في القضاء الثاني (لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلا)

ففي المراد به وجوه:
اشارة

______________________________

(1) الكافي 5/ 293 294 ح 6.

(2) الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 136.

(3) لاحظ مسند أحمد بن حنبل 5/ 327 و سنن ابن ماجة 2/ 828 و موطأ مالك 2/ 745 24 25 23.

(4) النهاية 5/ 108.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 54

الأول: إن الأعراب لما كانوا ينزلون إلي الماء و الكلأ

كانت طائفة منهم تأتي إلي الماء لحاجتها، و طائفة تأتي إلي الكلا لحاجتها فإذا منعت الطائفة الاولي من الماء امتنعت الطائفة الأخري من الكلا، فكان ذلك منعا لهم عن الكلا أيضا. و هذا الاحتمال ذكره في الوافي «1» و هو بعيد أولا لأن الحاجة إلي الماء و الكلأ مشتركة بين الجميع فلا وجه لفرض كونهم علي طائفتين، طائفة تحتاج إلي الماء و طائفة تحتاج إلي الكلا. و ثانيا إن ظاهره أن مصب النهي هو المنع من الماء بلحاظ أن من عواقبه غالبا ترك الكلاء مع أن ظاهر الحديث الارتباط بين الجملتين في تعلق النهي.

الثاني: إن المراد أن أصحاب الماء لو منعوا فضل مائهم منعهم الله من الكلا

ذكره في الوافي أيضا «2»، و هو بعيد كسابقه لان ظاهر السياق اتحاد فاعل (يمنع) في الجملتين أي إن مانع الماء هو مانع الكلا-، و بما إن ظاهر الجملة الاولي إن مانع الماء هم أصحابه فلا يناسب أن يكون مانع الكلا هو الله تعالي.

الثالث: إن المراد إنه لا يمنع قوم فضل مائهم عن الرعاة

، لأنه مستلزم لمنعهم عن الكلا المباح أيضا، فإن الرعاة إذا منعوا من الماء في أرض لم يأتوها للكلإ فقط، لحاجتهم إلي الماء و الكلأ في وقت واحد و لا يسعهم التفكيك بينهما، و هذا الوجه ذكره ابن حجر «3» قائلا (و المعني أن يكون حول البئر كلا ليس عنده ماء غيره، و لا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر، لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي، فيستلزم

______________________________

(1) الوافي المجلد 3 جزء 10/ 136.

(2) الوافي المجلد 3 جزء 10/ 136.

(3) فتح الباري 5/ 24 25.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 55

منعهم من الماء منعهم من الكلا) قال (و إلي هذا التفسير ذهب الجمهور) و فرع عليه إنه لو لم يكن هناك كلا يرعي فلا نهي عن المنع لانتفاء العلة، لأن هذا الوجه مبني علي أن يكون قوله (ليمنع به فضل كلا) علة للنهي عن منع فضل الماء بتقدير (لا) النافية فيه، فيكون المعني (لئلا يمنع به فضل كلا) و هذا هو الفارق بينه و بين الوجه الأول، فإن محصل الأول أن مصب النهي هو المنع من الماء بلحاظ أن من عواقبه ترك الكلا، لا أنه علة له، بينما مفاد هذا الوجه أنه لا نهي عن منع الماء إلا إذا كان سببا لمنع الكلا، و لذلك يكون هذا الوجه خلاف الظاهر جدا.

الرابع: إن المراد إنه لا يمنع قوم فضل الماء

المباح عن الرعاة لأجل أن يمنعوهم عن الكلا المباح احتفاظا به لأنفسهم فالمنع عن الكلا علي هذا الوجه علة للمنع من فضل الماء نفسه، لا علة للنهي عن منع فضل الماء كما في الوجه السابق و قد ذكر هذا المعني في الوافي «1» قائلا (قيل كان بعضهم

يمنع فضل الماء من مواشي المسلمين حتي لا تأكل مواشيهم العشب و الكلأ الذي حول مائه، فنهي عليه السلام عن المنع لانه لو منع لم ينزل حول بئره أحد فحرموا الكلا المباح حينئذ). و حكي ابن حجر هذا الوجه في موضع آخر من فتح الباري «2» عن المهلب قال: (قال المهلب المراد رجل كان له بئر و حولها كلا مباح و هو بفتح الكاف و اللام مهموز ما يرعي فأراد الاختصاص به، فيمنع فضل ماء بئره و أن ترده نعم غيره للشرب، و لا حاجة به إلي الماء الذي يمنعه و إنما حاجته إلي الكلا، و هو لا يقدر علي منعه لكونه غير مملوك له، فيمنع الماء فيتوفر له الكلا، لان النعم لا تستغني عن الماء بل إذا رعت الكلا عطشت

______________________________

(1) الوافي المجلد 3 جزء 10/ 136.

(2) فتح الباري 12: 296 طبعة أوفست لبنان علي طبعة بولاق في مصر.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 56

و يكون ماء غير البئر بعيدا عنها، فيرغب صاحبها عن ذلك الكلا فيتوفر لصاحب البئر بهذه الحيلة) ثم قال فمقتضي الحديث حينئذ إنه لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه، لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره كالمحافظة علي الكلإ فأولي أن لا يمنع بسبب نفسه.

و هذا الوجه هو المنساق من ظاهر الحديث فهو صحيح.

الجهة الثالثة: في ارتباط النهي عن منع فضل الماء بقوله (لا ضرر و لا ضرار) المذكور بعده

. و الكلام في هذه الجهة يقع تارة فيما يقتضيه ظاهر الحديث في نفسه، و أخري فيما تقتضيه القرائن الخارجية. أما ظاهر الحديث فمقتضاه الترابط بينهما علي حذو ما تقدم في حديث الشفعة لاتحادهما سياقا، و قد سبق إن الظاهر من مثل هذا السياق هو الارتباط بين الجملتين، و كون الجمع بينهما إما من قبل

النبي صلي الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام دون الراوي. و أما القرائن الخارجية فقد اختار العلامة شيخ الشريعة و جمع من المحققين أن مقتضاها عدم الترابط بين الجملتين و كون الجمع بينهما من قبل الراوي كما سبق ذلك في حديث الشفعة. و لكن يمكن لنا أن نقول كما تقدم نظيره في حديث الشفعة-: إن تكرار قوله (لا ضرر و لا ضرار) بعد حديث الشفعة و حديث منع فضل الماء جميعا، قرينة واضحة علي الارتباط بينه و بين كل منهما، فإنه لو كان المجمع من قبل الراوي لما كان لذكر حديث (لا ضرر و لا ضرار) مرتين مبرر أصلا. بل يمتاز المقام عن حديث الشفعة في إن قوله (لا ضرر و لا ضرار) ورد هنا معطوفا بالفاء في جملة من نسخ الرواية، و العطف بالفاء لا مصحح له لولا الارتباط بين الجملتين، فهو مرجح احتمالي لصالح القول بالارتباط، مع أن ورود العطف بالواو في بعض النسخ الأخري ليس مرجحا احتماليا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 57

للقول بعدم الارتباط، بل هو منسجم مع كلا القولين كما لا يخفي. و ربما يقال كما عن العلامة شيخ الشريعة (قده)- (بأن ما في بعض النسخ من عطف قوله (لا ضرر و لا ضرار) علي الجملة التي قبلها بالفاء تصحيف قطعا، لان النسخ الصحيحة المعتمدة في الكافي متفقة علي الواو) «1». أقول: المذكور في النسخ المطبوعة للكافي هو العطف بالواو «2» علي الجملة التي قبلها و لكن المذكور في الوسائل و الوافي و جملة من الكتب الناقلة لهذا الحديث كالعوائد للنراقي و الرسائل للشيخ الأعظم الأنصاري و غيرهما هو العطف بالفاء «3»، و لا يمكن القطع

بصحة الأول و كون الثاني تصحيفا، فإن النسخ الموجودة بأيدينا من الكافي لا تخلو من الغلط و التصحيف كما مر مثاله قريبا و هو تحريف (نقع البئر) ب (نقع الشي ء) في عامة نسخه، و منها النسخة التي وصلت إلي المحدث الكاشاني و صاحب الوسائل. ثم إن الوجوه التي ذكرت كقرائن خارجية علي عدم الارتباط بين حديث منع فضل الماء و قوله (لا ضرر و لا ضرار) منها ما سبق بيانه في حديث الشفعة و هو وجهان: أولهما: ما ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) من ادعاء إن الجمع بين الجملتين إنما كان من قبل عقبة في سياق الجمع بين قضايا النبي صلي الله عليه و آله، بقرينة التفكيك بينهما في حديث عبادة بن الصامت المنقول في كتب العامة. ثانيهما: ما أفاده المحقق النائيني (قده) من إنه لو كان (لا ضرر) ذيلا

______________________________

(1) رسالة لا ضرر: 23.

(2) الكافي 5/ 293 ط جديد 6/ 292 ذيل الحديث 2.

(3) الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 136، الوسائل 25: 420 ح 2. و مرآة العقول 19: 394 ح 2. العوائد: 17. الرسائل 2: 533 و 534.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 58

لقضية أخري، لزم خلو قضاياه في رواية عقبة عن هذا القضاء رغم إنه من أشهر قضاياه. و قد تقدم الكلام في تحقيق هذين الوجهين فلا موجب للإعادة.

و هناك وجهان آخران قد يستدل بهما لهذا المدعي في خصوص المقام
اشارة

و هما

الوجه الأول: إن حديث منع فضل الماء مذكور في بعض روايات الخاصة و كثير من روايات العامة

من غير تذييل بقوله (لا ضرر و لا ضرار)، و هذا يقوي احتمال كون الجمع بينهما في رواية عقبة بن خالد من فعل الراوي من دون ارتباط بينهما في الأصل. أما في روايات الخاصة فقد ورد في الفقيه «1» مرسلا (قال و قضي عليه السلام في أهل البوادي أن لا يمنعوا فضل ماء و لا يبيعوا فضل الكلا) هكذا في المطبوعة النجفية للفقيه، و في بعض النسخ (لكي لا يمنعوا فضل الكلا) و لعله الصحيح. و أما في روايات العامة فقد ورد في صحيح البخاري و سنن أبي داود و الترمذي و ابن ماجة و موطأ مالك و مسند أحمد بن حنبل و غيرها «2». و يمكن الجواب عنه أولا: بالنقض بقضية سمرة بن جندب، فإنها وردت مذيلة بقوله (لا ضرر و لا ضرار) في رواية زرارة، و لكنها خالية عن هذا الذيل في روايات العامة و في بعض رواياتنا كما تقدم ذلك مفصلا.

و ثانيا: بالحل و هو إن رواية الصدوق مرسلة و لا اعتماد علي مراسيله و إن كانت بصيغة جزمية كما حقق في محله-، مضافا إلي أن (من لا يحضره الفقيه) كتاب فقهي في الأساس يتضمن الفتوي بمتون الأحاديث،

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 3/ 150 ح 662.

(2) لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي مادة (فضل).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 59

فلا يلزم في مثله مراعاة نقل الحديث بتمامه إذا كان بعض فقرأته لا يرتبط بما هو مقصود المؤلف كما في المقام، فإن قوله (لا ضرر و لا ضرار) يجري مجري التعليل الذي لا حاجة إلي ذكره في مقام الإفتاء بمضمون الرواية. و أما روايات العامة فقد تقدم الكلام في

مدي ما يمكن الاعتماد عليه في مقابل رواياتنا عند الحديث عن رواية عبادة بن الصامت فلاحظ.

الوجه الثاني: إن مضمون حديث منع فضل الماء يأبي عن الالتزام بالترابط بينه و بين قوله (لا ضرر و لا ضرار)

و ذلك من جهتين: الاولي: إن منع المالك فضل ماله عن الغير لا يعد ضررا بالنسبة إلي الغير، و إنما هو من قبيل عدم النفع و معلوم إن عدم النفع لا يعد ضررا. الثانية: إن النهي في مورد الحديث تنزيهي قطعا، لعدم حرمة منع فضل المال عن الغير بالضرورة فلا يندرج ذلك تحت كبري (لا ضرر و لا ضرار) بأي من معانيها. و التحقيق أن مرجع هاتين الجهتين إلي جهة واحدة، و هي عدم ثبوت حق للغير في الاستفادة من فضل الماء لأنه إذا كان له حق في ذلك فإن منعه عنه يكون ضررا عليه لانه تنقيص لحقه، فلا يكون النهي عن منعه حينئذ نهيا تنزيهيا، فيمكن تطبيق كبري لا ضرر و لا ضرار علي مورده، و أما إذا لم يكن له حق في ذلك اتجه الإشكال في انطباق (لا ضرر) من الجهتين موضوعا و حكما فجهة الاشكال أساسا: إنه لا حق للغير في الاستفادة من فضل الماء. و الصحيح عدم اتجاه هذا الاشكال و توضيحه: إن الابار التي كان أهل البادية و هم الاعراب الرحل يستفيدون من مائها أما أنها كانت من المباحات الأصلية، أو ما هي في حكمها، كالابار الموقوفة وقفا عاما لاستفادة الناس منها كما لا يبعد أن ذلك كان هو الغالب فيها، لعدم كونهم

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 60

مستقرين حولها و حينئذ فلا إشكال في أنه ليس لمن سبق إلي شي ء منها حق منع الغير عما فضل من استفادته، إذ ليس له إلا حق السبق في الاستفادة فقط. و إما أنها كانت

من الأملاك الشخصية أو ما هي بحكمها، و حينئذ فقد يتوهم أنه لا إشكال في عدم استحقاق الغير الاستفادة من فضل مائها، و انعقاد الضرورة علي ذلك، و لكن الذي يتضح بملاحظة كلمات الفريقين و المشهور بين المتقدمين إن للغير حق الشرب منها لنفسه و لماشيته، و كون القول بعدم ثبوت هذا الحق له و استحباب البذل للمالك شاذا بين القدماء. قال الشيخ في الخلاف «1»: (إذا ملك البئر بالاحياء و خرج ماؤها فهو أحق بمائها من غيره بقدر حاجته و حاجة ماشيته، و ما يفضل عن ذلك يجب عليه بذله لغيره لحاجته إليه للشرب له أو لماشيته، و لا يجب عليه بذله لسقي زرعه بل يستحب له ذلك، و به قال الشافعي، و قال أبو عبيد بن خربوز يستحب له ذلك لسقي غيره و سقي مواشيه و سقي زرعه، و لا يجب علي حال، و من الناس من قال يجب عليه بذله بلا عوض لشرب الماشية و لسقي الزرع، و منهم من قال يجب عليه بالعوض، فأما بلا عوض فلا، ثم ذكر في الاستدلال علي مختاره ثلاث روايات جميعها من طرق العامة، و يشبه كلامه هنا كلامه في المبسوط. و في المختلف «2» بعد نقل كلام الشيخ ما لفظه (و به قال ابن الجنيد و الوجه: الاستحباب في الجميع و به قال ابن البراج، إذ لا يجب علي الإنسان بذل ماله لغيره) ثم ذكر ما استدل به الشيخ و ناقش فيه، بأن هذه أحاديث لم تثبت عندنا صحتها، و لو ثبتت حملت علي الكراهة.

______________________________

(1) الخلاف 2/ 132 129.

(2) مختلف الشيعة 2/ 15.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 61

و يظهر من كلام ابن

حجر في فتح الباري أن القول بوجوب البذل هو المشهور بين العامة «1». و عليه فلا وجه لدعوي الإجماع علي عدم وجوب البذل فضلا عن دعوي الضرورة عليه. و لعل عمدة ما أوجب هذه الدعوي تصور أن لازم الحكم بملكية شخص لمال جواز منع الآخرين عنه بمقتضي طبيعة الملكية، فكان استحقاق الغير التصرف فيه ينافي الحكم بكونه مملوكا للأول، و لكن هذا غير صحيح، لان ثبوت الحق المذكور لا ينافي أصل الملكية، و إنما ينافي الملكية المطلقة، و هي غير ثابتة في أمثال المقام، بل الثابت فيها بحسب بناء العقلاء سنخ ملكية محدودة تجامع ثبوت حق الشرب و الوضوء و نحوهما بالنسبة إلي الآخرين. و من هنا اخترنا وفاقا لجمع من المحققين جواز الوضوء و الشرب من الأنهار الكبار و إن لم يعلم رضا المالكين، بل و إن علم كراهتهم أو كان فيهم صغير أو مجنون، و مستند ذلك هو بناء العقلاء علي عدم ثبوت الملكية المطلقة للملاك في أمثال هذه الأشياء، بحيث تنافي جواز تصرف الآخرين فيها من غير رضاهم بمثل ما ذكر من التصرفات. و أما التمسك لذلك بسيرة المتشرعة كما في المستمسك «2» فلا يخلو عن نظر، لان مورد التمسك بها هو فيما إذا انفرد المسلمون أو الإمامية بفعل شي ء أو بتركه، و انحازوا في ذلك عن بقية العقلاء، حيث يستكشف بذلك حكم تأسيسي شرعي وفق ما جرت عليه سيرتهم، و أما في أمثال المقام حيث يكون الكاشف بناء عموم العقلاء و المستكشف به هو الحكم الإمضائي

______________________________

(1) فتح الباري لابن حجر 5/ 24 25، و لاحظ نيل الأوطار للشوكاني 6: 48.

(2) مستمسك العروة الوثقي 2/ 434.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)،

ص: 62

الشرعي، فلا معني للتمسك بسيرة المتشرعة. ثم إنه قد يتوهم إن مثل قوله عليه السلام (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه) يصلح أن يكون رادعا عن البناء العقلائي في المتقدم فلا يمكن الاعتماد عليه بعد ثبوت الردع عنه من قبل الشارع المقدس، و لكن هذا في غير محله، لان قوله (لا يحل مال امرئ. إلخ) لا يتضمن بمنطوقه حكما تأسيسيا شرعيا، لكي يؤخذ بإطلاقه لو توفرت مقدمات الحكمة-، بل مفاده إمضاء ما بني عليه العقلاء، فيمتنع أن يكون رادعا عن نفس هذا البناء في بعض حدوده. هذا ثم إنه لو فرضنا أنه يحق للمالك منع الآخرين من الاستفادة من فضل ماء بئره، و إن النهي عن هذا المنع في رواية عقبة بن خالد نهي تنزيهي لا تحريمي، و لكن لا مانع من تعليله ب (لا ضرر و لا ضرار) أيضا علي أن يكون ذلك في مستوي الحكم الاخلاقي الإسلامي، و هو إنه ينبغي التحرز عن الإضرار بالغير المسلم كمنع فضل الماء عنه و عن مواشيه مع حاجتهم و عطشهم، فيكون لهذا الحكم أي (لا ضرر) مستويان: مستوي أخلاقي تمثل في حديث منع فضل الماء، و مستوي إلزامي و هو المراد به في حديث سمرة و نحوه و وحدة اللفظ لا تفرض وحدة المعني بعد قضاء القرائن خلافها. هذا إذا كان الجمع بين النهي عن منع فضل الماء و بين قوله (لا ضرر و لا ضرار) قد صدر من النبي صلي الله عليه و آله، و أما إن كان ذلك صادرا من قبل الامام عليه السلام، فبالامكان تخريج الارتباط بينهما علي وجه آخر، و هو قاعدة الأخذ بشواهد الكتاب و السنة، بمعني الاستشهاد

بالسنة الثابتة علي صدق النقل، و لا يقدح حينئذ عدم افادة (لا ضرر) للنهي التشريعي لكفاية التوافق الروحي و المبدئي بين الأمرين في مثل ذلك كما

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 63

تقدم نظيره في حديث الشفعة. فتحصل من جميع ما تقدم إنه لا مناص من الالتزام بما هو ظاهر الحديث، و يؤيده بعض القرائن الخارجية من الارتباط بين النهي عن منع فضل الماء و كبري لا ضرر و لا ضرار، لان الوجوه التي ذكرت لإثبات عدم الارتباط لا تنهض علي ذلك. هذا تمام الكلام في القضايا الثلاث الأولي التي وردت من طرق الإمامية.

4 حديث هدم الحائط:

اشارة

و قد أورده القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام قائلا (روينا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن جدار الرجل و هو سترة بينه و بين جاره سقط فامتنع من بنيانه، قال: ليس يجبر علي ذلك إلا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخري لحق أو شرط في أصل الملك، و لكن يقال لصاحب المنزل: استر علي نفسك في حقك إن شئت، قيل له: فإن كان الجدار لم يسقط و لكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجته إلي هدمه، قال: لا يترك و ذلك إن رسول الله صلي الله عليه و آله قال: لا ضرر و لا ضرار (إضرار خ ل)، و إن هدمه كلف أن يبنيه) «1». و

الكلام فيه يقع في جهات:
الجهة الاولي في مصدره:

و هو كما ذكرنا كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد بن منصور بن حيون التميمي المغربي المتوفي سنة 363، و كان من علماء الإسماعيلية، خدم المهدي بالله مؤسس الدولة

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 504/ 1805.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 64

الفاطمية في السنوات التسع الأخيرة من حكمه، ثم تولي القضاء لهم حتي أصبح قاضي القضاة في الدولة، و قد ذكر إن كتابه الدعائم هذا كان هو القانون الرسمي و دستور الدولة منذ عهد المعز رابع الخلفاء الفاطميين حتي نهاية الدولة الفاطمية، و ربما توهم بعضهم أن القاضي نعمان من رجال الشيعة الإمامية استنادا إلي شبهات ضعيفة أجبنا عنها في محله. و يلاحظ أن أحاديث الكتاب كلها مراسيل، بل لم يذكر فيه أسامي رواتها من الطبقة الأولي غالبا، و قد تداول النقل عن هذا الكتاب في كتب متأخري المتأخرين من فقهائنا كالجواهر و غيره، و هو أحد مصادر كتاب المستدرك للمحدث

النوري (قده). و أما مراجع الكتاب و مصادره: فالذي يظهر بمراجعة ما ورد فيه من الأحاديث، و مقايسته مع مصادر الحديث عند الشيعة الإمامية، إنه كان يرجع إلي كتبهم و يعتمدها في نقل الروايات، فإن جملة مما تضمنه من الاخبار مما لا إشكال في أنه أخذها من مصادرهم، حتي إنه اشتبه في بعض المواضع فنقل رواية عن أبي جعفر عليه السلام ظنا منه أنه الباقر عليه السلام بينما هو الجواد عليه السلام، فظن المحدث النوري و آخرون أنه تعمد الإبهام و جعلوا ذلك من أمارات كونه إماميا. و الظاهر أن الذي دعاه إلي الاعتماد علي مصادر الإمامية في تأليف كتابه هو أن الإسماعيلية منذ تكونهم في زمن الصادق و الكاظم عليهما السلام، لم يكن من مسلكهم نقل الأحاديث و الاهتمام بضبطها و إنما كانت غاية اهتمامهم بالجوانب السياسية و الاجتماعية للإمامة. و لما وفقوا لتشكيل دولتهم في المغرب و استولوا علي مصر و بنوا القاهرة و أسسوا الجامع الأزهر، احتاجوا إلي الفقه و الحضارة و القانون فاضطر عالمهم المبرز آن ذاك القاضي نعمان إلي تأليف كتاب الدعائم، و الاعتماد

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 65

فيه علي مصادر الآخرين، لما لم يكن لسلفهم كتب في هذا المضمار. و يمكن معرفة بعض مصادره من كتب الإمامية بمقارنته معها أو مع ما نقل من رواياتها، و منها كتاب الجعفريات فإن ما ورد فيه من الاخبار يطابق في موارد كثيرة متون الأخبار الواردة في الدعائم كما تنبه لذلك المحدث النوري (قدس سره) «1» و كتاب الجعفريات لإسماعيل بن موسي بن جعفر، قال الشيخ و النجاشي (سكن مصر و ولده بها و له كتب يرويها عن أبيه عن

آبائه). و قد روي الجعفريات إسماعيل بن موسي و رواه عنه محمد بن محمد ابن الأشعث و كان ساكنا بمصر أيضا فهذا الكتاب كان موجودا في مصر مقر الإسماعيلية آن ذاك. و علي أي تقدير فالمقصود: أن روايات كتاب الدعائم منقولة غالبا عن مصادر الشيعة الإمامية رغم إن مؤلفه ليس منهم، و لذلك كانت أقرب إلي الاعتبار من روايات العامة، لأنها نفس رواياتنا نقلت إلينا بغير طريقنا فتدبر.

الجهة الثانية: في سنده

، و هو كما علم مما سبق ضعيف من جهتين: من جهة الإرسال و من جهة عدم وثاقة مؤلف الدعائم عندنا.

الجهة الثالثة: في مفاده
اشارة

، و لا إشكال فيما تضمنه صدره من عدم وجوب إعادة بناء الجدار علي صاحب الدار إذا لم يكن للجار حق فيه فإنه علي وفق القاعدة، و إنما الاشكال فيما تضمنه الذيل من منعه من هدم جداره و أمره ببنائه لو هدمه إضرارا بجاره، فإنه قد يقال إن ذلك مخالف للقواعد و الأصول المسلمة، لأن الظاهر أن مورد الحديث الجدار الذي يكون مملوكا للشخص ملكا طلقا من دون أن يكون متعلقا لحق الجار بوجه من الوجوه، و مقتضي القاعدة في مثل ذلك أن يكون للمالك حق هدمه، و أن لا يجب

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 317.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 66

عليه إعادة بنائه علي تقدير هدمه، و إن كان ذلك سببا لوقوع الجار في الحرج و الضيق من جهة فقدان الساتر لبيته، و مجرد كون هدمه لا لحاجة عقلائية بل بداعي إيقاع الجار في الضيق لا يقتضي منعه من الهدم، و أمره بالبناء علي تقدير مخالفته، و عليه فتطبيق قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) علي مورد الحديث محل اشكال. و لكن

يمكن الجواب عن ذلك بوجهين:
الوجه الأول: أنه لا غرابة في الحكم بمنع المالك من هدم جداره و أمره بإعادة بنائه لو فعل عقوبة

علي مخالفته، إذا لم يكن له في الهدم غرض عقلائي بل كان غرضه مجرد الإضرار بجاره، فإن لهذا الحكم نظائر في الفقه الإسلامي، و منها ما التزم به جمع من الفقهاء منهم الشيخ في النهاية و القاضي و ابن البراج، من أنه إذا أعتق أحد الشركاء نصيبه من العبد قاصدا به الإضرار بشريكه، وجب عليه فكه إن كان موسرا و بطل عتقه إن كان معسرا، لان قصد القربة انعتق سهمه و سعي العبد في نصيب الشريك، و لم يجب علي المعتق فكه بل يستحب له ذلك، و قد اعتبر في الجواهر

هذا القول أحد القولين القويين في المسألة «1». و يدلُّ عليه من الاخبار صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن المملوك بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه؟ فقال إن ذلك فساد علي أصحابه، فلا يستطيعون بيعه و لا مؤاجرته و قال يقوم قيمته فيجعل علي الذي أعتقه عقوبة، و إنما جعل ذلك مما أفسده. و في صحيحة محمد ابن مسلم قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل ورث غلاما و له فيه شركاء فأعتق لوجه الله نصيبه، فقال إذا أعتق نصيبه مضارة و هو موسر ضمن للورثة،

______________________________

(1) جواهر الكلام 34/ 156 157.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 67

و إذا أعتق لوجه الله كان الغلام قد أعتق من حصة من أعتق، و يستعملونه علي قدر ما أعتق منه له و لهم، فإن كان نصفه عمل لهم يوما و له يوما، و إن أعتق الشريك مضارا و هو معسر فلا عتق له، لأنه أراد أن يفسد علي القوم فترجع إلي القوم حصصهم «1». فيستفاد من هاتين الروايتين و غيرهما أن العتق لو كان مقرونا بقصد الإضرار بالشريك، استتبع ذلك التشديد علي المعتق أما بإبطال عتقه رأسا أو بتضمينه حصة الشريك. فيمكن الالتزام بنظير ذلك في المقام أيضا كما التزم به بعض فقهاء العامة بأن يقال: أنه لا يجوز للجار أن يتصرف في ملكه بما يكون لمجرد الإضرار بجاره لا لغرض عقلائي، و لو فعل ذلك أجبر علي تدارك الضرر الحاصل عقوبة علي عمله. و هذا الحكم يصح أن يكون حكما أوليا علي أساس أن من حق المسلم علي المسلم أو الجار علي الجار أن لا يضر به متعمدا و إن كان

ذلك بالتصرف في ملك نفسه، كما يصح أن يكون حكما ولائيا اقتضته المصلحة الملزمة التي رآها الامام عليه السلام في أمثال هذه الموارد.

الوجه الثاني: إنه يمكن أن يفترض أن مورد كلام الامام عليه السلام في ذيل الحديث هو ما إذا كان الجدار موردا لحق الجار

، و بذلك يتجه النهي عن الهدم و الأمر ببنائه علي تقدير المخالفة، كما يتجه تعليل النهي ب (لا ضرر و لا ضرار) لأن في هدم الجدار حينئذ إضرارا بالجار لاستلزامه سلب حقه. و مبرر هذا الافتراض إن السائل فرض كون الهدم إضرارا بالجار، و هذا

______________________________

(1) الوسائل 23: 39 و 40 ح 29056 و 29059.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 68

ظاهر فيما إذا كان للجار حق بالنسبة إلي الجدار لكي يصدق الإضرار به عرفا-، و لا يشمل ما إذا لم يكن له حق فيه و إنما كان هدمه مستلزما لعدم انتفاعه بجدار الغير، و أما قول السائل (لغير حاجة منه إلي هدمه) فلا يدل علي عدم كون الجدار متعلقا لحق الغير، بل لعل المراد به إخراج صورة تعارض الضررين، حيث يكون صاحب الجدار محتاجا إلي هدمه لكونه آئلا للسقوط أو موجبا لضيق داره مثلا مع كونه متعلقا لحق الجار. و هذا الوجه في توجيه الرواية يظهر من كلام لصاحب الجواهر «1» في كتاب الصلح ذكره تأييدا لكلام نقله عن المحقق الكركي في جامع المقاصد.

5 حديث قسمة العين المشتركة

«2»: رواه في كنز العمال عن جامع عبد الرزاق الصنعاني منقولا بإسناده عن الحجاج بن أرطاة و هو من رجال الصادقين كما في كتاب الرجال للشيخ (قده) قال أخبرني أبو جعفر: أن نخلة كانت بين رجلين فاختصما فيها إلي النبي صلي الله عليه و آله، فقال أحدهما: اشققها نصفين بيني و بينه، فقال النبي صلي الله عليه و آله لا ضرر و لا ضرار في الإسلام يتقاومان فيها «3». و الحكم المذكور في الرواية جار علي وفق قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) و قد ذكره فقهاؤنا مع تعليله

بهذه القاعدة أيضا.

______________________________

(1) جواهر الكلام 26/ 268.

(2)! هذا الحديث و ما بعده من الأحاديث و إن لم ترد في كتبنا و إنما وردت في كتب العامة إلا أنا آثرنا التعرض لها استيفاء لما اطلعنا عليه من القضايا التي ذكر قاعدة لا ضرر و لا ضرار في مراردها في كتب علماء الإسلام مضافا إلي بعض الفرائد الأخري التي ستتضح من خلال البحوث الآتية.

(3) كنز العمال 5: 843 خ 14534.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 69

و قد ورد ما يماثله في صحيح الغنوي المروي في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام: في رجل شهد بعيرا مريضا و هو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء و اشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس و الجلد، فقضي إن البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير، فقال لصاحب الدرهمين خذ خمس ما بلغ فأبي قال أريد الرأس و الجلد فقال عليه السلام ليس له ذلك هذا الضرار و قد أعطي حقه إذا أعطي الخمس «1». و هذه الرواية تماثل رواية الحجاج بن أرطاة إلا إن المذكور فيها مجرد تطبيق كبري لا ضرر علي موردهما من دون ذكرها صريحا، و لعل ذلك لمعلوميتها و اشتهارها فاستغني الامام عليه السلام عن ذكرها. و قد وقعت صحيحة الغنوي موضعا للبحث و الإشكال في كلمات جمع من الفقهاء، و أفتي بمضمونها جماعة منهم كالمحقق في الشرائع و الشهيد الأول في الدروس، و لعل الأظهر في معناها أن يكون قوله (أشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس و الجلد) بمعني إن الرجل قد اشترك في البعير بنسبة الخمس و اشترط أن يكون نصيبه بعد النحر في الرأس و الجلد، و كان هذا الشرط ناظرا إلي صورة استمرار المرض

و عدم برء البعير مما لا مناص معه من نحره فلما برئ البعير انتفي موضوع الشرط المذكور فلم يكن يستحق إلا خمس البعير نفسه و ذلك وجه الحكم في الرواية.

6 حديث عذق أبي لبابة:

رواه أبو داود في المراسيل عن واسع بن حبان، قال: كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه، فقال إنك تطأ حائطي إلي عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطي، و أخرجه عني فأبي عليه، فكلم النبي صلي الله عليه و آله

______________________________

(1) الكافي 5: 293 ح 4.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 70

فقال يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلي مالك و اكفف عن صاحبك ما يكره، فقال ما أنا بفاعل، فقال اذهب فاخرج له مثل عذقه إلي حائطه، ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام و لا ضرار «1». و هذه القضية تشبه قضية سمرة بن جندب مع الرجل الأنصاري.

7 حديث جعل الخشبة في حائط الجار و حد الطريق المسلوك:

أورده عبد الرزاق الصنعاني في المصنف، عن معمر عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله: (لا ضرر و لا ضرار) و للرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره و الطريق سبعة أذرع «2». و رواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناده عن ابن عباس أيضا، و كذا الطبراني و البيهقي و ابن ماجة «3». و في سنن الدارقطني حكي الجمل الثلاث بطريقه عن ابن عباس، لكن مع تأخير جملة (لا ضرر و لا ضرار) عن الجملتين الأخريين «4». كما روي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه و آله، إنه قال: (لا ضرر و لا ضرورة و لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة علي حائطه) «5».

و لكن ظهور هذا الحديث في تعاقب الجمل الثلاث في كلام النبي صلي الله عليه و آله علي نحو يكون قوله (لا ضرر و لا ضرار) بمنزلة الكبري الكلية للحكمين المذكورين في

الجملتين الأخريين غير واضح، فإن صيغة الحديث في الجمع بين الجمل الثلاث ليست صيغة واضحة في أن النبي

______________________________

(1) المراسيل مع الأسانيد لأبي داود: 207 ح 2 باب 71 في الإضرار.

(2) كنز العمال 4: 61 ح 9519.

(3) لاحظ مسند أحمد 1: 313، و سنن ابن ماجة 2: 784، و سنن الدارقطني 4: 228.

(4) لاحظ مسند أحمد 1: 313، و سنن ابن ماجة 2: 784، و سنن الدارقطني 4: 228.

(5) سنن الدارقطني 4: 822

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 71

صلي الله عليه و آله كان بصدد تطبيق (لا ضرر و لا ضرار)، علي مورد جعل الخشبة في حائط الجار و حد الطريق المسلوك. و الفرق التعبيري بين الصيغة المستعملة في هذا الحديث و الصيغة المستعملة في حديثي الشفعة و منع فضل الماء شاسع جدا، فإن الوارد فيهما هكذا قضي بكذا و كذا و قال (لا ضرر و لا ضرار) مما يكون ظاهرا عرفا في الارتباط بين القضاء و القول و أما في المقام فلا ظهور للحديث في الارتباط بين قوله (لا ضرر و لا ضرار) و قوله (و لا يمنعن أحدكم. إلخ). و يظهر من مالك في الموطأ، و الشافعي في كتاب الأم في مقام الرد علي أصحاب مالك إنهما اعتبرا قوله (لا ضرر و لا ضرار) رواية مستقلة و لم يعداه صدرا أو ذيلا لحكمه صلي الله عليه و آله بجواز جعل الخشبة في حائط الجار، و نهيه عن منع الجار عن ذلك. فلاحظ «1».

8 حديث مشارب النخل:

أورده في كنز العمال عن أبي نعيم عن صفوان بن سليم، عن ثعلبة ابن أبي مالك: إن رسول الله صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا

ضرار) و إن رسول الله صلي الله عليه و آله: قضي في مشارب النخل بالسيل الأعلي علي الأسفل حتي يشرب الأعلي و يروي الماء إلي الكفين، ثم يسرح الماء إلي الأسفل و كذلك حتي تنقضي الحوائط و يغني الماء «2». و هذا الحديث لا ظهور له في الارتباط بين قوله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار) و بين قضائه في مشارب النخيل، و لا سيما مع تكرار ذكره صلي الله عليه و آله فيه.

______________________________

(1) موطإ مالك 2: 745، و الأم 7: 230.

(2) كنز العمال 3: 919 ح 9167.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 72

و روي قضاؤه صلي الله عليه و آله في مشارب النخيل من دون تعقبه أو تقدمه ب (لا ضرر و لا ضرار) في جملة من مصادر الخاصة و العامة. أما الخاصة فقد ورد في مصادرهم «1» عن ثلاثة أشخاص هم:

1 عقبة بن خالد و أورد حديثه الكليني و ينقله عنه الشيخ «2».

2 غياث بن إبراهيم و قد ورد حديثه بطريقين في الكافي و نقله الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد و الظاهر أنه أخذه من الكافي أيضا كما رواه الصدوق في الفقيه بسنده إلي غياث.

3 حفص بن غياث و هو عامي المذهب و قد أورد حديثه الكليني بإسناده إليه و رواه عنه الشيخ (قده). و أما العامة فقد روي ذلك جمع منهم في مصادرهم عن جمع، منهم عبادة بن الصامت «3». هذا تمام الكلام في البحث الأول من الفصل الأول في ذكر القضايا التي تضمنت تطبيق كبري (لا ضرر و لا ضرار) علي مواردها في كتب الخاصة و العامة، و قد عرفت إنها ثمان قضايا و

عمدتها القضايا الثلاث الاولي المروية في كتب الإمامية.

البحث الثاني: في تحقيق لفظ حديث (لا ضرر و لا ضرار)

اشارة

. و يقع الكلام فيه تارة في زيادة (في الإسلام) في آخره، و أخري في زيادة (علي مؤمن) بدلا عنه، و ثالثة في ثبوت القسم الثاني من الحديث أي

______________________________

(1) الوسائل 25: 420/ 32263.

(2) مسند أحمد 5: 326، كنز العمال 3: 903 ح 9117.

(3) الكافي 5: 278 ح 6، التهذيب 140 ح 62.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 73

قوله (لا ضرار)، و إنه علي تقدير ثبوته هل هو بهذه الصيغة أو بصيغة أخري مثل (لا إضرار) أو (لا ضرورة)؟ فالكلام في مقامات

المقام الأول: في تحقيق زيادة (في الإسلام) في آخر الحديث

اشارة

. و يقع البحث عنه تارة من حيث وجود هذه الزيادة في المصادر الحديثية و غيرها، و أخري في اعتبارها و عدمه فهنا أمران

الأمر الأول: في تحقيق وجود هذه الزيادة في المصادر التي تعرضت لذكر حديث (لا ضرر و لا ضرار)
اشارة

. ادعي العلامة شيخ الشريعة (قده) أن هذه الزيادة غير ثابتة في شي ء من كتب العامة و الخاصة عدا النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، و لا يدري إنه من أين جاء بها؟ قال «1» (قدس سره): أن الثابت في روايات العامة هو قوله (لا ضرر و لا ضرار) من غير تعقيب قوله (في الإسلام)، فقد تفحصت في كعبهم و تتبعت في صحاحهم و مسانيدهم و غيرها فحصا أكيدا، فلم أجد رواية في طرقهم إلا عن ابن عباس، و عن عبادة بن الصامت، و كلاهما رويا من غير هذه الزيادة، و لا أدري من أين جاء ابن الأثير في النهاية بهذه الزيادة، و ليس المقام من مصاديق القاعدة السابقة من تقدم الزيادة علي النقيصة و الحكم بوجودها، فإنها فيما إذا ثبتت الزيادة بطريق معتبر لا في غيره مما لم يثبت أو ثبت خلافها أو أرسلها واحد أو اثنان، فلا يمكن الاحتجاج بمثل هذه الزيادة التي لو لم يدع الجزم بخطئها فغاية ما فيه الإرسال ممن لا يعلم حال مراسيله علي حكم ديني و فرع فقهي. و أضاف (قده): و ناهيك في المقام أن علامتهم المتبحر الماهر

______________________________

(1) رسالة لا ضرر: 7.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 74

السيوطي الذي تجاوزت تصانيفه عن خمسمائة، و يعدونه مجدد المائة التاسعة، و قيل إنه ما بلغ أحد درجة الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة إلا السيوطي، صنف كتابه (جمع الجوامع) في الحديث، و جمع فيه جميع كتب الحديث من الصحاح و غيرها كصحيحي البخاري و مسلم،

و صحيح الترمذي، و سنن ابن داود، و سنن النسائي، و صحيح ابن ماجة القزويني، و موطأ مالك، و مسند أحمد بن حنبل، و صحيح ابن خزيمة، و صحيح ابن عوانة، و مستدرك الحاكم، و منتقي ابن الجارود، و صحيح ابن حبان، و صحيح الطبراني، و سنن سعيد بن منصور، و ابن أبي شيبة، و جامع عبد الرزاق، و مسند أبي يعلي، و سنن الدارقطني، و الصحاح المختارة للضياء المقدسي، و شعب الايمان للبيهقي، و الكامل لابن عدي، و غيرها من كتب كثيرة لا نطيل بنقلها، و لم ينقل في هذا الكتاب إلا قوله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار) فقط، و ذكر رواية أحمد في مسنده و ابن ماجة في صحيحه. ثم قال (قده) (و هذه كتب أحاديث أهل السنة تراها خالية عن قوله (في الإسلام)، فمن أين هذه الزيادة حتي نقدمها علي النقيصة، و نستشهد بها علي معني الحديث و نستعين بها في بعض المقاصد و الفروع؟ فما اشتهر في الكتب و تداولوه في الاستشهاد بها ليس علي ما ينبغي. و أعجب من الكل ما رأيته في كلام بعض المعاصرين من دعوي الاستفاضة مع هذا القيد، و إسناده إلي المحققين دعوي تواتر هذا الحديث مع هذه الزيادة انتهي موضع الحاجة من كلامه. و قد تأثر بما ذكره (قده) غير واحد ممن تأخر عنه و لا سيما فيما ذكره من عدم وجود الزيادة المذكورة في مصادر العامة غير النهاية الأثيرية.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 75

و يبدو أنه (قدس سره) لم يطلع علي نقل الفقيه «1» لحديث (لا ضرر و لا ضرار) مع إضافة في الإسلام، و إلا

لما بالغ في نفيها. و قد شكك بعض الأعاظم «2» تأثرا بالنفي البالغ الذي ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) في أصل وجود هذه الإضافة في الفقيه: قائلا إنه لم يثبت وجودها في نقل الفقيه أيضا علي نحو يطمئن به، لاحتمال أن تكون الزيادة من قبل الكاتب، و ذلك لانه قد جاء في الفقيه بعد ذكر (لا ضرر)، فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا، فمن المحتمل إن الناسخ قد كتب كلمة (فالإسلام) مكررا لغفلته عن كتابتها أولا، كما يقع ذلك كثيرا، ثم تصور بعض من تأخر عنه إن (فالإسلام) الاولي تحريف (في الإسلام)، فصححه تصحيحا قياسيا مبدلا للفاء ب (في)، فتحقق بذلك (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام)، فكان وجود هذه الزيادة في الفقيه وليد عملين: تكرار خاطئ أولا، و تصحيح قياسي للتكرار دون التنبه إلي منشأه ثانيا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في التشكيك في ثبوت زيادة (في الإسلام) في آخر الحديث. و

في مجموع ما ذكر ملاحظات:
الملاحظة الاولي: إن ما ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) من حصر راوي حديث (لا ضرر و لا ضرار) لدي العامة

، في شخصين ابن عباس، و عبادة بن الصامت، ليس بصحيح، و توضيح الحال: إن هذا الحديث قد ورد في كتب العامة علي نحوين: مرسلا و مسندا. أما المرسل فقد ورد في موطإ مالك «3»، عن عمرو بن يحيي المازني،

______________________________

(1) الفقيه 4: 243 ح 777.

(2) رسالة لا ضرر للإمام الخميني: 25.

(3) الموطأ 2: 745.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 76

عن أبيه: إن رسول الله صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا ضرار)، و ورد أيضا في جامع الصنعاني علي ما في كنز العمال «1» عن ابن اليميني، عن الحجاج بن أرطاة، أخبرني أبو جعفر أن نخلة كانت بين رجلين فاختصما فيها إلي النبي

صلي الله عليه و آله فقال أحدهما أشققها نصفين بيني و بينه فقال النبي صلي الله عليه و آله (لا ضرر) وعد هذا الحديث مرسلا مبني علي أصول العامة من عد روايات أئمتنا عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و آله من غير ذكر الوسائط من قسم المراسيل، و إن كانت عندنا من المسانيد. و علي أي تقدير فقد ورد نقل (لا ضرر) مرسلا في كثير من الكتب الفقهية و اللغوية تارة مع الزيادة و أخري بدونها كما سيأتي عرض ذلك إن شاء الله تعالي. و أما المسند فقد نقل عن جملة من الصحابة يبلغ عددهم ثمانية أو سعة رواة و هم:

1 ابن عباس. و قد نقل حديثه في مصادر: منها: سنن ابن ماجة «2»: رواه بإسناده عن جابر الجعفي عن عكرمة، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله: (لا ضرر و لا ضرار). و منها: المصنف «3» لعبد الرزاق الصنعاني رواه عن معمر، عن جابر الجعفي كما تقدم. و منها: مسند أحمد «4»، رواه عن عبد الرزاق بنفس السند المذكور،

______________________________

(1) كنز العمال 5: 843 ح 14534.

(2) سنن ابن ماجة 2: 784 ح 341.

(3) كما في نصب الراية 4: 384.

(4) مسند أحمد بن حنبل 1/ 3133.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 77

و لكن بلفظ (لا ضرر و لا إضرار). و منها: سنن الدارقطني «1» رواه بإسناده عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ (لا ضرر و لا إضرار). و منها: المعجم للطبراني علي ما في نصب الراية «2» عن ابن أبي شيبة، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن سماك عن عكرمة.

2 أبو سعيد

الخدري. و قد ورد حديثه في مصادر: منها: المستدرك للحاكم «3»: رواه بإسناده عن عمرو بن يحيي المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا ضرار من ضار ضاره الله و من شاق شاق الله عليه)، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الاسناد علي شرط مسلم و لم يخرجاه) و لم يتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك. و منها: سنن الدارقطني «4» رواه بإسناده عن المازني، و لكن بلفظ (لا ضرر و لا إضرار). و منها: التمهيد في شرح الموطأ لابن عبد البر علي ما حكي عنه «5». و منها: سنن البيهقي «6».

3 أبو لبابة. نقل حديثه أبو داود في المراسيل عن واسع بن حبان عنه علي ما ذكره الزيلعي في نصب الراية «7» و نص الحديث قال (واسع)

______________________________

(1) سنن الدارقطني 4: 228 ح 84.

(2) نصب الراية 4/ 384.

(3) المستدرك علي الصحيحين 2/ 57.

(4) سنن الدارقطني 4: 228 ح 85.

(5) لاحظ نصب الراية 4/ 285.

(6) سنن البيهقي 6: 157.

(7) نصب الراية 4/ 385.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 78

كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه، فقال إنك تطأ حائطي إلي عذقك، فأنا أعطيك مثله في حائطي، و أخرجه عني فأبي عليه فكلم النبي صلي الله عليه و آله فقال يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلي مالك، و اكفف عن صاحبك ما يكره، فقال ما أنا بفاعل فقال اذهب فأخرج له مثل عذقه إلي حائطه، ثم اضرب فوق ذلك بجدار (فإنه لا ضرر في الإسلام و لا ضرار).

4 أبو هريرة. أورد حديثه الدارقطني في سننه «1» بإسناده عن ابن عطاء، عن

أبيه، عن أبي هريرة: أن النبي صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا ضرار) و لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة علي حائطه.

5 ثعلبة بن مالك. أورد حديثه أبو نعيم علي ما في كنز العمال «2» بإسناده عن صفوان بن سليم، عن ثعلبة: أن رسول الله صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا ضرار). و نقله أيضا الطبراني في معجمة علي ما حكاه الزيلعي «3» بسنده إلي صفوان عن ثعلبة.

6 جابر بن عبد الله. روي حديثه الطبراني في معجمة الأوسط علي ما حكاه الزيلعي في نصب الراية «4»، و الهيثمي في مجمع الزوائد «5» بإسناده عن واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام).

7 عائشة. نقل حديثها الدارقطني في سننه «6» بإسناده عن عمرة،

______________________________

(1) سنن الدارقطني 4: 228 ح 86.

(2) كنز العمال 3: 919 ح 9167.

(3) نصب الراية 4/ 386.

(4) نصب الراية 4/ 385.

(5) مجمع الزوائد 4/ 110.

(6) سنن الدارقطني 4: 227 ح 83.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 79

عن عائشة عن النبي صلي الله عليه و آله قال (لا ضرر و لا ضرار) و رواه الطبراني أيضا في معجمة الأوسط كما في نصب الراية و مجمع الزوائد «1» بطريقين عن نافع بن مالك عن القاسم بن محمد، عن عائشة أحدهما بلفظ (لا ضرر و لا ضرار) و أما الثاني فنقله الهيثمي بهذا اللفظ أيضا و لكن نقله الزيلعي بلفظ (لا ضرر و لا ضرار).

8 عبادة بن الصامت. و هو أشهر رواة الحديث و قد ورد حديثه في عدة مصادر:

منها: سنن ابن ماجة بطريقه إلي موسي بن عقبة بن الوليد بن عبادة، عن جد أبيه عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلي الله عليه و آله قضي أن لا ضرر و لا ضرار «2». و منها: صحيح أبي عوانة علي ما في كنز العمال «3». و منها: المعجم الكبير للطبراني علي ما في كنز العمال أيضا «4». و منها: سنن البيهقي «5». و منها: مسند أحمد بن حنبل «6». و إذا اعتبرنا الرواية المذكورة في جامع الصنعاني عن أبي جعفر عليه السلام، مروية عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام باعتبار أن ما ينقله عليه السلام عن النبي صلي الله عليه و آله فإنما ينقله عن آبائه فسوف تكون رواة

______________________________

(1) نصب الراية 4: 286، و مجمع الزوائد 4: 110، المعجم الأوسط 2: 23 ح 1037.

(2) سنن ابن ماجة 2: 784/ 2340.

(3) كنز العمال 4: 59 ح 9498.

(4) كنز العمال 3/ 209 الطبعة القديمة.

(5) سنن البيهقي 6: 157.

(6) مسند أحمد بن حنبل 5: 326.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 80

الحديث تسعة. و بما ذكرنا يتضح: أولا: إن نقل الحديث ليس محصورا بالنقل المسند في كتبهم، لكي يقال في بيان عدم وجود الحديث مع الزيادة فيها إنه لم يروه إلا ابن عباس و عبادة، و روايتهما لا تتضمن الزيادة، إذ يمكن ثبوت الزيادة في المنقول مرسلا، كما ثبث ذلك فعلا علي ما مر، فلا بد من نفي ثبوت الحديث مرسلا و مسندا مع الزيادة لكي يتم البيان المذكور. و ثانيا: إن الراوي للحديث لا ينحصر بابن عباس و عبادة بل له رواة كثيرون غيرهما، نعم هما أشهر من نقل الحديث لورود روايتهما في جملة وافرة

من مصادرهم. و ثالثا: إن مصدر الحديث لا ينحصر بسنن ابن ماجة و مسند أحمد، بل له مصادر أخري كالموطإ لمالك و المصنف لعبد الرزاق و سنن الدارقطني، و المعجم الكبير، و الأوسط للطبراني، و المستدرك للحاكم، و سنن البيهقي، و غيرها مما تقدمت الإشارة إلي بعضها.

و الملاحظة الثانية: إن ما ذكره (قده) من عدم معلومية مصدر ابن الأثير في نقل هذه الزيادة في النهاية ليس في محله

، فإن مصدره في ذلك واضح من نفس كتابه و هو كتاب (غريب الحديث و القرآن) لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي صاحب أبي منصور الأزهري اللغوي المتوفي سنة 401. و توضيح ذلك: إن ابن الأثير كما صرح في مقدمة النهاية «1» قد جمع في كتابه هذا بين كتاب الهروي، و بين كتاب أبي موسي محمد بن أبي بكر الأصفهاني

______________________________

(1) النهاية 3: 81.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 81

المتوفي سنة 581، و أضاف هو علي ذلك ما تيسر له، و قد جعل لما أخذه من كل منهما علامة، فكانت علامة الأول (ه) و علامة الثاني (س)، و ما أضافه عليهما جعله مهملا بلا علامة، و كلامه المتضمن لشرح حديث لا ضرر و لا ضرار في الإسلام مقرون بالعلامة الاولي، فيعلم أنه مأخوذ من كتاب أبي عبيد الهروي.

الملاحظة الثالثة: إن حصر مصدر الزيادة بنهاية ابن الأثير [ليس بصحيح]

كما جاء في كلامه (قده) حيث قال: (و إنما توجد في نهاية ابن الأثير) ليس بصحيح، لأنها توجد في جملة من كتب الحديث و الفقه و اللغة و غيرها. أما في (كتب الحديث) فتوجد في مصادر العامة في عدة كتب علم بعضها مما سبق. و في ضمن ثلاث روايات:

1 رواية أبي لبابة المروية في مراسيل أبي داود.

2 رواية جابر بن عبد الله المروية في المعجم الأوسط للطبراني.

3 رواية أبي جعفر عليه السلام المروية في المصنف لعبد الرزاق الصنعاني. و أما في مصادرنا فيوجد الحديث مع الزيادة في كتابين: أحدهما: الفقيه كما مر نقله عنه. و ثانيهما: عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الأحسائي الذي نقل الحديث عن الشهيد الأول (ره) في بعض مصنفاته عن أبي سعيد الخدري و هو أحد رواة العامة مما يظهر منه أنه نقل

الحديث من مصادرهم و لا يبعد أن يكون الصدوق (قده) أيضا قد أخذه من مصادرهم كما أنه ذكر الحديث في مقام الاحتجاج علي العامة، مقرونا بعدة أحاديث أخري مروية من طرقهم. و أما في (كتب الفقه) فيوجد في جملة من كتب فقه العامة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 82

منها: بدائع الصنائع «1» للكاساني الحنفي قال في كلام له (و أما الذي يرجع إلي المولي فيه فهو أن لا يكون من التصرفات الضارة بالمولي عليه لقوله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام). و منها: المبسوط «2» للسرخسي الحنفي حيث قال في كلام له (فإذا كان تقديم الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم علي منازلهم عملا بقوله صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام). و منها: شرح الخراج «3» لبعض متأخري الحنفية حيث قال في كلام له (و الضرر حرام لقوله: لا ضرر و لا ضرار في الإسلام). و يوجد في بعض كتب فقه الزيدية أيضا ككتاب البحر الزخار «4» حيث قال في كلام له (و إذا باعه الراهن فباطل لإبطاله حق المرتهن و قد قال صلي الله عليه و آله (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام). و يوجد في جملة من كتب الإمامية أيضا كالخلاف للشيخ الطوسي في كتاب الشفعة «5»، و التذكرة للعلامة في خيار الغبن «6». و أما في (كتب اللغة): فيوجد في تهذيب اللغة للأزهري «7» و غريب الحديث و القرآن لأبي عبيد «8» و أساس البلاغة للزمخشري «9» و في جملة من

______________________________

(1) بدائع الصنائع 6: 265.

(2) المبسوط 16/ 81.

(3) الرتاج 2/ 120.

(4) البحر الزخار 5/ 119.

(5) الخلاف 2: 109.

(6)

تذكرة الفقهاء 1/ 522.

(7) تهذيب اللغة 11/ 457.

(8) كما تقدم عن نهاية الأثر 3: 81.

(9) أساس البلاغة 268.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 83

القواميس اللغوية المتأخرة كلسان العرب «1» و غيره. هذا ما اطلعنا عليه من موارد ذكر الحديث مع الإضافة في كتب الفريقين و لعل المتتبع يجد أكثر من ذلك.

الملاحظة الرابعة: إن ما ذكره بعض الأعاظم «2» من التشكيك في وجود زيادة (في الإسلام) في الفقيه محل نظر

من وجهين:

الأول: إن مجرد إمكان تخريج زيادة كلمة خطأ علي أساس التكرار أو غيره من مناشئ الخطأ في الكتابة لا يقوم حجة علي وقوع الخطأ بالفعل، بل لا بد من قيام شاهد عليه، و لا شاهد في المقام علي ذلك بل بعض الشواهد يقتضي خلافه، فإن نسخ الكتب الأربعة كانت مقرؤة علي المشايخ من بدو تأليفها إلي قريب هذه الأعصار و توجد جملة من النسخ المقروة عليهم بأيدينا، فيضعف مع ذلك ادعاء وقوع التحريف بالزيادة في مرحلة القراءة و إن سلم إنه يحصل في الكتابة، مضافا إلي إن الجوامع الحديثية التي نقلت هذا الحديث عن الفقيه إنما نقلته مع تلك الزيادة كالوسائل و غيرها و لم ينقل احتمال ما ذكر من التصحيف عن أحد من محشي الفقيه و شراحه.

الثاني: إن مقتضي كلام الصدوق (قده) في الاحتجاج بهذا الحديث وجود هذه الزيادة، فإنه ذكر هذا الحديث في سياق الاحتجاج علي العامة في قولهم إن المسلم لا يرث الكافر فقال «3»: إن الله عز و جل إنما حرم علي الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم، كما حرم علي القاتل عقوبة لقتله، فأما المسلم فلأي جرم و عقوبة يحرم الميراث؟! و كيف صار الإسلام يزيده شرا؟! مع قول النبي صلي الله عليه و آله: الإسلام يزيد و لا ينقص، و مع قوله عليه

______________________________

(1) لسان العرب 4/

482.

(2) الامام الخميني في الرسائل: 25.

(3) من لا يحضره الفقيه 4: 243 ح 776 778.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 84

و آله السلام: (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا، و مع قوله عليه و آله السلام: الإسلام يعلو و لا يعلي عليه. فيلاحظ إن احتجاجه بحديث (لا ضرر و لا ضرار) مبني علي إن إسلام المرء لا يوجب ضررا عليه، و هذا يتوقف علي ثبوت تلك الزيادة لكن مع تفسير الإسلام بالاعتقاد بالدين، دون نفس الدين و جعل كلمة (في) للتعليل كما في قولهم (قتل فلان في دينه) فيكون مؤدي الحديث إنه لا ضرر علي المرء بإسلامه فلو فرضنا خلو الحديث عن الزيادة في ذيله لم يمكن الاحتجاج به للمدعي المذكور. فظهر بما ذكرناه إن التشكيك في وجود زيادة (في الإسلام) في الفقيه في غير محله. هذا تمام الكلام في تحقيق وجود هذه الزيادة في المصادر الحديثية و غيرها و عدمه.

الأمر الثاني: في تحقيق اعتبار هذه الزيادة
اشارة

و هل إنها ثابتة في الخبر علي وجه معتبر أم لا؟ وجهان بل قولان و يمكن الاستدلال للوجه الأول من ثبوتها و اعتبارها بوجوه

الوجه الأول: إن حديث لا ضرر و لا ضرار مع هذه الإضافة مروي في كتب الحديث للفريقين

و مشهور في ألسنة الفقهاء حتي إنه ذكر بهذا المتن في كتب اللغة و ذلك مما يوجب الوثوق بثبوت الزيادة و صحتها. و يرد عليه:

أولا: إنه لم يذكر مع الزيادة في كتب أصحابنا فيما اطلعنا عليه إلا في مقام الاحتجاج به علي العامة من حيث وروده من طرقهم، فلا يدل علي نقله من طرقنا أيضا ليقال إنه مروي من طرق الفريقين فيمكن الوثوق

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 85

بصحته. و ثانيا: إن تكرار الخبر مع الزيادة مرسلا من قبل الفقهاء و اللغويين أو المحدثين، مما لا يوجب الوثوق به و إنما الذي يوجب الوثوق به تعدد طرقه و اختلافها ليزداد بذلك احتمال صدوره حتي يصل إلي مرتبة الوثوق و الاطمئنان و هذا ما لم يتحقق في المقام.

الوجه الثاني: إن هذا الحديث مع الزيادة مروي في الفقيه بصيغة جزمية

أي إن الصدوق (قده) أسنده إلي المعصوم عليه السلام بصورة الجزم حيث قال: (و مع قوله عليه السلام لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) و هو مما يستوجب الاعتماد عليه، و إن كان النقل مرسلا فإنه و إن لم تثبت حجية جميع مراسيله (قده) كما ذهب إليه جمع إلا إن ما نسبه إلي المعصوم عليه السلام علي سبيل الجزم حجة و معتمد عليه. و هذا الوجه اعتمده السيد الأستاذ (قدس سره) في بعض دوراته الأصولية «1» ثم عدل عنه، و رده بأن غاية ما يدل عليه هذا النحو من النقل هو صحة الخبر عند الصدوق، و أما صحته عندنا فلم تثبت لاختلاف المباني في حجية الخبر، فإن بعضهم قائل بحجية خصوص خبر العادل مع ما في معني العدالة من الاختلاف، حتي قال بعضهم العدالة هي إظهار الشهادتين مع عدم ظهور الفسق، و بعضهم قائل بحجية

خبر الثقة، و بعضهم لا يري جواز العمل إلا بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة العلمية فمع وجود هذا الاختلاف في حجية الخبر، كيف يكون اعتماد أحد علي خبر مستلزما لحجيته عند غيره «2».

______________________________

(1) الدراسات: 322.

(2) مصباح الأصول 2/ 520.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 86

و يمكن أن يناقش فيما أفاده نقضا و حلا. أما (النقض) فبتوثيقات الرجاليين و تضعيفاتهم فإنه (قدس سره) يعتمدها رغم تأتي هذا الاحتمال فيها أيضا و لا موجب للتفريق بينها و بين ما نحن فيه، إذ لا شاهد علي إنهم في مقام جرح الرواة أو تعديلهم يعتمدون علي طريقة خاصة غير ما يعتمدونها في مقام نسبة القول إلي المعصوم، بل الظاهر إن إثبات المخبر به عندهم في المقامين علي منهج واحد.

و ما يقال من كثرة الكتب المؤلفة في الرجال المتضمنة لاحوال الرواة مما لم يصل إلينا، فيحتمل استناد الرجاليين إليها في الجرح و التعديل، يأتي نظيره في كتب الحديث أيضا، بل إن كتب الحديث المؤلفة من زمان الامام الصادق عليه السلام إلي زمن الصدوق مما فقد في الأعصار المتأخرة أزيد بكثير مما صنف في الجرح و التعديل. و أما الحل فبما ذكره (قدس سره) في غير هذا المقام «1» بناء علي مختاره من حجية خبر الثقة و هو إنه إذا لم يعلم إن منشأ الأخبار هل هو الحس أو الحدس، فالقاعدة الأولية و إن كانت تقتضي عدم حجية هذا الاخبار نظرا إلي إن أدلة حجية خبر الثقة لا تشمل الأخبار الحدسية، فإذا احتمل إن الخبر حدسي كانت الشبهة مصداقية و لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إلا إن هناك أصلا ثانويا حاكما علي هذه القاعدة و هو أصالة

الحس الثابتة ببناء العقلاء فإن سيرتهم قائمة علي حجية خبر الثقة في الحسيات فيما لم يعلم إنه نشأ من الحدس، و علي ضوء هذا فيقال في المقام إن مجرد عدم العلم بمعني المخبر في أخباره لا يوجب الحكم بعدم حجية خبره بعد وجود احتمال الحس في حقه، و لا ريب في أن احتمال

______________________________

(1) لاحظ معجم الرجال 1: 41.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 87

الحس في خبر الصدوق و لو من جهة نقل كابر عن كابر و ثقة عن ثقة موجود وجدانا فيلزم البناء علي حجية خبره. هذا و الصحيح في الجواب عن الوجه المذكور ما أوضحناه في مبحث حجية الخبر الواحد. أولا: من أن التحقيق هو حجية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة، و عليه فلا بد من حصول الوثوق عندنا بثبوت المخبر به، و لا يكفي مجرد وثوق المخبر بصحة خبره في ذلك، إذا لم يستوجب الوثوق لدينا. و ثانيا: إنه لو كان تصحيح الصدوق (قده) للخبر و جزمه به حجة علي ثبوته فلا وجه لتخصيص ذلك بمراسيله التي جاءت بصيغة جزمية، بل ينبغي القول بحجية جميع مراسيله، بل جميع ما ابتدأ فيه باسم شخص لم يذكر طريقه إليه في المشيخة، إذا كان هو و من يروي عنه من الوسائط إن وجدت من الثقات، و الوجه في ذلك إنه (قدس سره) قد شهد في مقدمة كتابه بصحة جميع ما رواه فيه، حيث قال: (و لم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه بل قصدت إلي إيراد ما أفتي به و أحكم بصحته و أعتقد فيه إنه حجة فيما بيني و بين ربي تقدس ذكره و تعالت قدرته) «1». و علي

ضوء هذا فتفريقه بين الروايات في التعبير، حيث يعبر تارة بالرواية، و أخري بالقول، و ثالثة بالسؤال، أو يستعمل صيغة المعلوم تارة، و صيغة المجهول أخري. إلخ ليس إلا ضربا من التفنن في التعبير، حذرا من التكرار الممل كما يشهد له اختلاف تعبيره في مورد رأو واحد ممن إليه سند في المشيخة. و بهذا يظهر بطلان كل مبني يستند إلي التفريق بين هذه التعابير، كأن يقال «2» مثلا: إن أسانيد المشيخة لا تشمل الروايات التي وردت في الفقيه

______________________________

(1) من لا يحضر الفقيه 1/ 3.

(2) مستند العروة الوثقي كتاب الصوم 2/ 203.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 88

بصيغة المجهول أعني (روي)، أو يقال: إنها لا تشمل ما عبر فيه بصيغة السؤال، لان الأسانيد إنما هي إلي روايات الرجال و ليست إلي أسئلتهم، أو غير ذلك مضافا إلي بطلان أمثال هذه التفاصيل بوجوه أخري تعرضنا لها في محل آخر.

و ثالثا: إن هذا الحديث أي لا ضرر و لا ضرار في الإسلام قد أورده الصدوق كما ذكرنا سابقا و سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالي في مقام الاحتجاج علي العامة، و ذكر الحديث في هذا السياق لا يعني الاعتراف بصحته و لو كان التعبير بظاهره جزميا، لأنه حينئذ في قوة أن يقول (مع قول النبي صلي الله عليه و آله فيما رويتموه.) و علي ذلك فلا يمكن تصحيح هذا الحديث و إن قلنا بصحة مراسيله المسندة إلي المعصوم عليه السلام بصيغة جزمية في سائر الموارد. و بذلك كله يظهر عدم تمامية الوجه المذكور.

الوجه الثالث: أن يقال: إن هذا الخبر مع هذه الزيادة و إن كان ضعيفا سندا إلا أنه منجبر ضعفه بعمل الأصحاب به

و اعتمادهم عليه، كالصدوق في الفقيه و الشيخ في الخلاف و العلامة في التذكرة و غيرهم. و يمكن أن يناقش فيه بعد تسليم

الكبري. أولا: بأن هذا المقدار لا يكفي في جبر الخبر الضعيف، فإن الجبر عند القائل به إنما يتم في موارد عمل المشهور به لا بمجرد عمل البعض كما هو الحال في المقام.

و ثانيا: إنه لم يظهر اعتماد هذا البعض أيضا علي حديث (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام)، لأن ما يستدل به علماؤنا في المسائل الخلافية من الروايات المروية بطرق العامة، ليس من باب الاعتماد عليها و إنما هو من باب الاحتجاج علي الخصم بما يعترف بحجيته، و نقل الرواية في الخلاف

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 89

و التذكرة إنما هو من هذا القبيل. بل الأمر كذلك في نقل الفقيه أيضا لأن هذا الكتاب و إن لم يكن قد وضعه شيخنا الصدوق (قده) للمحاجة مع العامة في الفروع، إلا أنه قد تعرض لرد كلامهم في عدة مسائل خلافية، و قد كان منهجه في هذه المسائل نقل أخبار العامة التي تؤيد رأي الإمامية و تقوم حجة عليهم. و كانت من تلكم المسائل مسألة إرث المسلم من الكافر، و هي التي ذكر فيها حديث (لا ضرر و لا ضرار مع زيادة في الإسلام) فقد ذهب أكثر العامة إلي أن المسلم لا يرث الكافر، و ذهب الإمامية إلي أنه يرثه، و لكن الكافر لا يرث من المسلم و قد وافقهم في ذلك جمع من العامة أيضا، و نسبوا ذلك إلي معاذ، و معاوية، و محمد بن الحنفية، و علي بن الحسين، و مسروق، و عبد الله بن معقل، و الشعبي، و النخعي، و يحيي بن معمر، و إسحاق، و هو رواية عن عمر «1»، و ذكر الشوكاني في نيل الأوطار في شرح قوله صلي الله

عليه و آله (لا يتوارث أهل ملتين) إنه لا يرث أهل ملة كفرية، من أهل ملة كفرية أخري، و به قال الأوزاعي و مالك و أحمد و الهادوية، و حمله الجمهور علي أن إحدي الملتين هي الإسلام و الأخري هي الكفر و لا يخفي بعد ذلك «2». و نحن ننقل فيما يلي عبارة الصدوق في هذه المسألة مع تعقيبها بشي ء من الشرح لكي يتضح ما ذكرناه قال «3» (قده): (باب ميراث أهل الملل: لا يتوارث أهل ملتين و المسلم يرث الكافر و الكافر لا يرث المسلم) و يلاحظ إن تعقيب الجملة الأولي التي هي موضع استدلال العامة بالجملة الثانية، بيان

______________________________

(1) المغني 7: 167.

(2) نيل الأوطار 6: 194.

(3) الفقيه 4: 244/ 782.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 90

للجواب عن هذا الاستدلال بأن المراد هو نفي التوارث من الطرفين متخذا ذلك من بعض الاخبار التي نقلها بعد ذلك، و هو خبر عبد الرحمن بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام قال لا يتوارث أهل ملتين نحن نرثهم و لا يرثونا، و نفي التوارث لا يستلزم نفي الإرث من أحد الطرفين للاخر. ثم قال (قده) (و ذلك إن أصل الحكم في أموال المشركين أنها في للمسلمين و إن المسلمين أحق بها من المشركين) «1» و المقصود بهذه العبارة بيان أن رجوع أموالهم إلي المسلمين أمر علي وفق القاعدة، إلا أن الذمة منعت عن استحلال أموالهم من قبل المسلمين، و هذا نوع استحسان ذكره احتجاجا علي العامة. ثم قال (ره) (و إن الله عز و جل إنما حرم علي الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم، كما حرم علي القاتل عقوبة لقتله) «2» و هذا من قبيل استنباط

العلة للحكم بملاحظة ما يشترك معه في ذلك لمنع تعميمه لميراث المسلم من الكافر و هو من قبيل القياس. ثم قال (قده) (فأما المسلم فلأي جرم و عقوبة يحرم الميراث) و هذا أيضا مبني علي استنباط أن موانع الإرث إنما هي من قبيل العقاب علي فعل قبيح لا محالة كالقتل و الكفر، فلا معني لحرمان المسلم من الميراث، و هذا نوع من الاجتهاد بالرأي أيضا ذكر احتجاجا علي العامة. ثم ذكر (قده) (و كيف صار الإسلام يزيده شرا) و هذا الاستبعاد إذا كان استبعادا للموضوع في نفسه كما يظهر من لحنه بغض النظر عن توجيهه بملاحظة الأخبار التي نقلها بعد ذلك فهو أيضا نوع من الاجتهاد بالرأي. ثم قال (ره) مع قول النبي صلي الله عليه و آله (الإسلام يزيد و لا ينقص) و هذا أحد أدلة من قال بقولنا من العامة و هو جزء من رواية أبي الأسود

______________________________

(1) الفقيه 4: 243.

(2) الفقيه 4: 243.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 91

التي نقلها (قده) بعد ذلك، و هي مروية في كثير من كتبهم كما سيجي ء، و قد أجاب عنه ابن حجر في فتح الباري بأنه محمول علي أنه يفضل عن غيره من الأديان و لا تعلق له بالإرث. ثم ذكر (قده) و مع قوله (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) و قد مضي تخريج هذا الحديث بهذا اللفظ من مصادرهم. و يلاحظ أيضا إنه لم يحتج بهذا الحديث علي مذهب الإمامية في هذه المسألة السيد المرتضي في الانتصار، و الشيخ الطوسي في الخلاف، و لعل منشؤه أن مبني الاستدلال به هنا علي حمل كلمة (الإسلام) علي الاعتقاد بالدين، و جعل كلمة (في) للتعليل

ليكون المعني (لا ضرر و لا ضرار علي المرء بإسلامه) و هذا مخالف لظاهر الحديث من كون الإسلام بمعني الدين و كون (في) للظرفية كما سيجي ء توضيحه إن شاء الله تعالي. ثم ذكره (قده) (فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا) و هذا استنتاج من الخبرين فهو من كلام الصدوق نفسه و ليس في الروايات كما ظنه صاحب الوسائل (ره). ثم قال (قده) (و مع قوله عليه السلام الإسلام يعلو و لا يعلي عليه)، و هذا الحديث مروي أيضا من طرق العامة رواه البخاري في صحيحه «1» و قد استدل به في نيل الأوطار «2» علي هذا القول. ثم ذكر (ره) (و الكفار بمنزلة الموتي لا يحجبون و لا يرثون) و هذا تقريب للموضوع. ثم قال (قده) (و روي عن أبي الأسود الدؤلي أن معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه، و قالوا: يهودي مات و ترك أخا مسلما، فقال معاذ

______________________________

(1) صحيح البخاري 2: 17 (فيه عن ابن عباس و بإسقاط قوله عليه عن آخره).

(2) نيل الأوطار 6: 193.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 92

سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول الإسلام يزيد و لا ينقص، فورث المسلم من أخيه اليهودي) و هذه الرواية مذكورة في مسند أحمد «1»، و المستدرك للحاكم «2»، و نقلت عن سنن أبي داود و البيهقي «3»، و قد أوردها السيد المرتضي في الانتصار «4»، و قال (علي أن هذه الاخبار معارضة بما يرويه مخالفونا و قال: حدثني أبو الأسود الدؤلي: أن رجلا حدثه أن معاذا قال سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول (الإسلام يزيد و لا ينقص فورث المسلم)، و منه

يظهر أن نقل أبي الأسود عن معاذ مرسل، و لا إشكال في أن الصدوق (قده) إنما نقل هذا الحديث من مصادر العامة، أو من كتب بعض قدمائنا ممن ألف في الرد عليهم كالفضل بن شاذان و غيره. فظهر مما تقدم إن الصدوق (قده) إنما نقل حديث (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) من كتب العامة و أورده احتجاجا به عليهم، و ذلك لقرينتين: الأول: إنه نقل هذا الخبر في مقام الاحتجاج علي العامة في مسألة خلافية بيننا و بينهم. الثانية: إن سائر الروايات التي نقلها في هذا المقطع من كلامه، إنما نقلها عن العامة و لا توجد في شي ء من كتبنا، بل إن سائر الأدلة التي ذكرها إنما هي من قبيل الاجتهاد بالرأي من القياس و الاستحسان و نحوهما مما لا حجية له لدي الإمامية، و قد استعملها في مقام الإلزام، فهذا يكشف عن أن منهجه الاستدلالي في هذا الموضع، إنما كان علي البحث مع العامة وفق مبادئهم و أسسهم، و لا ينفع في هذا السياق ذكر خبر مروي من طرق

______________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 5/ 230.

(2) المستدرك علي الصحيحين 4: 345.

(3) سنن أبي داود 3: 126/ 2913.

(4) الانتصار: 304.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 93

الإمامية، كما هو واضح. فيها تين القرينتين يحصل الوثوق بأن الصدوق (قده) قد أورد خبر (لا ضرر و لا ضرار في الإسلام) من طرق العامة و إنما احتج به عليهم في مسألة خلافية، كما فعل من بعده كالشيخ الطوسي في الخلاف و العلامة في التذكرة. و بذلك يظهر عدم تمامية دعوي انجبار الحديث مع الزيادة بعمل الأصحاب، فلا دليل علي ثبوت هذه الزيادة و اعتبارها.

المقام الثاني: في تضيق زيادة (علي المؤمن) في آخر الحديث

اشارة

، إن

هذه الزيادة قد وردت في رواية ابن مسكان، عن زرارة في قضية سمرة، لكنها لم ترد في معتبرة ابن بكير، عن زرارة، التي نقلت نفس القضية، كما لم ترد في سائر موارد نقل الحديث، من طرق الخاصة و العامة، فهل تثبت هذه الزيادة في الحديث برواية ابن مسكان، كما ذهب إليه العلامة شيخ الشريعة «1» و غيره أم لا؟ كما اختاره المحقق النائيني «2» و آخرون؟ و القول بثبوت هذه الزيادة يتوقف علي الالتزام بأمرين:

الأول: حجية رواية ابن مسكان في نفسها.

الثاني: تقديمها بعد حجيتها علي ما لا يتضمن تلك الزيادة.

أما الأمر الأول: فيشكل الالتزام به من جهة إن الرواية مرسلة
اشارة

، و لا سيما أن مرسلها البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء، و لكن مع ذلك فقد يقال بحجيتها لأحد وجهين:

الوجه الأول: وجود الرواية في الكافي فلا يضرها الإرسال بعد ذلك

، و ذكر هذا المحقق النائيني (قدس سره) «3» و قد حكي عنه أنه قال (إن الخدشة

______________________________

(1) رسالة لا ضرر 15.

(2) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 19.

(3) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 19.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 94

في إسناد روايات الكافي من حرفة العاجز) «1»، و يبدو أن العلامة شيخ الشريعة أيضا اعتمد علي هذا الوجه، و لعل تأثره بالوجوه التي ذكرها المحدث النوري في خاتمة المستدرك في تصحيح أحاديث الكافي. و لكن تلك الوجوه ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها كما أوضحنا ذلك في بعض أبحاثنا الرجالية.

الوجه الثاني: أن يقال إن أصل هذه القضية التي ذكرت في رواية ابن مسكان عن زرارة قد ثبتت أيضا برواية ابن بكير

، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، و برواية أبي عبيدة عنه عليه السلام أيضا، فمطابقة رواية ابن مسكان في أصل القضية لتلك الروايتين مما يوجب الوثوق بصدورها. و يرد عليه: أولا: إنه إذا كان مبني الاعتماد علي رواية ابن مسكان توافقها في المضمون مع روايتي ابن بكير و أبي عبيدة، فاللازم الاقتصار في ذلك علي موارد الاتفاق فيما بينها، و لا يمكن التعدي عنها إلي موارد الاختلاف، فإن قضية سمرة بنقل ابن بكير عن زرارة لم تتضمن زيادة (علي مؤمن) و إن تضمنت أصل حديث (لا ضرر و لا ضرار) كما أنها بنقل أبي عبيدة لم تتضمن أصل الحديث، فكيف يمكن الالتزام باعتبار رواية ابن مسكان في مورد الاختلاف بينها و بين تلك الروايتين بسبب التوافق بينها في أصل القضية؟! و ثانيا: إن رواية ابن بكير غير متضمنة لهذه الزيادة، و لا يمكن توجيه عدم تضمنها لها بأنه من باب الاختصار مع أنه حذف لما يخل بالمعني حذفه لان الاختصار في مثل ذلك لا يوافق أصول الاختصار المعمولة في باب الروايات

كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالي، و علي هذا فالقول

______________________________

(1) معجم الرجال 1: 87.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 95

باعتبار رواية ابن مسكان في هذا الموضع، مع منافاتها مع مصدر اعتبارها، و هو خبر ابن بكير مما لا محصل له، لان مرجعه إلي أنه إذا كان هناك خبران متعارضان يشتركان في جزء من مضمونهما، و كان أحدهما حجة في نفسه دون الأخر، فإن الثاني يكون حجة في جميع مضمونه بملاحظة اشتراكه مع الأول في جزء من مضمونه، ثم يتعارضان في نقطة الاختلاف بينهما، و ربما يتقدم الثاني علي الأول الذي اكتسب منه الحجية ببعض الوجوه و الاعتبارات،! و هذا أمر لا ريب في بطلانه. فتحصل مما تقدم إن رواية ابن مسكان لم يثبت اعتبارها في نفسها لتكون حجة علي ثبوت زيادة (علي مؤمن) في آخر الحديث.

و أما الأمر الثاني: و هو تقديم هذه الرواية المتضمنة للزيادة علي تقدير حجيتها علي ما لا يتضمن الزيادة
اشارة

و هي رواية ابن بكير، فربما يحتج له: بأن مقتضي الأصل في دوران الأمر بين الزيادة و النقيصة هو البناء علي الزائد و الأخذ به و اعتبار الخلل في مورد النقص. و تحقيق الكلام في ذلك يستدعي البحث في مقامين: المقام الأول: في ثبوت الأصل المذكور و هو بحث مهم جدا، لانه يتضمن مسألة سيالة كثيرة الدوران في الفقه. و المقام الثاني: فيما يقتضيه الموقف علي تقدير عدم ثبوت هذا الأصل.

أما المقام الأول: فيلاحظ أن مقتضي القاعدة الأولية هو أعمال قواعد المتعارضين
اشارة

من الترجيح أو التساقط، لان الدليلين هنا من قبيل المتعارضين بالنسبة إلي كيفية النقل فيجري فيهما القواعد العامة في باب التعارض و هي تقتضي ملاحظة المزايا في الجانبين فإن اقتضت رجحان أحدهما أو أوجبت الوثوق به علي القولين في باب التعارض من كفاية الرجحان في الترجيح أو

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 96

اعتبار الوثوق كما هو المختار أخذ بالجانب الراجح سواء كان هو الزيادة أو النقيصة و إلا تساقط الدليلان و لم يمكن الاعتماد علي أي منهما. هذا بحسب الأصل الاولي. و

أما الأصل الثانوي المقتضي لتقديم جانب الزيادة علي جانب النقيصة
اشارة

كقاعدة عامة في موارد دوران الأمر بينهما ففي حقيقته احتمالان

الاحتمال الأول: أن يكون صغري و تطبيقا للقاعدة العامة للترجيح الصدوري

لا أصلا موضعيا يرجح جانب الزيادة مستقلا عن تلك القاعدة و ذلك بأن يكون المقصود به التعبير عن وجود مزية نوعية قائمة في طرف الزيادة دائما أو غالبا بحيث توجب أقربية الزيادة إلي الصدور من النقيصة، في فرض عدم رجحان طرف النقيصة في القيمة الاحتمالية للصدور، و إلا لم يرجح جانب الزيادة و لم يؤخذ بها. و بناء علي تفسير القاعدة المذكورة بهذا الاحتمال فيمكن الاستدلال عليها بوجهين.

الوجه الأول: أن يقال إن احتمال الغفلة في جانب الزيادة أبعد من احتمالها في جانب النقيصة فيلزم الأخذ به، و لعل وجه الابعدية أن الغفلة بمعني الذهول إنما تتناسب بحسب طبيعتها لان تكون سببا لترك شي ء ثابت لا لإثبات شي ء غير واقع كما هو مشاهد وجدانا. و يرد عليه:

أولا: بأن الأمر لا يدور بين الغفلتين، ليرجح احتمال عدم الغفلة في جانب الزيادة علي احتمال عدم الغفلة في جانب النقيصة، فإن لكل من الزيادة و النقيصة مناشئ أخري غير ذلك، فقد تتحقق الزيادة لأجل النقل بالمعني علي أساس أن الراوي يستفيد قيدا للكلام من القرائن المحتفة به حسب فهمه فيتبعه و لا يثبته غيره لانه لم يستفده منها، و قد تتحقق النقيصة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 97

من جهة الاختصار في النقل، أو تصور كون القيد توضيحيا لا احترازيا مثلا، فلا بد من ملاحظة مجموع الاحتمالات و درجة كل احتمال بحد ذاته ثم الحكم علي ضوء ذلك.

و ثانيا: بأنه لو فرض دوران الأمر بين الغفلتين فإن أبعدية الغفلة في جانب الزيادة لا تقتضي إلا أرجحية احتمال الغفلة في جانب النقيصة بمعني الظن بوقوعها و لكن قد حقق

في محله إنه لا يكفي الرجحان بمعني الظن في تقديم أحد المتعارضين علي الأخر، لعدم الدليل علي حجية الظن بالصدور لا تعبدا و لا عقلا، بل العبرة في ذلك بالوثوق بأحد الطرفين، بنحو يوجب انصراف الريبة الحاصلة من العلم الإجمالي بخطإ أحدهما إلي الطرف الأخر دون هذا الطرف.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الزيادة ليس لها تفسير علي تقدير صدق الراوي إلا الغفلة فينفي هذا الاحتمال بأصالة عدم الغفلة، و أما النقيصة فيمكن تفسيرها بوجوه آخر، من قبيل الاختصار في النقل أو توهم تساوي وجود الزيادة و عدمها في المعني و غير ذلك، و من هنا يرجح احتمال وقوع النقيصة في الناقص و يبني علي ثبوت الزيادة. و يرد عليه:

أولا: أن سبب الزيادة كما تقدم لا ينحصر بالغفلة، بل قد تكون الزيادة من جهة النقل بالمعني بعد فهم الزائد من لحن الكلام و مناسبات الحكم و الموضوع، أو بلحاظ ما اعتقده الراوي من القرائن المقامية المحتفة بالكلام أو لغير ذلك، فالنسبة بين مناشئ الزيادة و النقيصة ليست عموما و خصوصا مطلقا بأن تكون مناشئ الزيادة مناشئ للنقيصة أيضا و لا عكس كما ذكره بعض الأعاظم «1».

______________________________

(1) الامام الخميني (قده) في الرسائل 26 27 نحوه.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 98

و ثانيا: إنه لا عبرة بمجرد زيادة المحتملات في أحد الجانبين بالنسبة إلي الجانب الأخر، بل لا بد من ملاحظة درجة الاحتمال في كل واحد منهما علي ضوء جهات أخري من قبيل وحدة الراوي و تعدده أو قرب الاسناد و بعده، أو أوثقية رواة أحد النقلين بالنسبة إلي رواة الأخر و هكذا، فمجرد زيادة المحتملات في جانب النقيصة لا يوجب أرجحية احتمال وقوعها في مقابل

احتمال وقوع الزيادة.

و ثالثا: لو سلمنا أرجحية احتمال وقوع النقيصة من احتمال وقوع الزيادة إلا أنه لا يستوجب الأخذ به لعدم حجية الظن في هذا الباب كما تقدم آنفا.

الاحتمال الثاني: في تفسير الأصل المذكور: أن يكون أصلا موضعيا يرجح جانب الزيادة علي النقيصة من جهة الصدور

مستقلا عن القاعدة العامة للترجيح بمعني لزوم الأخذ بالزيادة و البناء علي صحتها بغض النظر عن تكافؤ الاحتمالين أو أرجحية جانب الزيادة أو أرجحية جانب النقيصة ما لم تصل إلي درجة الاطمئنان و الوثوق، و إلا كان العمل بالخبر الموثوق به دون الأخر و إن كان متضمنا للزيادة أو النقيصة. و قد يستظهر هذا الاحتمال من كلام العلامة شيخ الشريعة (قده) حيث قال «1» بعد نقل اختلاف الروايات في هذه الزيادة: و بناء علي القاعدة المطردة المسلمة إن الزيادة إذا ثبتت في طريق قدمت علي النقيصة، و حكم بوجودها في الواقع و سقوطها عن رواية من روي بدونها، و إن السقوط إنما وقع نسيانا أو اختصارا أو توهما بأنه لا فرق بين وجودها و عدمها إلا التأكيد، أو غير ذلك من وجوه ما يعتذر به للنقص في قضية شخصية ثبتت في طريق آخر مع

______________________________

(1) رسالة لا ضرر 15.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 99

الزيادة، فينتج ما ذكر أن الثابت في قضية سمرة هو قوله- (لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن) لا هما مجردين. انتهي. و لكن يرد عليه علي تقدير تمامية الاستظهار المذكور-: إلا: أنه لم يثبت هناك أصل عقلائي في خصوص المقام يقتضي البناء علي صحة الزيادة، و إنما العبرة عند العقلاء بقيام القرائن الموجبة للوثوق بأحد الطرفين، كما في سائر الموارد الأخري، فمتي حصل الوثوق بأحدهما بعد تجميع القرائن في كل واحد منهما بنوا عليه، سواء أ كان هو ثبوت الزيادة

أو عدم ثبوتها، و إلا تساقطا معا، و دعوي اطراد تقديم الزيادة في تعارض الطرق ممنوعة جدا، فهل تري أن أحدا إذا كان في مقام استلام ألف دينار من غيره، فأمر اثنين بعد المبلغ فعده أحدهما ألفا، و الآخر ألفا و خمسة و عشرين، فهل تراه يقدم قول الأول بالبناء علي أصالة ثبوت الزيادة و يرجع خمسة و عشرين دينارا إلي صاحب المال؟! و ثانيا: إن ما ذكره (قدس سره) من كون ذلك مسلما عند الكل في غير محله، بل وقع الاختلاف فيه بين العامة و الخاصة، و نقتصر علي الإشارة إلي آراء بعضهم، فالمحقق النائيني (قدس سره) مثلا يري أن مبني الأصل المذكور هو أبعدية احتمال الغفلة بالنسبة إلي الزيادة عن احتمالها بالنسبة إلي النقيصة، و هذه الابعدية لا تتم فيما لو كان الراوي للزائد واحدا و للناقص متعددا «1»، فهذا يدل علي أنه (قده) لا يري البناء علي الزيادة أصلا برأسه، بل يراه مبنيا علي محاسبة الاحتمالات و اختلاف درجتها في الجانبين. و الزيلعي من محدثي العامة ذكر في كلام له في نصب الراية «2» ما نصه

______________________________

(1) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 192

(2) نصب الراية 1/ 336.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 100

(إن قيل إن الزيادة من الثقة مقبولة، قلنا ليس ذلك مجمعا عليه بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقا، و منهم من لا يقبلها و الصحيح هو التفصيل: و هو أنها تقبل في موضع دون موضع فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظا ثبتا، و الذي لم يذكرها مثله أو دونه في الوثاقة و تقبل في موضع آخر بقرائن تحفها و من

حكم حكما عاما فقد غلط). و هكذا اتضح مما تقدم أنه لا وجه لترجيح جانب الزيادة علي جانب النقيصة علي أساس قاعدة عامة تقتضي ذلك، سواء كانت تطبيقا للقاعدة العامة للترجيح الصدوري أو أصلا مستقلا برأسه، و علي ضوء ذلك فلا يمكن إثبات زيادة (علي مؤمن) في الحديث استنادا إلي هذا الأصل. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

و أما المقام الثاني: و هو فيما يقتضيه الموقف بعد عدم تمامية الأصل المذكور، ففيه وجهان:
الوجه الأول: أن يرجح ثبوت الزيادة في هذه الحالة أيضا

بتقريب: أن من لاحظ رواية ابن مسكان المتضمنة لزيادة (علي مؤمن)، و قارن بينها و بين روايتي ابن بكير و أبي عبيدة يجد أن سياقها قائم علي التفصيل و ذكر خصوصيات ما دار بين الرجل الأنصاري و بين سمرة، ثم ما دار بينهما و بين رسول الله صلي الله عليه و آله، بينما الروايتان الأخريان ليس سياقهما في ذكر تمام الخصوصيات، فرواية ابن مسكان ليست في مستوي الروايتين إجمالا و تفصيلا حتي يتوقع تضمنهما لما تضمنته، ليكون عدم تضمنهما لشي ء جاء فيها موجبا للتشكيك في ثبوته، بل إنها تمثل الصورة التفصيلية للقضية بينما هما يتضمنان الصورة الإجمالية لها فعدم ذكر كلمة (علي مؤمن) فيهما لعدم كونهما في هذا السياق. و يرد عليه: أن للاختصار أصولا و قواعد لا تأتي في جميع الموارد،

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 101

فربما يصح الاختصار و يكون مناسبا في مورد لخلو التفصيل عن أي فائدة مهمة، و لا يكون كذلك في مورد آخر، و المقام من هذا القبيل فإن الاختصار في نقل التفاصيل الدائرة في القضية مما ليس لها أثر فقهي لا يقارن بالاختصار في نقل كلام النبي صلي الله عليه و آله الذي هو في مقام إلقاء كبري كلية بحذف بعض كلماته، فالإجمال من الجهة الأولي موافق لأصول الاختصار،

بخلافه من الجهة الثانية فلا يمكن قياس الثاني بالأول.

الوجه الثاني: أن يرجح عدم ثبوت الزيادة
اشارة

، و يخرج ورودها في رواية ابن مسكان علي أنها كانت إضافة من الراوي لفهمه من مناسبات الحكم و الموضوع كما ذكره المحقق النائيني (قده) و ذلك بتصور أن المنع من الإضرار بالغير يمثل رحمة بالنسبة إليه، و لا يناسب شمول ذلك للكافر الذي أمرنا بالشدة معه كما في قوله تعالي (أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ) «1»، فلا محالة تختص كبري لا ضرر و لا ضرار بالمؤمن فيزاد لفظ (علي مؤمن). و هذا الوجه هو الأقرب في النظر لرجحان رواية ابن بكير، الخالية عن الزيادة المذكورة من عدة جهات يمكن بملاحظة مجموعها ترجيح الوجه المزبور

و هذه الجهات هي:
الأولي: قرب الاسناد في رواية ابن بكير

، فإن بين الكليني و بين الامام عليه السلام في رواية ابن بكير، عن زرارة خمس وسائط و بينه و بين الإمام في رواية ابن مسكان ست وسائط و معلوم أنه كلما قل عدد الوسائط يقل معه احتمال مخالفة النقل للواقع، لان احتمال المخالفة يجي ء في كل واحد من الرواة فيقل بطبيعة الحال فيما كان أقرب إسنادا إلي الامام عليه السلام.

الثانية: تعدد الرواة في رواية ابن بكير دون رواية ابن مسكان

، فإن

______________________________

(1) سورة الفتح 48/ 29.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 102

الرواة عن عبد الله بن بكير في كل طبقة لا تقل عن رجلين، بملاحظة ضم طريق الصدوق في المشيخة إلي طريق الكليني، و أما في رواية ابن مسكان فالراوي في كل طبقة رجل واحد فقط. هذا مضافا إلي إن كتاب (عبد الله بن بكير) كان كثير الرواة كما ذكر ذلك النجاشي، و أما كتاب (عبد الله بن مسكان) فلم يذكر ذلك بشأنه، فلو استظهرنا أن مصدر الكليني أو الصدوق فيما روياه عن عبد الله بن بكير نفس كتابه، فلا تقاس حينئذ روايته برواية ابن مسكان، من حيث الاعتبار. و لكن لا سبيل إلي هذا الاستظهار بالنسبة إلي نقل الكليني كما هو واضح، و قد يقال بثبوته بالنسبة إلي نقل الصدوق لأنه ابتدأ باسم ابن بكير و له طريق إليه في المشيخة، فيعلم بذلك أنه أخذ رواياته من كتابه، و لكن هذا ليس بصحيح كما تقدمت الإشارة إليه لأن الصدوق (قده) لم يتقيد في الفقيه بالابتداء باسم صاحب الكتاب الذي أخذ الحديث من كتابه بل يبتدأ باسم غيره كثيرا، فمجرد الابتداء باسم شخص و إن كان له سند إليه في المشيخة، أو كان كتابه مشهورا لا يقتضي كون مصدره في النقل عنه

نفس كتابه.

الثالثة: إن رواة الحديث في سند الصدوق إلي ابن بكير أعظم شأنا

و أجل قدرا من رواته في سند الكليني إلي ابن مسكان، فمن رواة الأول (الحسن بن علي بن فضال) الذي قال عنه الشيخ: كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهدا ورعا ثقة في الحديث، و منهم (أحمد بن محمد بن عيسي) الذي قال عنه النجاشي: شيخ القميين و وجههم و فقيههم غير مدافع، و من رواة الثاني ذلك المجهول الذي روي عنه محمد بن خالد البرقي و لم يذكر اسمه، و قد ذكر في شأن البرقي أنه كان ضعيفا في الحديث يروي عن الضعفاء و يعتمد المراسيل، و منهم أحمد بن محمد بن خالد الذي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 103

قال عنه ابن الغضائري طعن عليه القميون و ليس الطعن فيه و إنما الطعن فيمن يروي عنه، فإنه كان لا يبالي عمن يأخذ علي طريقة أهل الاخبار، و قال الشيخ: كان ثقة في نفسه غير إنه أكثر الرواة عن الضعفاء و اعتمد المراسيل. و نحوه كلام النجاشي.

الرابعة: إن الكليني قد فرق بين روايتي ابن بكير و ابن مسكان في كيفية النقل من وجهين

يقتضيان أرجحية رواية ابن بكير و هما 1 إنه نقل رواية ابن بكير في أوائل الباب و نقل رواية ابن مسكان في أواخره، و فصل بينهما بجملة أحاديث تختلف عنهما موضوعا، فهذا قد يدل علي إن ذكر الثانية كان علي سبيل الاستشهاد و التأييد لا علي سبيل الاعتماد علي ما هو دأبه فيما عرفناه بالتتبع في كتابه من ترتيب الروايات علي حسب مراتبها عنده في الصحة و الاعتبار، و قد تنبه لهذا بعض المحققين أيضا «1».

2 إنه نقل رواية ابن بكير بتوسط العدة عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، و لكنه نقل رواية ابن مسكان بتوسط علي بن محمد بن بندار عنه، و لا يبعد أن

يكون منشأ ذلك إنه قد نقل الرواية الأولي عن النسخة المشهورة أو الأجزاء المشهورة من كتاب المحاسن للبرقي، لذا نقلها بتوسط العدة، و أما الثانية فنقلها من غير كتاب المحاسن أو غير النسخة أو الأجزاء المشهورة منه فلذا كان الراوي لها واحدا. و توضح ذلك إن كتاب المحاسن للبرقي و إن عد من الكتب المشهورة كما في مقدمة الفقه إلا أن جميعه لم يكن كذلك، و قد ذكر الشيخ و النجاشي: إنه قد زيد في المحاسن و نقص و قد اختلف الرواة في عدد

______________________________

(1) روضات الجنات 6/ 116.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 104

كتبه، و مما يدل علي عدم اشتهار جميعه ما في ترجمة محمد بن عبد الله الحميري من إنه قال: كان السبب في تصنيفي هذه الكتب إشارة إلي بعض كتبه إني تفقدت فهرست كتب الخاصة التي صنفها أحمد بن أبي عبد الله البرقي، و نسختها و رويتها عمن رواها عنه و سقطت هذه السنة عني فلم أجد لها نسخة، فسألت إخواننا بقم و بغداد و الري فلم أجدها عند أحد منهم فرجعت إلي الأصول فأخرجتها و ألزمت كل حديث منها كتابه و بابه الذي شاكله. و كيف كان فلا إشكال في أن كتب المحاسن لم يكن كلها غلي مستوي واحد من الشهرة و النقل، فلو كانت رواية بن بكير مروية من الكتب المشهورة دون رواية ابن مسكان، كما يومئ إليه توسط العدد في نقل الاولي، و علي بن محمد بن بندار فقط في نقل الثانية، كانت الولي أوثق و أقرب إلي الاعتبار.

الخامسة: إن زيادة (علي مؤمن) لم ترد في سائر موارد نقل حديث (لا ضرر و لا ضرار)

في كتب العامة و الخاصة سواء ما جاء في ضمن قضية خاصة و غيره، و هذا مما يقرب احتمال

كونها من قبل الراوي. فتحصل مما تقدم إن الأصح عدم ثبوت زيادة (علي مؤمن) في ذيل حديث لا ضرر.

المقام الثالث: مما يتعلق بمتن الحديث:

في تحقيق حال القسم الثاني منه و هو لفظ (لا ضرر) و قد اختلف فيه مصادر العامة و الخاصة، أما باختلاف الروايات أو باختلاف النسخ و هذا هو الكثر. أما في (مصادر العامة) فقد نقل الحديث فيها علي أنحاء: ما لا يتضمن القسم الثاني أصلا كالمروي عن جامع الصنعاني بإسناد عن الحجاج بن أرطاة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 105

قال النبي صلي الله عليه و آله: (لا ضرر في الإسلام). و هذا يحتمل فيه السقوط للجملة الثانية.

2 ما يتضمنه بصيغة (لا ضرورة) كرواية أبي هريرة المروية في سنن الدارقطني، إذ جاء فيها (لا ضرر و لا ضرورة) و كرواية عبادة بن الصامت علي ما في كنز العمال نقلا عن زيادات عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه، و صحيح أبي عوانة و المعجم الكبير للطبراني، و لكن سائر مصادر رواية عبادة مما اطلعنا عليه نقلت حديثه بصيغة (لإضرار) و هي الموجودة في مسند أحمد بن حنبل.

3 ما يتضمنه بصيغة (لا إضرار) كرواية ابن عباس بنقل أحمد بن حنبل، و الدارقطني و رواية أبي سعيد الخدري بنقل الدارقطني أيضا، و رواية عائشة بنقل الزيلعي عن معجم الطبراني.

________________________________________

سيستاني، سيد علي حسيني، قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، در يك جلد، ه ق قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)؛ ص: 105

4 ما يتضمنه بصيغة (لا ضرار) و هذا هو الأكثر شيوعا في مصادرهم الحديثية و الفقهية. و أما (مصادر الخاصة) و ما يلحق بها ككتاب

دعائم الإسلام، فهي مختلفة علي النحوين الأخيرين: (لا ضرار) و (لا إضرار) كما يلي:

1 رواية ابن بكير عن زرارة: ورد فيها في بعض نسخ الكافي و هي النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول بصيغة (لا إضرار) «1»، و لكن ورد في الطبعة القديمة و الحديثة من الكافي و كذا التهذيب بطبعتيه و الفقيه بطبعته النجفية و الوسائل و الوافي جميعا بصيغة (لا ضرار) «2».

______________________________

(1) في النسخة التي بين أيدينا من المرآة 19/ 394 395 ح 2 لا ضرار. و لكن في الطبعة الحجرية 3/ 433 فيها: لا إضرار.

(2) الكافي ط قديم 1/ 414، ط حديث 5/ 292 ح 2، التهذيب ط قديم 2/ 158، ط حديث 7/ 146، الفقيه 3/ 147، ح 648، الوسائل 25/ 428 429 ح 32281، الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 10.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 106

2 رواية ابن مسكان عن زرارة: ورد فيها (بصيغة (لا إضرار) في الكافي المطبوع بهامش مرآة العقول، و كذا في الوافي «1» و لكن في الطبعتين القديمة و الحديثة من الكافي و كذا في الوسائل بصيغة (لا ضرار) «2».

3 رواية عقبة بن خالد في الشفعة: ورد فيها بصيغة (لا إضرار) في الفقيه الطبعة الحديثة و كذا في الوافي نقلا عن الكافي و التهذيب و الفقيه «3»، و لكن في غيرهما من المصادر ورد بصيغة (لا ضرار) «4».

4 رواية عقبة بن خالد في منع فضل الماء: ورد فيها في الوافي بصيغة (لا إضرار) «5» و لكن في غيره ورد بصيغة (لا ضرار) «6».

5 مرسلة الصدوق: ورد فيها بلفظ (لا إضرار) في المطبوعة النجفية من الفقيه «7»، و لكن في الوسائل بصيغة (لا ضرار) «8».

6 مرسلة

ابن أبي جمهور: ورد فيها بلفظ (لا إضرار) في النسخة المخطوطة التي اطلعنا عليها من عوالي اللئالي «9».

7 مرسلة دعائم الإسلام في حديث هدم الحائط: ورد فيها بصيغة

______________________________

(1) الكافي ط قديم 1/ 414، مرآة العقول 3/ 433، الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 143.

(2) الكافي ط حديث 5/ 294 ح 8، الوسائل 25/ 429 ح 32282.

(3) الفقيه 3: 45/ 154، الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 103، الكافي ط قديم 1/ 410.

(4) الكافي 5: 28/ 4، التهذيب 7: 164/ 727، التهذيب ط قديم 2/ 162، الوسائل ط 25: 399 400 ح 32217.

(5) الوافي المجلد 3 الجزء 10/ 136، مرآة العقول 3/ 434 وط قديم 1/ 414.

(6) الوسائل 25: 420/ 32257، الكافي 5/ 293 294 ح 6، الكافي المطبوع في المرآة 19: 397 398.

(7) الفقيه 4/ 243 ح 777.

(8) الوسائل 26/ 14 ح 32382.

(9) و هي من موقوفات مقبرة فقيه عصره السيد أبو الحسن الأصفهاني (قده) في النجف الأشرف.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 107

(لا إضرار) علي ما في مطبوعته المصرية، و لكن في المستدرك عنه بصيغة (لا ضرار) مع جعل (لا إضرار) نسخة بدل عنها «1».

8 مرسلة دعائم الإسلام الأخري: ورد فيها بصيغة (لا إضرار) في جملة من نسخها المخطوطة التي اعتمدها محقق الطبعة المصرية، و في واحدة منها بصيغة (لا ضرار) كما هو كذلك في المستدرك أيضا «2» 9 المصادر الفقهية و غيرها كالخلاف و التذكرة و التبيان و الغنية «3» و نحوها: ورد فيها بالصيغتين تارة (لا ضرار) و أخري (لا إضرار) و الأكثر هي الأولي. و بعد ملاحظة اختلاف لفظ الحديث باختلاف النسخ أو الروايات فما هو الأرجح من بينها؟! الظاهر إن

الأمر دائر بين صيغتي (لا ضرار و لا إضرار)، و أما ما ورد في بعض مصادر العامة من حذف القسم الثاني من الحديث رأسا أو ثبته بصيغة (لا ضرورة) فلا يمكن الاعتماد عليه أصلا كما هو واضح، و الأرجح في النظر من الصيغتين المذكورتين هي الأولي منهما أي (لا ضرار) كما استقربه في مجمع البحرين أيضا و ذلك لوجوه. الأول: إنه ورد في عنوان الكافي (باب الضرار) «4» و هو يناسب كون الصيغة المستعملة في الحديث (لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار) كما لا يخفي. الثاني: إنه قد جاء في قضية سمرة توصيف النبي صلي الله عليه و آله

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 504 ح 1805، مستدرك الوسائل 17/ 118 ح 20927.

(2) دعائم الإسلام 2/ 499 ح 1881، مستدرك الوسائل 17/ 118 ح 20928. الخلاف 3/ 42 ذيل المسألة 60 وص 81 ذيل المسألة 131 وص 83 ذيل المسألة 136،

(3) التبيان 1/ 379 و الغنية الطبعة الحجرية غير مرقمة.

(4) الكافي ط حديث 5/ 292.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 108

لسمرة بأنه رجل مضار كما تضمن ذلك خبر ابن مسكان و خبر أبي عبيدة و بعض أخبار العامة، و لفظ (مضار) صفة من باب المفاعلة كلفظ (ضرار) فيناسب أن تكون الكبري المذكورة في القضية بصيغة المفاعلة أيضا ليسانخ الصفة المذكورة فيه.

الثالث: إن الشهيد في القواعد «1» اعتني بضبط الكلمة و ذكر أنها بكسر الضاد و حذف الهمزة.

الرابع: إنه ورد في رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة قوله عليه السلام (هذا الضرار) و هو يناسب أن تكون الكبري التي يبدو إن الامام عليه السلام كان بصدد تطبيقها بهذا اللفظ أيضا دون غيره.

الخامس: إن كتب اللغة اتفقت

علي ضبط الكلمة بصيغة (ضرار) و ضبطها للألفاظ أكثر اعتبارا من ضبط كتب الحديث و الفقه لتركيزها علي هيئة الكلمة بحسب طبعها مما يبعدها عن التحريف أكثر من غيرها. فبمجموع هذه الوجوه يطمئن بأن لفظ الحديث هو (لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار). فتحصل من جميع ما ذكرناه إن الصيغة الثابتة للحديث إنما هي (لا ضرر و لا ضرار) كما هو المعروف دون نقص أو تغيير أو زيادة و بذلك يتم الكلام في الفصل الأول و هو البحث عن سند الحديث و متنه.

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 1/ 123.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 109

(الفصل الثاني في تحقيق مفاد الحديث)

اشارة

و قبل الدخول في البحث لا بأس بذكر بعض كلمات اللغويين في شرح معني الحديث و توضيح المراد به. قال أبو عبيد كما في النهاية: و فيه أي في الحديث لا ضرر و لا ضرار في الإسلام، الضر ضد النفع، ضره يضره ضرا و ضرارا، و أضر به يضر إضرارا، فمعني قوله (لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه، و الضرار فعال من الضر: أي لا يجازيه علي إضراره بإدخال الضرر عليه. و الضرر: فعل الواحد، و الضرار فعل الاثنين، و الضرر ابتداء الفعل، و الضرار: الجزاء عليه، و قيل الضرر ما تضر به صاحبك و تشفع به أنت، و الضرار أن تضره من غير أن تنتفع به و قيل هما بمعني و تكرارهما للتأكيد. و قال الأزهري: روي عن النبي صلي الله عليه و آله إنه قال لا ضرر و لا ضرار في الإسلام، و لكل واحدة من اللفظتين معني غير الأخر، فمعني قوله (لا ضرر) اي لا يضر الرجل أخاه فينقص شيئا من

حقه أو مسلكه، و هو ضد النفع، و قوله (لا ضرار) أي لا يضار الرجل أخاه مجازاة فينقصه و يدخل عليه الضرر في شي ء فيجازيه بمثله، فالضرار منهما معا و الضرر فعل واحد، و معني قوله (و لا ضرار) أي لا يدخل الضرر و النقصان علي الذي ضره و لكن يعفو عنه كقول الله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) «1». هذا و الكلام في تحقيق معني الحديث يقع تارة في مفاد المادة اللغوية

______________________________

(1) سورة فصلت 41/ 34.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 110

للضرر و الإضرار و الضرار، و أخري في مفاد هيئتها الإفرادية، و ثالثة في مفاد الهيئة التركيبية للجملتين فهنا ثلاثة مقامات.

المقام الأول: في مفاد مادة (ض رر) و قد ذكر اللغويون لها معان كثيرة

اشارة

، كالنقص و الضيق و سوء الحال و الزمانة و العمي و المرض و الهزال و الحاجة و القحط و الإيذاء و العلة و غير ذلك. و لكن لا إشكال في إن هذه المادة ليس لها هذه الكثرة من المعاني، بل المفهوم منها بحد ذاتها ليس إلا معني واحدا أو اثنين أو ثلاثة و أما البواقي فليست معان للمادة و توضيح ذلك: إن المعاني المذكورة تنقسم باعتبار سعتها و ضيقها إلي فئتين: فئة المعاني العامة، و فئة المعاني الخاصة. أما فئة المعاني العامة فهي المفاهيم التي تكون أبعد عن الخصوصيات و أكثر تجردا عنها و أقرب إلي الشمول و السعة بالنسبة إلي سائرها، و هي ثلاثة معاني من بين المذكورات (النقص ضد النفع-، و الضيق، و سوء الحال) و أما فئة المعاني الخاصة فهي سائر المعاني المذكورة التي هي ذات حدود ضيقة و تعتبر مصاديق للفئة الاولي كالعمي و الزمانة و المرض.

و هذه الفئة لا إشكال في إنها ليست من معاني المادة، لأن المفهوم من المادة بحسب طبيعة معناها إنما هو مفهوم عام لا يدخل فيه شي ء من تلك الخصوصيات، فمفهوم الضرر و مشتقاته لا يرادف العمي و الزمانة و المرض و الهزال و نحوها بل هي مصاديق له جزما، و إنما ذكرت في كلمات اللغويين في عداد معاني المادة بسببين أما خلطا للمفهوم بالمصداق بمعني خلط المعني الوضعي المدلول عليه بنفس اللفظ بالمعني التأليفي المستفاد من الكلام علي نحو تعدد الدال و المدلول، و أما بغرض بيان ما أطلق عليه اللفظ سواء أ كان معني له أو مصداقا لمعناه، لان ذكر المصاديق يعين علي معرفة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 111

معني المادة و حدوده. و كيف كان فلا إشكال في أن فئة المعاني الخاصة المتقدمة خارجة عما يحتمل أن يكون معني لمادة (ض رر)، و لكن المعاني الثلاثة العامة و هي النقص و الضيق و سوء الحال هل هي جميعا معاني لمادة تطلق عليها بالاشتراك اللفظي أو إن للمادة معني واحدا فقط، و إن المذكورات مرشحات لتمثيل هذا المعني العام؟! ربما يستظهر الوجه الأول من كلمات كثير من اللغويين، و لكن الصحيح هو الوجه الثاني، لأن المنساق من هذه المادة علي اختلاف مشتقاتها و في مختلف موارد استعمالها ليس إلا معني عاما واحدا، لا يختلف باختلاف الموارد فينبغي طرح المعاني الثلاثة المتقدمة كاقتراحات في تعيين هذا المعني العام الوحداني

فهنا عدة اقتراحات:

الأول: أن يجعل المعني الأصلي، (سوء الحال)

و يرجع المعنيان الآخران إليه، و هذا هو الذي اختاره الراغب في مفرداته قال (الضر سوء الحال إما في نفسه كقلة العلم و الفضل و الفقه و إما في بدنه لعدم جارحة و نقص، أو

في حالة ظاهرة من قلة مال و جاه). و الملاحظ عليه إن سوء الحال من المفاهيم المعنوية المحضة بخلاف الضيق و النقص فإنهما من المعافي المحسوسة، و فرض الأمور المعنوية المحضة معني أصيلا للفظ يخالف طبيعة اللغة، فإن أصول اللغة معاني محسوسة و إنما ارتبطت الألفاظ بالمفاهيم غير المحسوسة متأصلة كانت أو اعتبارية بالتطور في المفاهيم الأصلية المحسوسة، و لذلك قلنا في محله في الأصول إن الاعتبارات المتأصلة كالاعتبارات القانونية مثل الملكية و الزوجية متأخرة في حدوثها عن الاعتبارات الأدبية كالاستعارات و المجازات، كما إن الاعتبارات الأدبية متأخرة عن المعاني الحسية، فالمعاني الحسية هي بمثابة رأس المال

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 112

للمفاهيم اللغوية، حتي أن لفظ (العقل) المعبر عن القوة المفكرة للإنسان أصله من (عقال البعير) و هو الحبل الذي يشد به ليمنعه عن الحركة و هو أمر محسوس، و هذا يشير إلي مدي أصالة المفاهيم الحسية في تكوين اللغة، و عليه فتفسير اللفظ بمعني حسي أو أعم من الحسي و غيره بحيث يكون أصيلا في الحس ثم يتطور إلي معني أعم هو الأقرب إلي طبيعة اللغة و ما يعرف من مبادئ تكوينها، ففي المقام يكون تفسير مادة (ض رر) بالضيق أو النقص أولي و أقرب من تفسيرها بمفهوم تجريدي كسوء الحال. و الحاصل إن تفسير الضرر بسوء الحال بعيد عن المعني اللغوي و الراغب الأصفهاني الذي فسره به يغلب عليه النزعة الفلسفية في تفسير المفردات اللغوية، فهو يفسر اللغة بالمنظار الفلسفي و انتزاعه لمعني اللفظ متأثر في حالات كثيرة بهذه النظرة، كما إن بعضا آخر من اللغويين، كالفيومي في المصباح المنير متأثر بالمصطلحات الفقهية في ذكر معاني الألفاظ، و قد أوضحنا اختلاف

حال اللغوي و تأثرهم بالعوامل الدخيلة في تفسير معاني الألفاظ في البحث عن حجية قول اللغوي في الأصول فلاحظ.

الثاني: أن يجعل المعني الأصلي (الضيق) سواء أ كان حسيا مكانيا أو معنويا حاليا

، بحيث يكون استعمال الضرر في موارد النقص و سوء الحال إنما هو بلحاظ تسبيبها للضيق. و يرد عليه: إن الملاحظ كثرة استعمال الضرر في موارد النقص و إن لم يستوجب ضيقا علي الشخص، مضافا إلي أن الضيق قد جعل في الآية الكريمة (وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) «1» غاية للإضرار فلا ينسجم مع

______________________________

(1) سورة الطلاق 65/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 113

كون الضرر بمعني الضيق إذ لا معني لجعل الشي ء غاية لنفسه فتدبر.

الثالث: أن يجعل المعني الأصلي (النقص)

و هذا هو الصحيح لأنه. أنسب للتدرج في توسعة دائرة مفهوم اللفظ من الأمور المحسوسة إلي غيرها، و أقدر علي استيعاب الموارد المختلفة التي استعملت فيها هذه المادة من دون عناية و تنزيل. و المقصود بالنقص نقص الشي ء عما ينبغي أن يكون عليه سواء كان النقص في الكم المتصل كما في مورد ضيق المكان، أم في الكم المنفصل كما في نقص النقود و ما ماثلها من أقسام العروض، أم في الكيف كما في سوء الحال بالمرض، أم في العين كما في المركبات الخارجية كنقص العضو، أم في مورد الاعتبار القانوني كعدم مراعاة حق من حقوق الآخرين كما في قضية سمرة حيث لم يراع حق الأنصاري في أن يعيش حرا في بيته بدخوله عليه من غير استيذان.

هذا و قد يفصل في المقام فيقال: إن معني المادة في المجرد و في باب الافعال أي في لفظ الضرر و الإضرار و تصاريفهما، هو النقص في الأموال و الأنفس كما هي أيضا مورد مقابله أي النفع فلا يطلق الضرر و الإضرار في موارد التضييق علي الشخص و إحراجه بسلب حقه و إيذائه و نحو ذلك كما يشهد به العرف، و أما في

باب المفاعلة كالضرار و المضارة فهو عكس ذلك، فإنه يستعمل في التضييق علي الشخص و إيقاعه في الحرج و المشقة دون النقص، كما يظهر ذلك بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا الباب في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة، كما في قوله تعالي (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 114

مِنْ قَبْلُ) «1» فإن الكفار كانوا يقصدون باتخاذهم هذا المسجد تضعيف المسلمين و تفريقهم و تقوية أعدائهم كما يظهر من تتمة الآية، لا إدخال الضرر المالي و النفسي عليهم، و من ذلك استعمال الضرار في مورد قضية سمرة فإن سمرة لم يكن يضر بالانصاري مالا أو نفسا و إنما كان يضيق عليه حياته و يحرجه في بيته كما هو ظاهر. و لكن ملاحظة موارد الاستعمال تشهد ببطلان هذا التفصيل لاستعمال الضرر و الإضرار في موارد التضييق و النقص معا، و استعمال الضرار في موارد النقص المالي أو النفسي كما يستعمل في موارد التضييق، و من الأول قوله تعالي (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلّٰا أَذيً) «2» و قوله صلي الله عليه و آله (من أضر بامرأته حتي تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار) و من الثاني قوله تعالي (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصيٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) «3» و قوله عليه السلام في صحيحة الغنوي (هذا الضرار) إشارة إلي مطالبة الشريك بذبح الحيوان مع إباء الشريك الأخر عن ذلك. هذا فيما يتعلق بتشخيص المعني العام لمادة (ض رر).

المقام الثاني: في مفاد الهيئة الإفرادية للضرر «4» و الضرار و الإضرار

اشارة

______________________________

(1) سورة التوبة 9/ 107.

(2) سورة آل عمران 3/ 111.

(3) سورة النساء 4/ 12.

(4) قد يقال لا وجه للبحث حول

هيئة الضرر فإنها إن كانت مصدرا فلا توجد هيئة نوعية موضوعة لمصدر الثلاثي المضاعف الأفعل بسكون العين لا بفتحها، و إن كانت اسم مصدر فاسم المصدر موضوع بوضع شخصي بمادته و هيئته لمعني خاص و ليست له هيئة نوعية ذات دلالة مستقلة عن دلالة المادة؟ و جواب ذلك إن المراد بمفاد الهيئة مطلق الدلالة التي تكون منوطة بها، و إن كان ذلك بوضع شخصي، و لا إشكال في أن معني المصدر أو اسم المصدر إنما يستفاد بملاحظة الهيئة و المادة باعتبارهما جزئين من الكلمة، إذ مادة (ض رر) لا تدل علي ذلك كما هو واضح، بل ثبوت الوضع النوعي مطلقا حتي في الهيئات العامة كالأفعال و الصفات مما لم بثبت عند السيد الأستاذ (قده) كما تعرض له في مباحث الألفاظ من علم الأصول، بملاحظة طبيعة تكون اللغة فإن اللغة باعتبار انطلاقها من المجتمعات البدائية، فلا يتصور في مفرداتها الوضع النوعي، لأن الوضع النوعي مفاده تجريد الذهن لصورة لفظية عامة متحررة من جميع المراد و وضعها لمعني خاص، و هذا إبداع عقلي لا يتصور في الوضاع البدائي كما لا يخفي.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 115

أما (الضرر)

فهو بحسب الهيئة اسم حدث و أسماء الاحداث يمكن تقسيمها إلي ثلاثة أقسام:

الأول: ما يدل علي المعني المصدري.

الثاني: ما يدل علي المعني الاسمي.

الثالث: ما يشترك بين المعني المصدري و المعني الاسمي و الفرق بين المصدر و اسمه معني علي ما هو المحقق في محله إن المعني المصدري يتضمن نسبة تقييدية ناقصة كالنسبة التي تحتويها الأوصاف علي أحد قولين، و أما المعني الاسمي فهو نفس المعني دون نسبة تقترن به، فنسبة المصدر إلي اسم المصدر نسبة الإيجاد إلي الوجود فهما

متحدان خارجا مختلفان بالاعتبار، فمثلا إذا لوحظ (العلم) كمعني خاص من غير لحاظه منسوبا إلي عالم أو معلوم كما في المفعول المطلق حيث يقال (علمت علما) كان معناه معني اسميا، و إذا لوحظ منسوبا إلي العالم مثلا كما في قولنا (علم زيد بكذا محرز) كان معناه معني مصدريا. و أما الفرق بينهما لفظا فهو موجود في بعض اللغات كاللغة الفارسية حيث إن المصدر فيها غالبا مختوم بالنون دون اسم المصدر كما يقال (رفتن

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 116

و رفتار، كفتن و كفتار، كشتن و كشتار، كردن و كردان، كتك و زدن، كردش، كرديدن.) و لكن في اللغة العربية لا امتياز بينهما في اللفظ غالبا، فيستعمل اللفظ الواحد في كلا المعنيين، نعم ربما يختص أحدهما بلفظ خاص. و الظاهر إن لفظة (الضرر) اسم مصدر كما عدها بعض علماء اللغة لأن المعني المنساق منها لا يتضمن النسبة التقييدية فلاحظ.

و أما (الضرار)

اشارة

فهو مصدر علي وزن (فعال) لباب (فاعل يفاعل) و المصدر الأخر لهذا الباب هو (المفاعلة) يقال: ضاره يضاره مضارة و ضرارا، و يعبر عن هذا الباب بباب المفاعلة نسبة إلي أشهر مصادرها، و قد نسب إلي جمع من اللغويين القول بأن باب المفاعلة موضوع للمشاركة، بمعني إن كلا من الطرفين فعل بالآخر مثل ما فعله الآخر به ك د (ضارب زيد عمروا)، و لكن احدي النسبتين في ذلك أصلية و الأخري تبعية. و لكن من لاحظ موارد الاستعمالات القرآنية و غيرها لا يجد تمثل معني المشاركة فيها. كقوله تعالي (وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»). و قوله تعالي (وَ

الْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلٰادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضٰاعَةَ وَ عَلَي الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لٰا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّٰا وُسْعَهٰا لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَي الْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ»).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 117

و قوله تعالي (وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ. وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ) «1».

و قوله تعالي (وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلٰالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصيٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ. وَصِيَّةً مِنَ اللّٰهِ) «2».

و قوله تعالي (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) «3».

و قوله تعالي (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) «4»، و قوله صلي الله عليه و آله مخاطبا لسمرة كما في خبر أبي عبيدة ما أراك يا سمرة إلا مضارا، و قوله عليه السلام في حديث عتق بعض الشركاء حصة من العبد (و إن أعتق الشريك مضارا و هو معسر) إلي غير ذلك من الموارد التي لا يلاحظ في شي ء منها تمثل معني المشاركة. و لكن ربما يحاول تأويل بعض هذه الموارد تحقيقا لمعني المشاركة فيها فيقال مثلا في جملة منها: إن المشاركة إنما هو بلحاظ أن الإضرار بالغير يستتبع الضرر علي النفس ضررا اجتماعيا أو أخرويا فيتحقق معني المفاعلة، أو يقال في مورد قضية سمرة إن العناية الموجبة لاستعمال هذا الباب فيه هو إصرار سمرة علي الإضرار بالانصاري، فكأن إصراره علي الإضرار صار بمنزلة صدور الفعل بين

الاثنين منه فإضراره بمنزلة إضرارين، أو يقال فيه أيضا: إن الرجل الأنصاري و إن كان لم يضر سمرة حقيقة إلا أن منعه إياه عن الدخول إلي نخلته كان مضرا به في نظره، إلي غير ذلك من

______________________________

(1) سورة البقرة 2/ 282.

(2) سورة النساء 4/ 12.

(3) سورة التوبة 9/ 107.

(4) سورة الطلاق 65/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 118

الوجوه التي ذكرت في تأويل جملة من الموارد التي لم يتضح فيها معني المشاركة.

و يرد علي هذه الوجوه مضافا إلي وضوح ضعفها في أنفسها، و عدم علاجها لجميع موارد استعمال هذا الباب إنه لا مبرر للإصرار علي تأويل هذه الموارد، بعد أن ثبت مجي ء باب المفاعلة لغير المشاركة، بل كثرة مجيئها لذلك كما يظهر بالتتبع في القواميس اللغوية، لاحظ: شاور و سافر و جادل و سارع و ساور و خادع و نافق و ناجي و بادر و عاند و سامح و راجع و عاين و شاهد و كابر و زاول و ضارب و آجر و زارع. إلي غير ذلك، و قد اعترف بهذا علماء اللغة في علم الصرف حيث ذكروا لباب المفاعلة عدة معان كما سيأتي إن شاء الله. و كيف كان فبعد وضوح عدم تمامية الاتجاه المذكور في تفسير صيغ المفاعلة و هو القول بدلالتها علي المشاركة دائما

فهناك اتجاهان رئيسيان
اشارة

في هذا المجال يبتني أحدهما علي تعدد المعني و الآخر علي وحدته.

أما الاتجاه الأول: فهو الذي سلكه علماء الصرف حيث جعلوا لهيئة باب المفاعلة عدة معان:

منها: التكثير كباب (فعل) كضاعف الشي ء و ضعفته بمعني كثرت أضعافه، و ناعمه الله و نعمه بمعني إنه أكثر نعمه عليه. و منها: أن يكون بمعني المجرد كسافرت بمعني سفرت أي خرجت إلي السفر، و ربما يقال إنه في ذلك يفيد المبالغة في الأسفار. و منها: جعل الشي ء ذا صفة كأفعل و فعل نحو راعنا سمعك و ارعنا أي اجعله ذا رعاية لنا، و صاعر خده و صعره، و عافاك الله أي جعلك ذا عافية، و عاقبت فلانا أي جعلته ذا عقوبة.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 119

و ممن ذهب إلي هذا الاتجاه المحقق الرضي الأسترآبادي (قده) في شرح الشافية، و عليه يمكن القول بأن معني المضارة هنا هو معني المجرد و لو مع إفادة المبالغة و التأكيد فيقال (ضره ضررا، و ضاره ضرارا) بمعني واحد بلا فارق جوهري بينهما. و لكن هذا الاتجاه إنما يتعين الأخذ به إذا لم يمكن الاتجاه الثاني المبني علي وحدة معني هذا الباب من تقديم معني عام يصلح لجمع شمل الموارد المذكورة، و إلا يتعين الأخذ بالاتجاه الثاني إذ لا مبرر لدعوي تعدد المعني حينئذ، فإنها تكون كدعوي تعدد معني المادة لغة.

و أما الاتجاه الثاني: فيضم عدة مسالك:
المسلك الأول: ما اختاره جمع من المحققين من أن هيئة المفاعلة تقتضي السعي إلي الفعل
اشارة

، فإذا قلت (قتلت) فقد أخبرت عن وقوع القتل و إذا قلت (قاتلت) فقد أخبرت عن السعي إلي القتل، فربما يقع و ربما لا يقع، و لا تقتضي المشاركة، نعم ربما تكون المادة في نفسها مقتضية للمشاركة من غير ارتباط لها بالهيئة و ذلك كما في المساواة و المحاذاة و المشاركة و المقابلة، و الشاهد علي عدم استفادة المشاركة من الهيئة عدة آيات. منها: قوله تعالي (يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلّٰا

أَنْفُسَهُمْ) «1»، فذكر سبحانه إن المنافقين بصدد إيجاد الخدعة لكن لا تقع خدعتهم إلا علي أنفسهم، و من ثم عبر في الجملة الأولي بهيئة المفاعلة، لأن الله تعالي لا يكون مخدوعا بخدعتهم لان المخدوع ملزوم للجهل

______________________________

(1) سورة البقرة 2/ 9.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 120

و تعالي الله عنه علوا كبيرا، و عبر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد لوقوع ضرر خدعتهم علي أنفسهم لا محالة. و منها: قوله تعالي (إِنَّ اللّٰهَ اشْتَريٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ) «1» حيث ذكر تحقق القتل الفعلي من الجانبين بعد ذكر تحقق القتال معطوفا عليه بالفاء، مما يدل علي المغايرة بينهما، و أن معني القتال هو السعي إلي القتل دون نفس القتل الذي فصله بعد ذلك. و يلاحظ عليه: أولا بالنقض: فإن السعي إلي الفعل و إن كان يستفاد في بعض موارد هذا الباب كما ذكر، إلا إنه لا يطرد في أغلب أمثلته لعدم صدقها دون تحقق المعني فعلا، فلا يقال سافر أو جادل أو طالع أو سارع أو شاهد أو عاوض لمجرد محاولة السفر أو الجدل أو المطالعة أو السرعة أو الشهود أو التعويض، و هكذا في موارد كثيرة أخري، مضافا إلي إن هناك بعض الموارد التي تقتضي معني آخر غير السعي إلي الفعل أو تحققه فعلا كما في باب المغالبة يقال (كارمه فكرمه) بمعني فاخره في الكرم فغلبه فيه و (شاعره فشعره) أي حاول غلبته في الشعر فغلبه و نحو ذلك. و ثانيا بالحل و هو: إن استفادة السعي إلي الفعل من بعض أمثلة هذا الباب لا يستند إلي الهيئة بل إلي المادة، و

ليس المقصود بالمادة هنا المبدأ الجلي كالغلبة في المغالبة و الخدعة في المخادعة لوضوح إنه لا يستبطن معني السعي، و إنما المراد بها المبدأ الخفي الذي أوضحناه فكرة و تطبيقا في مبحث المشتق، و

نكتفي هنا بذكر أمرين اختصارا لما أوردناه هناك:
اشارة

______________________________

(1) سورة التوبة 9/ 111.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 121

الأمر الأول: أن المبدأ الذي يكون أحد جزءي المعني في المشتق بالمعني الأعم

المؤلف من المادة و الهيئة الشامل للفعل المزيد فيه علي قسمين:

1 المبدأ الجلي، و هو المعني الفعلي للمادة دون إضافة عنصر آخر إليه كالعلم في العالم و القصد في القاصد، فإن مثل هذه المشتقات لو حللت، يلاحظ أن المبدأ فيها نفس المعني الفعلي للمادة دون إضافة جهة أخري كالمضي و القابلية و نحو ذلك.

2 المبدأ الخفي، و هو معني المادة ملحوظا في المشتق علي نحو خاص و هو علي أصناف. منها: أن يلحظ فيه بنحو القابلية، كما في اسم الآلة كالمفتاح و المنشار و المكنسة، فإن المبدأ فيها قابلية الفتح و النشر و الكنس لا فعلية هذه الأمور. و منها: أن يلحظ فيه علي نحو الحرفة و المهنة كما في التاجر و النجار و الزارع فإن المبدأ فيها حرفة التجارة و النجارة و الزراعة لا فعليتها. و منها: أن يلحظ فيه بنحو الاقتضاء كما في توصيف النار بأنها محرقة، و السم بأنه قاتل، فإن المبدأ في ذلك اقتضاء هذه المعاني لا فعليتها. فيلاحظ أن الخصوصية المضافة إلي معني المادة في هذه الحالات، إنما هي باعتبار إشراب المادة إياها، ثم صياغتها مقرونة بها بالصيغة الخاصة، و ليست الخصوصية مستفادة من ذات الصيغة و الهيئة بل من المادة حين تطعيمها بمعني آخر. و علي ضوء هذا يتجلي لنا ما وقع من الخلط بين مفاد الهيئة و مفاد المادة في كلمات كثير من اللغويين و الأصوليين، حيث جعلوا كل خصوصية

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 122

معنوية زائدة علي أصل معني المادة، مدلولة للهيئة و مستفادة منها مبنيا علي تصور اختصاص المبدأ في المشتقات

بالمبدإ الجلي، بينما تستند كثير من الخصوصيات إلي المبدأ الخفي كما ذكرنا. و قد أنتج الخلط المذكور أخطاء كثيرة في تحقيق معني الهيئات، حيث أن إسناد تلكم الخصوصيات إلي الهيئة أوجب الحكم باشتراكها بين معاني متعددة في موارد كثيرة، منها المقام علي وفق الاتجاه الأول المبني علي تعدد المعني في صيغ باب المفاعلة، و ربما جعلت إحدي تلك الخصوصيات معني عاما للصيغة، كما في المقام علي مبني من جعل باب المفاعلة للمشاركة فقط، و منه أيضا ما ذكر في مبحث المشتق حيث لاحظ كثير من الأصوليين التلبس و عدمه بالقياس إلي المبدأ الجلي في الأمثلة المتقدمة كالمفتاح و المنشار و التاجر و النجار فاستدلوا بها علي قول من يري أن المشتق أعم من المتلبس بالمبدإ و المنقضي عنه التلبس مع أن الصحيح ملاحظة التلبس بالنسبة إلي المبدأ الخفي و هو الاقتضاء و القابلية كما ذكرناه-، فلا تكون في الأمثلة المذكورة و نحوها شهادة علي القول بوضع المشتق للأعم.

الأمر الثاني: أن المبدأ الخفي بما إنه لا يتجلي غالبا إلا في بعض المشتقات

، أوجب ذلك الخلط بينه و بين مفاد الهيئة في كثير من الحالات كما أشرنا إليه-، و لكن يمكن التمييز بينهما بملاحظة بعد المعني بطبيعته عن أن يكون مفادا للهيئة لعدم التسانخ بينه و بينها بحسب الحس اللغوي للعارف باللغة، أو بملاحظة عدم اطراده في سائر موارد الهيئة بعد استظهار وحدة معني الهيئة في جميعها، فيتعين أن يكون منشأ استفادة المعني الخاص غيرها. و يمكن اختبار ذلك في بعض الأمثلة كمثال التاجر، فإنه يستعمل

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 123

فيمن كانت حرفته و مهنته التجارة و إن لم يشتغل بها فعلا و هو استعمال غير مقرون بالعناية ليعد استعمالا مجازيا-، فهنا يمكن تشخيص عدم نشوء

المعني المذكور عن الهيئة إما بلحاظ أن مفاد صيغة (فاعل) حسب ما يقضي به الحس اللغوي، إنما هو وقوع المعني من الذات من غير أن يتضمن دلالة علي الحرفة و المهنة أصلا، و بذلك تكون الدلالة عليها أجنبية عن مفاد الهيئة، أو بلحاظ أن أمثلة هذه الصيغة في سائر الموارد لا تدل علي المعني المذكور، فمع استظهار وحدة المعني المستفاد من الهيئة في جميعها كما يساعده الحس اللغوي يتعين أن تكون الخصوصية المذكورة ملحوظة في المادة لتكون من قبيل المبدأ الخفي. إذا اتضح ما ذكرناه فنقول: إن معني السعي إلي الفعل في بعض أمثلة باب المفاعلة إنما يستند إلي المبدأ الخفي لا إلي هيئة هذا الباب نظير معني الغلبة في (شاعر) و المفاخرة في (كارم)، و الدليل علي ذلك مضافا إلي أن الأنسب بمعني هذا الباب بحسب الحس اللغوي هو نوع معني يكون من قبيل الامتداد (كسافر) أو التكرر (كضاعف) أو المشاركة (كضارب) لا من قبيل السعي، أن هذا المعني لو كان مفاد هيئة باب المفاعلة لوجب الالتزام بتعدد معناها بحسب اختلاف الموارد، و هذا علي خلاف تقدير هذا المسلك و سائر المسالك الاتية في هذا الاتجاه، لما سبق من أن معني السعي لا يتمثل في جميع موارد هذا الباب بل في القليل منها جدا. و علي ضوء هذا يتضح أن السعي نحو الفعل لا يصلح أن يكون هو المعني الموحد العام للهيئة، و لا يمكن طرحه بديلا عن معني المشاركة، كما يتضح عدم صحة النقض علي استفادة المشاركة من هذه الهيئة، بجملة من الأمثلة المتقدمة ك د (ضارب) و (قاتل)، لان بناء النقض بها علي تصور أن المبدأ فيها هو القتل و الضرب فيقال إنه

لا مشاركة فيها، و أما إذا لوحظ

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 124

المبدأ فيها بمعني السعي إلي الفعل فإن معني المشاركة متحقق فيه بوضوح، لأن المضاربة و المقاتلة لا يستعملان إلا في موارد اشتراك الطرفين في السعي إلي الفعل، فهذان المثالان قد يشهدان للقول بدلالة هيئة المفاعلة علي المشاركة، و لا شهادة فيهما علي خلاف ذلك.

المسلك الثاني [هيئة المفاعلة معناها تعدية المادة و إسراؤها إلي الغير مما لم تكن تقتضي التعدي إليه بنفسها]

ما اختاره المحقق الأصفهاني (قدس سره) من إن هيئة المفاعلة معناها تعدية المادة و إسراؤها إلي الغير مما لم تكن تقتضي التعدي إليه بنفسها، و تختلف نتيجة ذلك بحسب اختلاف الموارد، فإن هذه الهيئة تارة توجب أخذ الفعل مفعولا لم يكن يأخذه مباشرة و إنما كان يصل إليه بحرف الجر، إما لانه لم يكن متعديا أصلا كما في (جلس إليه) و (جالسة)، أو لأنه كان متعديا و لكن إلي أمر آخر غير ما أصبح متعديا إليه بهذه الهيئة كما في (كتب الحديث إليه) و (كاتبه الحديث)، فإن المعني في (كتب) لم يكن يتعدي إلي الهاء بنفسه فتعدي إليه في (كاتب). و (أخري) لا توجب أخذ الفعل مفعولا زائدا علي ما كان يأخذه في المجرد كما في (ضرب زيد عمرا) و (ضاربه)، و أثر باب المفاعلة في حصول التعدية إلي الغير في الحالة الأولي واضح، و أما في الحالة الثانية فربما يستشكل في ذلك بتحقق التعدية في المجرد فيكون تحققها بهيئة المفاعلة من قبيل تحصيل الحاصل، إلا إنه يندفع بأن التعدي في المجرد تعدية ذاتية بمعني أن إنهاء المادة و تعديتها إلي المفعول غير ملحوظ في الهيئة لانما هو لازم نسبة الفعل لمفعوله و أما في المزيد فالتعدية و الإنهاء إلي المفعول ملحوظة في مفاد الهيئة فهي تعدية

لحاظية. فالحاصل أن هيئة المفاعلة تقتضي تعدي المادة إلي ما لم تكن تقتضي هيئة المجرد تعديها إليه سواء أ كانت تتعدي إليه في المجرد باعتبار كون ذاك لازم النسبة، أم كانت تصل إليه بوسط حرف الجر.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 125

و قد رتب (قدس سره) علي ذلك استفادة معني التصدي (التعمد و التقصد) لإلحاق المعني بالغير من هيئة باب المفاعلة دون المجرد، إما لكونه لازما لهذا الباب مطلقا كما يظهر من بعض كلماته «1» أو واقع فيه في الجملة كما يظهر من بعض كلماته الأخري «2»، و قد مثل لذلك ب (ضارب) و (خادع) بالقياس إلي (ضرب) و (خدع) فإن الأخيرين لا يقتضيان تعمد الفاعل في الفعل بخلاف الأولين، و لكن المثال الثاني لا يخلو عن إشكال لأن الخدعة في نفسها من المعاني القصدية إذ تتقوم بقصد إيهام الشخص خلاف الواقع، فلا يكون ثمة، فرق بين (خدع) و (خادع) من هذه الجهة، لانما تظهر التفرقة المذكورة حيث لا يكون المعني في المجرد عنوانا قصديا كما في المثال الأول. و قد نسب إليه (قده) المسلك الأول «3» في بعض الكلمات، مع أن الفرق بين هذا المسلك و المسلك السابق واضح لان مفاد هذا المسلك تحقق المعني في باب (فاعل) كتحققه في المجرد مثل ضرب و قتل، إلا أن الفارق بين فاعل كضارب و المجرد كضرب حصول القصد في فاعل دون المجرد، و إنما كان مفاد هذا المسلك هو تحقق المعني لان التحقق لازم تعدية المادة إلي الغير، بخلاف المسلك الأول فإنه كان يري أن مفاد هذا الباب هو السعي إلي تحقق الفعل سواء تحقق الفعل أم لا فالفرق بينهما واضح. و لكن يلاحظ

علي هذا المسلك:

أولا: إن ما ذكره من الفرق بين المزيد و المجرد كضارب و ضرب من كون التعدية في الأول لحاظية و في الثاني ذاتية: غير واضح بل الظاهر

______________________________

(1) نهاية الدراية 2/ 318.

(2) تعليقة المكاسب 2/ 2.

(3) مصباح الفقاهة في المعاملات 2/ 27 28، و مصباح الأصول 2/ 519.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 126

أن التعدية فيهما علي نسق واحد بحكم الوجدان. (فإن قيل): إن الفعل المجرد المتعدي يصح استعماله من دون نسبة إلي المفعول كأن يقال: (ضرب زيد) و لا يصح ذلك في (فاعل) بأن يقال (ضارب زيد) و هذا دليل الفرق المذكور. (قيل): إن هذا مجرد ادعاء لا يسنده دليل لعدم ثبوت فرق بين البابين من هذه الجهة.

و ثانيا: إن المقدار الذي ذكره لا يفسر ما يستفاد في مختلف موارد المادة من الاشتراك أو التكرار أو الامتداد أو نحو ذلك بل ربما كانت استفادة التعمد أحيانا بهذا الاعتبار لان التكرار و نحوه يناسب التقصد و العمد كما ذكر في النظر إلي الأجنبية أن النظرة الأولي تقع لا عن قصد بخلاف النظرة بعد النظرة.

و ثالثا: إنه لم يتضح الترابط بين اقتضاء باب المفاعلة للنسبة إلي المفعول و بين اقتضائه التعمد فإن ملحوظية تعدي النسبة إلي المفعول في هذه الهيئة لا يقتضي كون الفعل قصديا فإن تلك جهة لفظية فحسب كما لا يخفي. نعم قد تدل الكلمة علي التعمد في بعض الموارد لدلالته علي السعي نحو المادة و مصدر هذه الدلالة إنما هو المبدأ الخفي كما ذكرناه آنفا دون دلالة الهيئة علي التعدية و لا يلزم تحقق المادة حينئذ أصلا كما في خادعه و قاتله و غالبه و ما إلي ذلك.

المسلك الثالث: ما عن المحقق الطهراني من أن معني باب المفاعلة هو معني المجرد

إلا أن

المجرد يدل علي أصل حركة المادة فحسب و باب المفاعلة يدل علي تلك الحركة بعينها بنحو من الطول و الامتداد و هو الامتداد في نسبتها بين اثنين فمعني (هاجر) و (طالب) و (سافر) و (باعد)

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 127

أطال الهجرة و الطلب و السفر و البعد و بذلك يفترق عن (هجر و طلب و سفر و بعد) التي تدل علي مجرد التلبس بهذه المعاني. و هذا التفسير:

أولا: يتضمن التناسب بين المبرز و المبرز أي اللفظ و المعني.

و ثانيا: إنه لا ينفك عن جميع الموارد المختلفة التي وردت من هذا الباب فهو مطرد فيها و اطراد المعني في جميع موارد استعمال اللفظ يؤيد كونه مفهوما له.

أما الأول: من التناسب الذاتي بين المبرز و المبرز فلان هيئة (فاعل) تتميز عن هيئة (فعل)، بإضافة ألف بين حركتي هيئة المجرد و هي حركة الفاء و العين و الألف هي نحو إشباع للفتحة و إطالة لها فهي تناسب الطول و الامتداد بطبيعتها.

و أما الثاني: من اطراد هذا المعني في موارد المادة فتوضيحه: إن الامتداد في مورد هذه المادة إنما تكون في نسبتها بين اثنين:

أ فإذا كانت المادة بذاتها مقتضية لامتداد النسبة كما في المجاورة و المحاذاة و نحوهما حيث إنها لا محالة تقتضي نسبة ممتدة بين طرفيها فلا تصلح لها هيئة إلا هيئة المفاعلة و لذلك تصاغ بها ضمانا لأداء هذا المعني. و ليس لخصوص كونها بين اثنين علي نحو الاشتراك مدخلية كما توهم بعض النحاة فأدرجوا بذلك خصوصية مورد الاستعمال في أصل المعني المستعمل فيه المنطبق علي هذا المورد الخاص. بل معناها هو الامتداد الأعم.

ب و إذا لم تكن المادة مقتضية لامتداد النسبة بطبيعتها بأن

كانت صالحة في نفسها للانتساب إلي واحد و اثنين كسار و ساير و بعد و باعد و طلب و طالب و قبل و قابل و نحو ذلك-: فإن معني الامتداد يقتضي إضافتها إلي الغير فإذا لوحظت منضافة إلي الغير حدثت هناك نسبة ممتدة بين اثنين تنحل

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 128

إلي نسبتين كما في القسم الأول. ثم في هذه الحالة (تارة) لا يكون الغير الذي وقع طرفا لهذه النسبة الممتدة مفعولا لأصل المادة و (أخري) يكون مفعولا لها. ففي الفرض الأول يكون مفاد الهيئة التعدية إلي الواحد إن كانت المادة لازمة في المجرد كجلست إليه و جالسته و برزت إليه و بارزته و إلي الاثنين إن كانت متعدية لواحد ك: (جذبت الثوب) و (جاذبته الثوب). و في الفرض الثاني: لا يستفاد من الهيئة تعدية جديدة علي المجرد، و لكن يتغير نوع التعدية و سنخها فالتعدي في (ضرب زيد عمرا) عبارة عن صدور الضرب من زيد و وقوعه علي عمرو و أما في (ضارب) فلا نظر إلي جهة الوقوع علي المفعول، لان نوع تعديه علي نسق تعدي (جاور) و (حاذي)، و إنما هو ناظر إلي أنهما طرفا هذه النسبة الممتدة. و توضيح ذلك: إن الضرب بلحاظ صدوره من الطرفين تعتبر فيه نسبة ممتدة بينهما هي مدلول هيئة (ضارب) و (قاتل) و (جاذب)، و هذه النسبة المخصوصة بحاجة إلي مبدإ تصدر عنه يسمي (فاعلا) و محل تقع عليه يسمي (مفعولا) فيلاحظ فيها مبدأ صدور النسبة الممتدة و محل وقوعها بالاعتبارين. و ربما يصلح كل من الطرفين لكل من الاعتبارين إذا استويا في استناد الحدث إليهما كما تقول (ضارب زيد عمرا) و (ضارب عمرو زيدا)

فتارة يكون زيد مبدأ صدور النسبة و عمرو محل وقوعها كما في المثال الأول و أخري يكون الأمر بالعكس كما في الثاني و ليس للبادي بأصل الفعل و السابق فيه بالشروع خصوصية. فالمفعول في هذا الباب من وقع طرفا للنسبة الممتدة لا من وقع عليه أصل المادة كما في المجرد و لذا ينفك أحد الأمرين عن الأخر كما في (جاذب زيد عمرو الثوب) فإن ما وقع عليه أصل المادة هو الثوب فهو

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 129

المجذوب، و من وقعت عليه النسبة الممتدة هو (عمرو) و إذا اجتمع الأمران أي كان المفعول طرفا للنسبة الممتدة و محلا لوقوع أصل المادة كما في (عمرو) في مثال (ضارب زيد عمرا) فإنهما يختلفان بالاعتبار، فعمرو مفعول لضارب من حيث إنه مضارب لا من حيث إنه مضروب كما في المجرد. هذا تقرير هذا المسلك. (لكن) يلاحظ عليه إنه رغم قربه من جهة ضمانه التناسب بين المبرز و المبرز و قدرته علي تفسير بعض موارد المادة إلا أن ما ذكر في موارد الاشتراك من تصوير الامتداد بلحاظ نسبة منتزعة من النسبتين الموجودتين بين الشخصين اللذين وقعت المادة في كل منهما رغم اختلاف النسبتين من الأطراف لا يخلو عن تكلف و بعد ظاهر. و علي هذا فلا يمكن قبول كون هذا المعني هو المعني الوحداني العام للهيئة. و أما التناسب المذكور فهو و إن صح إلا إن مجرد التناسب الذاتي لا يحسم الأمر في الدلالات اللغوية، بل لا بد من تحقيق الموضوع باستقراء الأمثلة و الموارد و ملاحظة مدي توافقها مع هذا التناسب و اعتباره في مرحلة الوضع.

المسلك الرابع: ما هو المختار

. و بيانه بحاجة إلي ذكر مقدمة هي: إن الدلالات

التي تنضم إلي أصل المادة في مدلول الكلمة في باب المفاعلة ليست جميعها مستندة إلي هيئة هذا الباب، كما كان هو الانطباع السائد لدي اللغويين و كثير من الأصوليين بل هي علي قسمين: فمنها ما يستند إلي الهيئة. و منها: ما يستند إلي المبدأ الخفي الملحوظ في بعض موارد الباب.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 130

و هذا الأمر لا يختص بهذا الباب بل هو أمر سار في أكثر الهيئات إن لم نقل جميعها، فكثيرا ما نري أن هناك معني أو معان تظهر في بعض المواد مع أنها لا تنشأ عن المادة و لا عن الهيئة و إنما مصدرها المبدأ الخفي للكلمة. و قد سبق أن أوضحنا هذه الفكرة و بعض الأمثلة لها في إبطال المسلك الأول، و بينا إنه كيف يتدخل المبدأ الخفي في إيجاد معان غريبة عن المادة في وصفي الفاعل و المفعول، من الاقتضاء و الحرفة و المضي و غير ذلك رغم وحدة مفاد الهيئة فيهما بحسب الوجدان اللغوي. ففي باب المفاعلة أيضا يستند قسم من الدلالات المتفرقة إلي المبدأ الخفي كالسعي إلي الفعل و الغلبة و الفخر و نحو ذلك، مما يظهر بالتتبع. و قد أوجبت الغفلة عن هذا المبدأ بعض الاقتراحات في مفاد الهيئة كالمسلك الأول. (نعم): بعض آخر من الدلالات يستند إلي الهيئة و هذا هو المقصود تحليله في هذا البحث.

و بعد اتضاح هذه المقدمة نقول: إن الظاهر بملاحظة الموارد المختلفة للهيئة إن هذه الهيئة تدل علي نسبة مستتبعة لنسبة أخري بالفعل أو بالقوة، و ذلك مما يختلف بحسب اختلاف الموارد (فتارة) تكون النسبة الأخري كالأول صادرة من نفس هذا الفاعل بالنسبة إلي نفس الشي ء. و (أخري) تكون

إحداهما صادرة من الفاعل و الأخري من المفعول كما في (ضارب) فيعبر عن المعني حينئذ بالمشاركة. و في الحالة الأولي: قد يكون تعدد المعني من قبيل الكم المنفصل فيعبر عنه بالمبالغة كما ذكر في كلام المحقق الرضي (قده) «1» أو يعبر عنه

______________________________

(1) شرح الشافية ط الحجر ص 28.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 131

بالامتداد إذا لم يكن التعدد واضحا كما فسر لفظ المطالعة في بعض الكتب اللغوية كالمنجد بإدامة الاستطلاع مع إنه استطلاعات متعددة في الحقيقة و قد يكون المعني من قبيل الكم المتصل فيكون تكرره بلحاظ انحلاله إلي أفراد متتالية كما في. (سافر) و نحوه و حينئذ يعبر عنه بالامتداد و الطول. و لازمه التعمد و القصد في بعض الموارد نحو تابع و واصل كما مر آنفا. و لا يرد علي ما ذكرنا ما أورده المحقق الأصفهاني علي القول بدلالة الهيئة علي المشاركة، من إنه لا يمكن أن يكون المدلول الواحد محتويا لنسبتين «1» لان المدلول المطابقي علي ما ذكرنا نسبة واحدة لكنها مقيدة بأن تتبعها نسبة أخري علي نحو دخول التقيد و خروج القيد. و علي ضوء ذلك يمكن القول بأن الضرار يفترق عن الضرر بلحاظ إنه يعني تكرر صدور المعني عن الفاعل أو استمراره. و بهذه العناية أطلق النبي صلي الله عليه و آله علي سمرة أنه مضار لتكرر دخوله في دار الأنصاري دون استيذان. و بما ذكرناه يظهر النظر فيما سبق في أول هذا الفصل عن بعض اللغويين في تفسير الضرار في الحديث مقارنة بين مدلوله و مدلول الضرر بعدة تفسيرات.

أحدها: إن الضرر هو فعل الواحد و الضرار فعل الاثنين. و قد سبق عدم تمامية هذا الوجه لان ضرارا

لا يدل علي المشاركة.

الوجه الثاني: إن الضرر ابتداء الفعل و الضرار الجزاء عليه. و الظاهر إن هذا التفسير لا يبتني علي دعوي فهم الابتداء و الجزاء من

______________________________

(1) لاحظ نهاية الدراية 2: 317 318.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 132

مادة الكلمتين أو هيئتهما، لوضوح عدم إفادة شي ء منهما لذلك، و إنما هو نحو توجيه لمفاد الحديث و مع ذلك فلا قرينة علي هذا التحديد لمدلول المادة في الحديث.

الوجه الثالث: إن الضرر ما تضر به و تنتفع به أنت و الضرار أن تضره من غير أن تنتفع به. و هذا الوجه أيضا ليس مبنيا ظاهرا علي دعوي دلالة المادة أو الهيئة علي هذا التحديد، و إنما يبتني علي جهة أخري و هي قيام قرينة خارجية علي ذلك من قبيل بعض موارد تطبيق هذه الكبري. لكن لم تثبت القرينة المذكورة علي هذا التحديد.

الوجه الرابع: أن يكون الضرار بمعني الضرر بعينه. و علي ذلك يبتني ما ذكر من أن (لا ضرار) إنما هو لمجرد التأكيد. و وجه هذا الاعتقاد: تصور إن باب المفاعلة من مادة (الضرار) إنما هو بمعني المجرد منها كما ذكروا ذلك في مواد أخري بناء علي مبناهم من تعدد معني هيئة المفاعلة علي ما تقدم. و قد صرح بذلك في بعض كلماتهم ففي لسان العرب مثلا (ضره يضره ضرا و ضر به و أضر به و ضاره مضارة و ضرارا بمعني) «1». لكن اتضح مما ذكرناه في معني الهيئة فيهما وجود الفرق بين معناهما فالضرر معني اسم مصدري مأخوذ من المجرد، و الضرار مصدر يدل علي نسبة صدورية مستتبعة لنسبة أخري، و لذلك ذكر المحقق الرضي (قده)، إن الصيغة تفيد معني المبالغة، و أوضحنا

في المسلك المختار إن إفادة معني المبالغة إنما هي باعتبار الدلالة علي تكرر النسبة أو استمرارها. هذا ما يتعلق

______________________________

(1) ط بيروت 1955 ه 1375 ه 4/ 482.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 133

بمفاد هيئة (ضرار).

و أما الإضرار الوارد في نسخة أخري في الجملة الثانية للحديث بدلا عن (ضرار) فقد ذكر إنه بمعني المجرد. و هو أحد معاني هذا الباب في علم الصرف كقال و أقال «1» و لكن أفاد المحقق الرضي في شرح الشافية إن ذلك تسامح منهم و إن المقصود إفادته التأكيد و المبالغة «2» كما أن ما ذكر في علم الصرف لهذه الهيئة من المعاني الكثيرة إنما ينشأ أكثرها عن المبدأ الخفي للكلمة علي نسق ما أوضحناه في باب المفاعلة. و أما تحديد المفاد الحقيقي لنفس الهيئة ففيه وجوه و احتمالات. لكن لا يهمنا تحقيق الحال فيها في المقام بعد عدم ثبوت هذه الصيغة في الحديث علي ما أوضحناه في الفصل الأول.

المقام الثالث: في مفاد الهيئة التركيبية

اشارة

. و هذا البحث هو أهم الأبحاث في الموضوع إذ هو المقصد الأصلي و قد اشترك فيه اللغويون و فقهاء الفريقين، إلا إن العمدة ما طرحه المتأخرون من فقهائنا. و يلاحظ عليهم إن المسالك المطروحة عندهم في تفسير الحديث غالبا لم تفرق بين المفاد التركيبي للجملتين (لا ضرر و لا ضرار) مع أن بينهما فرقا واضحا علي المختار. و نحن نتعرض للوجه المختار في كيفية تفسير الحديث و تحقيق معناه، ثم نتعرض لسائر المسالك التي طرحت في ذلك فهنا بحثان:

البحث الأول: في بيان المسلك المختار في تحقيق معني الحديث

اشارة

. و المختار في معني الحديث: إن مفاد القسم الأول منه و هو قوله (لا

______________________________

(1) لاحظ الشافية و شرحها للرضي ط الحجري ص 24، 26 و غيرهما.

(2) لاحظ شرح الشافية ط الحجر ص 26.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 134

ضرر) ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري من نفي التسبيب إلي الضرر بجعل الحكم الضرري. و أما القسم الثاني منه و هو (لا ضرار) فإن معناه التسبيب إلي نفي الإضرار، و ذلك يحتوي علي تشريعين: الأول: تحريم الإضرار تحريما مولويا تكليفيا.

و الثاني: تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية حماية لهذا التحريم. و بذلك يحتوي الحديث علي مفادين:

1 الدلالة علي النهي عن الإضرار.

2 و الدلالة علي نفي الحكم الضرري. و مضافا لذلك دلالته بناء (علي المختار) علي تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الإضرار خارجا، و هذا المفاد استفدناه من الجملة الثانية و بعض الأعاظم استفاده من الجملة الأولي بجعل النهي المستفاد منها نهيا سلطانيا و هو مناقش مبني و بناء كما سيتضح في موضعه إن شاء الله. و لتوضيح استفادة ذلك من الحديث علي المنهج المختار نتعرض لبيان ذلك في ضمن وجهين إجمالي و تفصيلي:

أما الوجه الإجمالي:

فهو إن

نفي تحقق الطبيعة خارجا في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة إليها، يستعمل في مقامات مختلفة كإفادة التحريم المولوي أو الإرشادي أو بيان عدم الحكم المتوهم و ما إلي ذلك. و لكن استفادة كل معني من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع، و بمجموع الملابسات المتعلقة به. و ملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعني الذي ذكرناه لهما.

أما الفقرة الأولي: و هي (لا ضرر) فلان الضرر معني اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر، من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 135

و التنقيص، و هذا المعني بطبعه مرغوب عنه لدي الإنسان، و لا يتحمله أحد عادة إلا بتصور تسبيب شرعي إليه، لان من طبيعة الإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه و يتجنبه، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب إليها بجعل شرعي و لمثل ذلك كان النهي عن الشي ء بعد الأمر به أو توهم الأمر به دالا علي عدم الأمر به كما كان الأمر بالشي ء بعد الحظر أو توهمه معبرا عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الأصول، و علي ضوء هذا كان مفاد (لا ضرر) طبعا، نفي التسبيب إلي الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له. و أما الفقرة الثانية: و هي لا ضرار فهي تختلف في نوع المنفي و سائر الملابسات عن الفقرة الأولي لأن الضرار مصدر يحتوي علي النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار. و صدور هذا المعني من الإنسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضبا و شهوة. و بذلك كان نفيه خارجا من قبل الشارع ظاهرا في التسبيب إلي عدمه و التصدي له، و مقتضي ذلك.

أولا: تحريمه تكليفا فإن التحريم التكليفي خطوة

أولي في منع تحقق الشي ء خارجا.

و ثانيا: تشريع اتخاذ وسائل إجرائية ضد تحقق الإضرار من قبل الحاكم الشرعي، و ذلك لان مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعما بالحماية اجراء لا سيما في مثل (لا ضرار) لا يستوجب انتفاء الطبيعة و لا يصحح نفيها خارجا. و أما الوجه التفصيلي: لدلالة الحديث علي ذلك فتوضيحه: إن هذا الحديث يمثل نفيا لمفهومين (هما الضرر و الضرار)، و هذه الصيغة أعني صيغة النفي رغم وحدتها صورة و وحدة المراد الاستعمالي منها تحتوي علي معان مختلفة بحسب اختلاف الموارد

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 136

فربما: يكون محتواها التحريم المولوي كما في (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ) «1».

و أخري: تكون إرشادا إلي عدم ترتب الأثر القانوني المترتب علي الشي ء كما في (لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق) «2» فإنه يدل علي عدم حصول الفراق القانوني بإنشاء الطلاق إذا لم يكن مرادا جديا.

و ثالثة: تكون إرشادا إلي محدودية متعلق الأمر كما في (لا صلاة إلا بطهور) «3» فإنه يدل علي محدودية الصلاة الواجبة بالطهارة.

و رابعة: تقتضي عدم وجود حكم يبعث علي وجود شي ء كما في ما لو قيل (لا حرج في الدين). إلي غير ذلك من محتوياتها. و علي هذا فلا بد في معرفة معني الحديث، و تحقيقه من تحقيق ميزان اختلاف محتوي الكلام في هذه الموارد و غيرها رغم وحدة عنصره الشكلي، ثم تحقيق معني الحديث علي ضوء هذا الضابط العام

فهنا مرحلتان:
إما في المرحلة الاولي: فلا بد قبل توضيح الميزان فيها من التنبيه علي نكتة عامة فيما يتعلق بتفسير الكلام
اشارة

سواء أ كان من قبيل صيغة الأمر أو النهي أو النفي أو الإثبات فنقول: إن الكلام يتألف من عنصرين عنصر شكلي يتمثل في مدلوله اللفظي، و عنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي

يكون هو المحتوي الواقعي للصيغة و المصحح لاستعمالها، و هذان العنصران لا يتحدان دائما و إن كان لا بد بينهما من تسانخ و علاقة، و لذا تكون الصيغة الواحدة ذات

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 197.

(2) جامع الأحاديث 2: 226/ 1887، الفقيه 4: 22/ 67.

(3) الوسائل 22: 30/ 27941، الكافي 6: 62/ 2.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 137

محتويات متعددة بحسب اختلاف الموارد كاستعمال صيغة الأمر و النهي في معان كثيرة. فإن هذه المعافي ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام، و لا هي مجرد دواع و أغراض لاستعماله كما أوضحناه في محله من علم الأصول و إنما هي محتوي الكلام و باطنه. و اختلاف مفاد النفي علي الأنحاء السابقة و غيرها يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي حسب الفرض و هو النفي و معرفة الضابط العام لتشخيص محتوي الكلام، يتوقف علي التعرف المسبق علي العوامل المختلفة التي تؤثر في تعيين محتواه و تحديده لكي يتم استخراج هذا الضابط علي أساسها. و ذلك: لان تفسير الكلام في حد نفسه عملية معقدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظية من المفردات اللغوية و الهيئات العامة فحسب علي ما أشرنا إليه. بل يمكن القول بأن العوامل اللفظية بالنسبة إلي سائر الجهات المؤثرة في معني الكلام، مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة إلي ما كان منه كامنا تحت الماء، لان هذه العوامل لا تؤلف إلا جزء يسيرا من مجموع ما يؤثر في محتوي الكلام، و إن كانت ظاهرة أكثر من غيرها. و سر ذلك: إن الكلام بما إنه ظاهرة حية من الظواهر النفسية أو الاجتماعية فإنه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي

تحيط به من محيط و شائعات و أعراف و غير ذلك، فإذا ما أريد تفسير كلام ما فلا بد من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الإطار الذي ألقي فيه، و من طبيعة الموضوع الذي يتحدث عنه، و من الصفات النفسية للمتكلم و المخاطب. فربما تختلف الكلمة الواحدة من زمان إلي زمان أو من موضوع إلي موضوع أو من متكلم إلي متكلم أو من مخاطب إلي مخاطب.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 138

فإذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام و قدرنا نوع التفاعل المناسب معها: أمكننا تفسير الكلام في ظل مجموع تلك الجهات. و قد عبرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام ب (منهج التفسير النفسي) نظرا إلي أن تأثير هذه الجهات في الكلام إنما هو بلحاظ تأثيرها في الحالة النفسية للمتكلم أو المخاطب معها. و بعد اتضاح هذه المقدمة نقول: إن اختلاف محتوي صيغة النفي في الموارد المذكورة، إنما ينشأ عن اختلاف المواضيع و ملابساتها و تناسبات المورد بحسبها، كما يوجد نظير هذا الاختلاف في سائر الصيغ التي تعبر عن الموقف الشرعي في موضوع ما. و نحن نقتصر في هذا المجال علي عرض جملة من هذه المواضيع بشكل عام لمختلف الصيغ كصيغة الأمر و النهي و النفي و الإثبات في الجملة الخبرية مع توضيح كيفية تأثيرها في اختلاف محتوي الصيغة:

1 الموضع الأول: أن يكون مصب الحكم طبيعة تكوينية ذات آثار خارجية

يرغب المكلفون فيها أو عنها من جهة نسبتها مع القوي الشهوية و الغضبية للنفس، من دون أن يكون هذا الحكم مسبوقا بحكم مخالف له علما أو احتمالا كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه. ففي هذا الموضع يتضمن محتوي الخطاب أمرين:

أحدهما: عام و الآخر خاص بمورد صيغتي الإثبات و النفي. أما محتواه

العام: فهو الوعيد علي الفعل أو الترك فإن كانت الصيغة بعثا كان محتواها الوعيد علي الترك فيكون الفعل واجبا تكليفا، و إن كانت الصيغة زجرا كان محتواها الوعيد علي الفعل فيكون الفعل حراما تكليفا، و مجموع الصيغة و المحتوي يؤلف الحكم المولوي الخاص من إيجاب أو تحريم.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 139

و احتواء الصيغة لهذا المحتوي لم يكن لمجرد خصوصية الصيغة إذ هي لا تدل إلا علي البعث أو الزجر اللزومي، و هذا المقدار ينحفظ في ظل محتويات أخري من قبيل الإرشاد و نحوه مما يأتي، و إنما تعين مدلول الوعيد بدلالة الاقتضاء بعد أن امتنع فرض محتوي آخر للصيغة لعدم وجود مبادئه في الجهات المكتنفة بها. و توضيح ذلك: إن مدلول الصيغة من البعث أو الزجر لا معني لاعتباره بما هو هو مجردا عن أي معني أو اعتبار آخر، لانه لا يكون بذلك مثار أثر خارجا أو عقلاء، فلا بد له من محتوي مسانخ له كامن فيما وراء اللفظ يكون سببا للأثر العقلائي، و ما يكون محتوي للكلام علي قسمين:

أ ما يتوقف علي مبادئ مسبقة غير موجودة و لا قابلة للاعتبار في متعلق الصيغة (و مثال ذلك) رفع توهم الحكم السابق كما يراد ذلك في الأمر بعد توهم الحظر فإنه يتوقف علي فرض توهم خارجي للحظر. و منه الإرشاد إلي عدم ترتب الأثر المطلوب علي الشي ء حيث يكون للشي ء أثر اعتباري بطبيعته، و هذا يتوقف علي فرض أثر اعتباري ثابت للشي ء مسبقا، إلي غير ذلك من المحتويات الاتية.

ب ما يكون أمرا اعتباريا لا بد من جعله من قبل الشارع و هو الوعيد علي الترك المقوم للوجوب أو الوعيد علي الفعل المقوم

للحرمة. و علي هذا فحيث لم يتواجد في هذا الموضع شي ء من العوامل النفسية و غيرها مما يندرج في القسم الأول ليتفاعل معه المعني حسب الفرض، فيتعين كون المحتوي هو القسم الثاني تصحيحا لاعتبار البعث و الزجر من الحكيم. و علي هذا الأساس يستفاد الحكم المولوي من البعث و الزجر. و بذلك يتضخ إنه لا يتجه ما اشتهر في كلمات الأصوليين من إن

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 140

الأصل في الأمر و النهي أن يكون مولويا و لا يحمل علي الإرشاد إلا بقرينة. بل الصحيح هو العكس لان حمل الأمر و النهي علي الإرشاد إنما يكون وفق تناسبات ثابتة بحسب طبيعة الموضوع، فلا يحتاج كونه للإرشاد إلي مئونة زائدة، و هذا بخلاف حمله علي المولوية لأنه إنما يكون بموجب دلالة الاقتضاء بعد فقد سائر الجهات التي ترسم للكلام محتوي إرشاديا، فهي في طول تلك الجهات المقتضية لارشادية الإنشاء طبعا. و يلاحظ هنا: أنه لا يفرق في استفادة الحكم المولوي من الصيغة في هذا الموضع بين أن تكون صيغة الإنشاء من قبيل الأمر و النهي أو صيغة الاخبار من النفي و الإثبات، نعم استعمال صيغة الاخبار في هذا المجال تجوز لانه يخالف مفاده الاستعمالي، و إنما صحح ذلك التناسب بين الاخبار عن وجود الشي ء مع التسبيب إليه بالأمر به و كذلك التناسب بين الاخبار عن الانتفاء مع التسبيب إلي ذلك بالنهي عنه كما أوضحناه في البحث عن مدلول الجملة الخبرية في علم الأصول. فهذا هو المحتوي العام للكلام في هذا الموضع. (و أما محتواه الخاص) بمورد الإثبات و النفي «1» فهو تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية علي اختلاف مراتبها لتحقيق مقتضي الحكم فيما كان المورد

مقتضيا لمثل هذا التشريع و هذه الوسائل كإعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الإكراه علي فعل الواجب، و يدخل في ذلك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لو بما يتضمن إيقاع الضرر علي الفاعل نفسا أو مالا مع

______________________________

(1) و وجه عدم اقتضاء الأمر و النهي لذلك واضح لان مفادهما بالمطابقة اعتبار طلبي أو زجري فلا دلالة لهما علي أكثر من ذلك و هذا بخلاف الإثبات و النفي فإن مفادهما التسبيب إلي الفعل أو الترك حتي كأنهما متحققان فعلا. فيكون الإثبات و النفي منسجما مع تشريع الوسائل الاجرائية أكثر من الأمر و النهي.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 141

ملاحظة أخف الوسائل و أنسبها. نعم إن الوسائل الاجرائية المتخذة لحماية الحكم لا بد من أن تكون جارية علي وفق القوانين المجعولة في الشريعة المقدسة في هذه المرحلة، من قبيل كون إيقاع الضرر بالفاعل مالا أو نفسا بإذن من ولي الأمر أو بإشراف منه كما ذكرناه في محله.

2 الموضع الثاني: أن يكون مصب الحكم ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية عقلائية

و يؤتي بها عادة بداعي ترتيب تلك الآثار التي يحترمها القانون و يمضيها و يحميها في مرحلة الاجراء و ذلك كالعقود و الإيقاعات. و محتوي الصيغة في هذا الفرض هو عدم ترتب الأثر المزبور علي المتعلق في مورد النهي و النفي ك د (لا بيع إلا في ملك) و (لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق) أو علي غير المتعلق في مورد الأمر و الإثبات ك د (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) «1». و لذا يكون الحكم في ذلك حكما إرشاديا. و العامل العام الموجب لتعين هذا المعني كمحتوي للصيغة، هو التناسب الطبيعي بين الهدف و الوسيلة، و توضيح ذلك: إن مثل هذه الطبيعة إذا كانت ذا مفسدة بنظر المشرع فإنه يكفي

في تحقق هدف الشارع من الانزجار عنها فصلها عن آثارها القانونية، فيستوجب ذلك انزجار المكلف عن الطبيعة، و تحديد الداعي الموجب لإيجادها، لان الرغبة في الطبيعة بحسب الفرض في هذا الموضع ليس باعتبار جهة تكوينية فيها تنسجم مع قوة نفسية للإنسان مثلا كما في المورد الأول و إنما هي بلحاظ أثرها القانوني، فإذا فصلت عن الأثر القانوني انزاح الداعي إلي تحقيقها. فإلغاء الأثر القانوني هو الوسيلة المناسبة لتحقيق الهدف المزبور عادة.

______________________________

(1) سورة الطلاق 65/ 1.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 142

(نعم) ربما لا يكفي مجرد إلغاء الأثر، لقوة الداعي إلي إيجادها أو لعدم الاحتياج البالغ إلي الحماية القانونية في المورد كما في مورد النهي عن بيع الخمر أو النهي عن الربا فإن مورد الربا من المنقولات مثلا و لا تحتاج المعاملة فيها إلي حماية قانونية فيجعل الحرمة التكليفية زيادة علي الفساد الوضعي. و علي هذا: فالتناسب المذكور هو الموجب لتعين محتوي الكلام في إلغاء الأثر القانوني. فهذا هو العامل الاساسي العام في هذا الموضع، الموجه لمحتوي الصيغة. و هناك عامل آخر أخص يتواجد في مورد تحديد الموضوع فحسب دون مورد النهي عن الطبيعة مطلقا و هو تفاعل الصيغة مع العامل النفسي للمأمور، و ذلك لان مرغوبية الطبيعة في هذا المورد إنما تكون في ضوء هدف مسبق للمكلف، و هو الوصول إلي الأثر المطلوب كانفصام العلقة الخاصة مثلا كما في الطلاق أو تحققها كما في الزواج. فإذا كان الاعتبار الصادر يحدد تأثير الطبيعة، فإن هذا يرجع إلي تحديد الوسيلة لتحقق الهدف المفروض فيكون الهدف المفروض كموضوع مفترض لهذا الاعتبار، فإذا قيل (لا طلاق إلا بشاهدين) فهو في قوة أن يقال (إذا أردت انفصال العلقة

الزوجية فلا تطلق إلا بشاهدين) فيكون الأثر المطلوب كشرط مقدر بالنسبة إلي الخطاب، فيكون مفاد الخطاب طبعا ارتباط الغاية المفروضة بالحد الخاص. و هذا العامل كما قلنا إنما يكون في مورد تحديد الطبيعة لا في مورد إلغاء أثرها مطلقا، لأن إلغاء أثرها يرجع إلي إسقاط الغاية المسبقة لا تحديد وسيلتها كما هو واضح.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 143

(و يلاحظ): إن استعمال صيغة الأمر و النهي في هذا الموضع ليس مجازا بل هو استعمال حقيقي لان فصل العلقة بين الطبيعة و بين الأثر المرغوب منها ينسجم مع صيغة الزجر تمام الانسجام لانه يوجب انزجار المكلف عن ذلك بالإمكان و كلما كان المحتوي المعنوي في اللفظ يحقق للعنصر الشكلي فيه التأثير المطلوب منه المسانخ إياه فإن الاستعمال يكون حينئذ حقيقيا بعد تمام المحتوي المزبور إذ يتأتي للمتكلم حينئذ أن يقصد المدلول الاستعمالي بالكلام جدا، و فصل العلقة في المقام مستوجب لفاعلية الزجر الإنشائي، كما أن الوعيد في النهي المولوي مستوجب لفاعلية الزجر الإنشائي. و هكذا في صيغة البعث في مورد الأمر بالحصة ك د (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) «1» يكون الاستعمال حقيقيا، فإن تحديد الوسيلة بعد تعلق الغرض مسبقا بأثرها نوع من البعث للشخص نحو الوسيلة المشروعة. و بذلك يظهر: إنه لا يتجه ما في كلمات جماعة من الأصوليين من اعتبار الإرشاد معني مجازيا للأمر و النهي، و كان منشأ ذلك عدم التنبه لكيفية تفاعل الاعتبار مع الملابسات المحيطة به علي ما أوضحنا ذلك. و أما صيغة الإثبات و النفي ك د (لا طلاق إلا ما أريد به الطلاق) و (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) و (لا بيع إلا في ملك)، فإنه يكون من

قبيل إثبات الحكم بلسان إثبات موضوعه، أو نفيه بلسان نفيه مبالغة في ذلك، بلحاظ إن فصل الشي ء عن أثره القانوني تسبيب إلي انتفائه في الخارج علي ما سيق توضيحه.

3 الموضع الثالث: أن يكون مصب الحكم موضوعا لحكم شرعي خاص من دون رغبة طبيعية نحوه

في مورد الزجر أو انزجار طبيعي عنه في

______________________________

(1) سورة الطلاق 65/ 1.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 144

مورد البعث إليه ك د (لا شك لكثير الشك) و (لا سهو للإمام مع حفظ المأموم) فإن الشك في الصلاة موضوع لجملة من الاحكام. و محتوي الصيغة في هذا الموضع حيث تكون صيغة نفي ليس هو التسبيب إلي عدم تحقق الموضوع إذ لا وجه لإرادة ذلك، و إنما هو عدم ترتب ذلك الحكم الشرعي بالنسبة إلي الحصة الخاصة، فإن ارتباط الطبيعة في ذهن المخاطب بتلك الاحكام، يوجب أن يكون محتوي الكلام ناظرا لهذا الارتباط بمقتضي التفاعل الطبيعي بين الكلام و بين التصورات الذهنية للمخاطب، فيكون مؤداه تحديد هذا الارتباط و خروج المنفي عنه.

4 الموضع الرابع: أن يكون مصب الحكم حصة خاصة من ماهية مأمور بها يظن سعتها لهذه الحصة

فيكون الداعي لاتيانها تفريغ الذمة و أداء الوظيفة كما في (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) و (لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة). و محتوي الصيغة في هذا الموضع هو عدم ترتب الأثر المذكور و هو فراغ الذمة علي الإتيان بالحصة، فيرجع إلي اشتراط المتعلق بالقيد الخاص، و لذا يكون الحكم حكما إرشاديا إلي الجزئية و الشرطية. و سر تعين هذا المعني كمحتوي للصيغة هنا عاملان علي غرار ما سبق في الموضع الثاني-:

الأول: التناسب الطبيعي بين الهدف و الوسيلة فإنه يكفي في حصول هدف الشارع و هو عدم تحقق الحصة المذكورة تحديد الأمر بالطبيعي لتخرج هي عن المتعلق، و ذلك موجب لانزجار المكلف عنها، لأن الإتيان بها إنما يكون بقصد امتثال الأمر بالطبيعة و هو ينتفي مع تحديده بحصة خاصة. الثاني: تفاعل الكلام مع الحالة النفسية للمخاطب، و ذلك لان باعث

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 145

المكلف علي الإتيان بهذه الحصة

هو تفريغ الذمة عن الطبيعي المأمور به، فالنفي الملقي في هذه الحالة يتفاعل حسب التناسب مع هذا الباعث النفسي و يفيد تحديد العامل فيه و هو الأمر الشرعي بحصة معينة. و كيفية استعمال صيغ الأمر و النهي و الإثبات و النفي في هذا الموضع يماثل ما مضي في الموضع الثاني.

5 الموضع الخامس: أن يكون مصب الحكم حصة من ماهية منهي عنها يظن سعتها لهذه الحصة

، فيكون الرادع النفسي عنها هو قصد إطاعة الحكم المتعلق بالطبيعي كما في (لا ربا بين الوالد و الولد). و محتوي الصيغة في هذا الموضع نفي تعلق الحكم التحريمي بالحصة، فيرجع إلي تقييد متعلق الحرمة بالقيد الخاص، و ذلك لنظير ما تقدم في الموضع الثالث فإن ارتباط الطبيعي في ذهن المخاطب بالحكم التحريمي يوجب أن يكون محتوي الكلام ناظرا لهذا الارتباط و تحديدا للحكم التحريمي بتحديد متعلقه.

6 الموضع السادس: أن يكون مصب الحكم طبيعة يرغب المكلف عنها أو يرغب إليها

، أما لانسجام المتعلق مع القوي النفسية و الشهوية، أو للأثر القانوني المترتب علي الشي ء عادة أو لأجل تفريغ الذمة و امتثال القانون، لكنه معرض عنها لتصور ثبوت حكم مخالف لجهة رغبته و هذا هو الفارق بين هذا الموضع و الموضع الأول كما هو واضح، سواء كان هناك حكم كذلك بالفعل، أو كان هذا التصور توهما أو احتمالا، و قسم من هذا الموضع هو الذي يتعرض له في علم الأصول بعنوان (الأمر بعد الحظر). و في هذا الموضع يتفاعل الكلام مع التصور الذهني المضاد، فيكون محتواه نفي الحكم المتصور،، مع إنه لولا التصور المذكور لافاد الحكم المولوي أو الحكم الإرشادي و لا فرق في ذلك بين أن تكون صيغة الحكم

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 146

إنشاء أو خبرا. ففي الإنشاء تتبدل الصيغة من أداة إيجابية بنائية إلي أداة هدم سلبية حيث يكون محتواها سلب الحكم السابق فحسب رغم إن عنصرها الشكلي يمثل معني إيجابيا من قبيل الطلب و الزجر، و لذلك يكون استعماله مجازيا يختلف فيه المراد التفهيمي عن المراد الاستعمالي. لكن مصحح الاستعمال المذكور هو إن هدم الاعتبار السابق أو رفع توهمه، يتيح المجال للعامل النفسي و يرفع العائق أمام فاعليته، فيخيل بذلك أن هذا

الهدم أو الرفع هو العامل الفاعل للبعث و الزجر، و ذلك من قبيل الأمر بالاصطياد بعد تحريمه أولا في حال الإحرام في قوله تعالي (وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا) «1» فإن هذا الأمر ليس محتواه إلا رفع التحريم السابق، دون بناء حكم إيجابي كما هو مقتضي مدلوله إلا إنه صح استعمال صيغة البعث لان هدم التحريم السابق يستتبع الانبعاث نحو الاصطياد بفاعلية العامل الطبيعي عند الإنسان نحو الصيد، فيكون استعمال صيغة الأمر في ذلك بلحاظ استتباع محتواه الهادم للانبعاث نحوه حتي كأنه العامل لذلك. و أما استعمال صيغة الاخبار في هذا الموضع فهو أيضا استعمال مجازي، لان مفاد صيغة النفي مثلا هو مجرد الاخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجا، لا سلب وجود حكم موجب لتحققها خارجا لولا هذا النفي، لكن صحح ذلك أن سلب الحكم و إن كان في الواقع مجرد عدم تسبيب إلي وجود الطبيعة، لكن حيث تكون الطبيعة مرغوبا عنها لذاتها أو غير مرغوب إليها إلا علي تقدير ثبوت هذا الحكم كان نفي الحكم في هذا السياق بمثابة التسبيب إلي عدم تحقق الطبيعة، و بذلك صح نفيها خارجا نفيا تنزيليا.

______________________________

(1) سورة المائدة 5/ 2.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 147

و ذلك كما لو قيل نفيا لمانعية بعض ما يحتمل مانعيته للصلاة-: (لا إعادة للصلاة بكذا)، فإن الإعادة لا يرغب إليها المكلف بطبعه إلا لطلب شرعي فحسب فلو دل الدليل علي نفي الطلب الشرعي لزم من ذلك عدم تحققها عادة بفاعلية الرغبة الطبيعية عنها فصح نفيها تنزيلا. ثم أن هذا الموضع لا يختص بما لو كان متعلق الحكم نفسه موردا لحكم منساق أو متوهم كما في مثال الاصطياد و الصلاة بل يعم ما

لو كان متعلقه أمرا مستبا عن الحكم السابق أو المتوهم، و ذلك كان يقال في معرض توهم جعل الشارع لتكليف مؤد إلي الحرج: - (لا حرج في الدين) أو (لا تحرج نفسك) فهنا أيضا يتفاعل الكلام مع التوهم المذكور و يكون محتواه و مفاده التفهيمي نفي جعل حكم مسبب إلي الحرج. و مقطع (لا ضرر) من الحديث من هذا القبيل علي ما يتضح قريبا.

فهذه مواضيع عامة يتغير بمقتضاها المحتوي الذي تستبطنه صيغ الحكم و منها النفي، و قد اتضح من خلال ذلك أن المحتويات المختلفة للنفي و غيره إنما هي مرهونة بتناسبات مختلفة يتفاعل معها الكلام فترسم له علي ضوئها معان مختلفة تكون محتوي له. هذا تمام الكلام عن المرحلة الاولي.

و أما المرحلة الثانية: فهي من تطبيق الضابط المذكور علي الحديث
اشارة

أو توضيح معني الحديث علي ضوء ذلك

أما المقطع الأول: من الحديث و هو (لا ضرر)
اشارة

، فهو يندرج في المورد السادس الذي ذكرناه فيفيد نفي جعل حكم ضرري و ذلك علي ضوء أمور ثلاثة:

1 الأول: إن من الواضح جدا أن متعلق النفي في هذا المقطع [ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية]

و هو الضرر-

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 148

ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية حتي يرجع نفيها إلي فصلها عن آثارها و يندرج في الموضع الثاني، و لا هو حصة من موضوع ذي حكم شرعي. أو متعلق للوجوب أو للحرمة حتي يراد نفي الحكم المترتب علي الطبيعي فيندرج في أحد المواضع المتوسطة الباقية، فلا محالة يدور الأمر فيه بين احتمالين:

أ أن يكون ماهية مرغوبا إليها لانسجامها مع القوي الشهوية أو الغضبية من قبيل الموضع الأول فيكون مفاد نفيه حينئذ التسبيب إلي عدم تحققه بتحريمه و المنع عن إيجاده خارجا، فيصح حمل النفي في الحديث حينئذ علي النهي كما هو مؤدي بعض المسالك في المقام.

ب أن يكون ماهية مرغوبا عنها، لكن النفي لرفع توهم تسبيب الشارع إليه بإلزامه به بما يوجب الضيق و الضرر للمكلف، فيندرج في المورد السادس و بكون مفاد نفيه نفي التسبيب إلي الضرر، بجعل حكم ضرري نظير (لا حرج) كما نسب إلي المشهور.

2 الثاني: إن هذين الاحتمالين يتفرعان علي كون معني هيئة (الضرر) معني مصدريا

محتويا للنسبة الصدورية إلي الفاعل أي الضار كالاضرار و الضرار، أو معني اسم مصدري خال عن هذه النسبة كالضيق و الحرج و المنقصة. فعلي الأول: يمثل الضرر كالاضرار طبيعة موافقة للقوي النفسية للإنسان كالغضب و الحقد و حب الإيذاء و نحوها التي يلجأ إليها الإنسان كثيرا إرضاء لنفسه. و حينئذ يكون مفاد لا ضرر تحريمه و تشريع ما يمنعه خارجا. و علي الثاني: يكون الضرر بمعني المنقصة الواردة علي المتضرر، و هو أمر لا يتحمله الإنسان بطبعه بل هو مكروه له أشد الكراهة، و إنما يتحمله

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 149

لو ظن أن الشارع حمله إياه فنفي الضرر في هذا السياق النفسي يرجع إلي

نفي تسبيب الشارع له دفعا لتوهم إيجابه علي المكلف و تحميله عليه.

3 الثالث: إن الصحيح هو الاحتمال الثاني

، لأن الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بأن الضرر إنما يمثل المعني نازلا بالمتضرر لا صادرا من الفاعل، فهو معني اسم مصدري كالمضرة و المنقصة، و ليس معني مصدريا كالاضرار، كما تقدم ذكر ذلك في البحث من معني الهيئة الإفرادية للكلمة. و علي هذا فيكون مثل هذا الترتيب مثل سائر الأمثلة المماثلة له حالا ك د (لا حرج) ما يكون المعني المنفي عنه عملا مرغوبا عنه للمكلف بحسب طبعه و إنما يتحمله بتصور تشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب. و بذلك يكون مفاد (لا ضرر نفي التسبيب إلي الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.

و أما المقطع الثاني: من الحديث و هو (لا ضرار) فإنه يندرج في الموضع الأول من المواضع السابقة
اشارة

علي ما اتضح بما ذكرناه في مورد (لا ضرر) آنفا لان الضرار هو الإضرار المتكرر أو المستمر، و قد ذكرنا أن الإضرار بالغير عمل يمارسه الإنسان بطبعه لأجل إرضاء الدواعي الشهوية و الغضبية، فإذا نهي عنه كما في جملة من الآيات «1» فهو ظاهر في النهي التحريمي زجرا للمكلفين عن هذا العمل كما هو واضح.

______________________________

(1) كقوله تعالي (لٰا تُضَارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لٰا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) البقرة 2/ 233 و (أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ) البقرة 2/ 282 (وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) الطلاق 65/ 676.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 150

و إذا نفي كما في هذا الحديث فإنه يدل علي التسبيب إلي عدم تحقق هذا العمل و ذلك من خلال ثلاثة أمور.

الأمر الأول: جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل و هو الحرمة

. و هذا الحكم يستبطن الوعيد علي الفعل و يترتب عليه بحسب القانون الجزائي الشرعي:

أولا:

العذاب الأخروي في عالم الآخرة.

و ثانيا: العقوبة الدنيوية بالتعزير و نحوه حسب رأي ولي الأمر بالحدود المستفادة من الأدلة الشرعية. و ثالثا: الضمان في موارد الإتلاف و كون الشي ء المتلف ذا مالية لدي العقلاء.

الأمر الثاني: تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجا

، و ذلك من قبيل تجويز إزالة وسيلة الضرر و هدمها إذا لم يمكن منع إيقاعه إلا بذلك، كالأمر بإحراق مسجد ضرار «1» و الحكم بقلع نخلة سمرة و نحو ذلك. و هذا التشريع يرتكز علي قوانين ثلاثة:

1 قانون النهي عن المنكر فإن للنهي مراتب متعددة كما ذكر في الفقه أخفها النهي القولي و أقصاها الإضرار بالنفس، و بينهما مراتب متوسطة، و لا تصل النوبة إلي مرحلة أشد إلا بعد تعذر المرحلة السابقة عليها أو عدم تأثيرها في الكف عن المنكر.

2 قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس. و هذا من شؤون الولاية في الأمور العامة الثابتة للنبي صلي الله عليه و آله و أئمة الهدي عليهم

______________________________

(1) ورد ذكر في كتب التفسير في تفسير قوله تعالي (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً.) التوبة 9/ 107 لاحظ مجمع البيان ط 3: 72 73.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 151

السلام، و الفقهاء في عصر الغيبة إذ لا بد من العدالة في حفظ النظام.

3 حماية الحكم القضائي فيما إذا كان منع الإضرار حكما قضائيا من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين إليه كما في مورد قضية سمرة حيث شكا الأنصاري دخوله في داره بلا استئذان فقضي النبي صلي الله عليه و آله بعدم جواز دخوله كذلك، و حيث أبي سمرة عن العمل بالحكم، أمر صلي الله عليه و آله بقلع النخلة

لتنفيذ الحكم بعدم الدخول عملا.

(و يلاحظ): أن ولاية اتخاذ وسيلة إجرائية لمنع الإضرار، إنما هي للحاكم الشرعي دون عامة المسلمين، أما علي القانونين الأخيرين فالأمر واضح لان تحقيق العدل و حماية القضاء إنما هو من وظيفة الحاكم المتصدي للحكومة و القضاء و أما علي القانون الأول: فلان المختار أن ولاية النهي عن المنكر فيما كان بالإضرار بالفاعل نفسا أو مالا تختص بالحاكم الشرعي خلافا لما أفتي به جمع من الفقهاء. (و يلاحظ أيضا) أن هذا الجزء من مفاد (لا ضرار) هو مبني تعليل الأمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبري، و هو أمر أشكل علي جمع من الفقهاء حتي استند إلي ذلك بعض الأعاظم في جعل النهي في الحديث حكما سلطانيا، بتصور تبريره حينئذ للأمر بالقلع و هو ضعيف. و سيأتي توضيح الموضوع في التنبيه الأول من تنبيهات القاعدة.

الأمر الثالث: تشريع أحكام رافعة لموضوع الإضرار من قبيل جعل حق الشفعة لرفع الشركة
اشارة

، التي هي موضوع لإضرار الشريك، أو عدم جعل أرث للزوجة في العقار لعدم الإضرار بالورثة كما في الحديث «1». فاتضح مما ذكرناه مجموعا: أن الحديث بجملة (لا ضرر) يدل علي

______________________________

(1) الوسائل كتاب الفرائض أبواب ميراث الأزواج الباب 9 ج 26: 208/ 32842.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 152

نفي جعل الحكم الضرري و بجملة (لا ضرار) يدل علي تحريم الإضرار و تشريع الصد عنه خارجا و رفعه في بعض الموارد موضوعا.

(و يلاحظ): أنه ربما يعترض علي تفسير (لا ضرر) بنفي الحكم الضرري بعلة وجوه ذكرها العلامة شيخ الشريعة في (رسالة لا ضرر)، ترجيحا لمسلك النهي في تفسير الحديث، و سوف يأتي استعراض تلك الوجوه و نقدها في البحث عن هذا المسلك بما يتضح به جملة من الجهات التي ترتبط بهذا التفسير. و نذكر

هنا كلاما للشيخ الأنصاري (قده) من ترجيح هذا التفسير و ما ذكره العلامة شيخ الشريعة في تعقيبه و نقده مع تحقيق القول في ذلك تكميلا للقول في هذا المبني. قال الشيخ (قده) في الرسائل بعد ذكر المعاني المحتملة في الحديث: (و الأظهر بملاحظة نفس الفقرة و نظائرها و موارد ذكرها في الروايات و فهم العلماء هو المعني الأول) «1» يعني بذلك تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري و هذا الكلام ينحل إلي دعاو أربع وقعت جميعا موردا للإنكار من قبل العلامة شيخ الشريعة فقال: (و الشواهد الأربعة كلها منظورة فيها ممنوعة علي مدعيها. أما نفس الفقرة فقد عرفت ظهورها في الحكم التكليفي. و أما نظائرها فقد قدمنا عدم النظير لهذا المعني في هذا التركيب «2».

______________________________

(1) المصدر ط رحمت الله ص 315، الرسائل 2: 535.

(2) قال في ص 41 من الرسالة (إن المعني الثالث من نفي المسبب و إرادة السبب لم يعهد في مثل هذا التركيب أبدا و إنما المعهود النهي أو نفي الكمال في (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) و لا علم إلا ما نفع) و (لا سفر إلا برفيق) و (لا كلام إلا ما أفاد و إن أمكن إرجاع الثلاثة إلي جهة واحدة.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 153

و أما موارد ذكرها في الروايات ففيه: إنه قد اتضح عدم ذكرها في شي ء من الروايات ث إلا في قضية سمرة المناسب للتحريم وجدانا، و إن حديث الشفعة و الناهي عن منع الفضل لا مساغ لما فيها إلا النهي التكليفي تحريما أو تنزيها، و أما فهم العلماء فهو أيضا ممنوع، و لم نجد للمتقدمين و المتأخرين ما يعين إنهم فهموا هذا المعني إلا

عن قليل نادر لا يكفي فهمهم في تعيين المعني، و قد ذكر في حديث الدعائم تعليلا لحرمة الترك) «1».

و لتحقيق القول فيما ذكر (ره) لا بد من ملاحظة كل واحد من هذه الجهات:
أما الجهة الاولي من ظهور نفس الفقرة فقد يشكل ما ذكره الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري

و ما ذكره هذا القائل من ظهورها في النهي عن الإضرار جميعا، بتقريب: إن نفس الفقرة بملاحظة عدم إرادة المعني الاستعمالي الظاهر منها ليس لها ظهور في حد ذاتها في المعني المجازي المقصود بها، و إنما ذلك رهين قرينة أخري و ذلك: لانه لا إشكال في إن المعني الاستعمالي الظاهر من الفقرة و هو الاخبار عن نفي تحقق الضرر خارجا ليس بمقصود بها علي كل حال، سواء فسر المراد الجدي بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الإضرار لاختلاف المدلول الاستعمالي مع هذين المعنيين بوضوح، و حينئذ فيدور الأمر بين أن يراد بها نفي التسبيب إلي الضرر بجعل حكم موجب له، أو يراد التسبيب إلي عدم نفي الإضرار الذي ينتج النهي عنه، و لا معين لشي ء منهما في نفس الفقرة.

______________________________

(1) رسالة (لا ضرر) ص 42.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 154

و بعبارة أخري إن كلا المعنيين يشتركان في كون حمل الفقرة عليهما بحاجة إلي تجوز و عناية فالأول بحاجة إلي التجوز بإرادة نفي السبب و هو الحكم الضرري من نفي المسبب و هو الضرر كما إن الثاني بحاجة إلي التجوز في إرادة النهي الذي هو سنخ معني إنشائي من النفي الذي هو معني خبري. فليس ادعاء ظهور الفقرة بذاتها في أحد الاحتمالين بأولي من ادعاء ظهوره في الأخر بل لا قضاء لذات الفقرة بعد عدم إرادة مدلولها الاستعمالي لشي ء من المعنيين. و لكن التحقيق: عدم ورود هذا الإيراد علي ما ادعاه الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري لما أوضحناه من إن طبيعة معني الضرر

حيث إنه معني اسم مصدري يجعل الفقرة ظاهرة في هذا المعني، لانه يمثل معني مرغوبا عنه لا يتحمله أحد إلا بتوهم تسبيب شرعي، و مفاد النفي في مثل ذلك نفي التسبيب المتوهم، فيكون ذلك قرينة داخلية علي التجوز المذكور. (نعم) هذا الإيراد يرد علي القول بظهور الفقرة في النهي عن الإضرار مع عدم وجود قرينة عليه منها، بل ما ذكرناه قرينة علي خلافه، فإن إرادة النهي لا يناسب مع نوع الموضوع المنفي لعدم وجود علاقة بين نفي الضرر و النهي عن الإضرار شرعا.

و أما الجهة الثانية: و هي مدي تناسب معاني نظائر الفقرة مع ذلك التفسير

، فالبحث تارة في وجود مماثل لهذه الفقرة بنفس هذا المعني. (و أخري) في وجود مماثل لها بخلاف هذا المعني كمعني النهي مثلا. أما الأول: فقد جاء في رسالة لا ضرر للشيخ تنظير ذلك بقوله (لا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 155

حرج في الدين) «1» و ذكرت هذه الجملة تنظيرا في كلام السيد الأستاذ أيضا «2» لكنا لم نطلع علي مصدر لها، و الذي يوجد في القرآن الكريم هو قوله تعالي (مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «3» و قوله (مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) «4» و هما ليستا بنفس سياق الحديث، فإنهما كالصريح في نفي الحكم الحرجي حيث لا يحتمل فيهما إرادة النهي عن الاحراج كما هو ظاهر. و أما الثاني: فقد ذكر هذا القائل في كلام آخر له بعد إن ساق موارد كثيرة من استعمالات (لا) النافية للجنس من الكتاب و السنة: (إن نظائر هذه الفقرة فيهما و في استعمالات الفصحاء قد أريد بها النهي) «5». و سيأتي نقل كلامه و نقده تفصيلا في البحث عن مسلك النهي. و نقتصر هنا علي القول بأن في

اعتبار تركيب آخر نظيرا لهذه الفقرة ينبغي عدم الاقتصار علي ملاحظة تماثله معها في تركيب (لا) النافية للجنس، لان التماثل بهذا المقدار تماثل شكلي محض، و عدم وجود المماثل للفقرة شكلا و بهذا المعني لا يكون نقطة ضعف في تفسيرها بذلك، لان الاختلاف بينهما في المعني ينشأ حينئذ عن اختلاف الخصوصيات المؤثرة في ترسيم محتوي الكلام، فلا يقاس بعضها حينئذ ببعض. بل ينبغي في مقام التنظير اعتبار توفر الخصوصيات الموجودة في هذه الفقرة فيما يدعي نظيرا لها، بأن يكون المنفي ماهية لا رغبة إليها لذاتها،

______________________________

(1) المكاسب للشيخ: 372.

(2) لاحظ الدراسات ص 326 فإنه قال (كما في قضية لا حرج في الدين).

(3) الحج 22/ 78.

(4) المائدة 5/ 6.

(5) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص 37 39.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 156

إلا بتصور تسبيب شرعي إليه ك (لا حرج في الدين) لان هذه الجهة مؤثرة في تشكيل محتوي الكلام باعتبار تفاعل الكلام مع الحالة النفسية و الذهنية للمخاطب. فإذا اعتبر هذا المقياس في التماثل، يعلم إن شيئا من الموارد الكثيرة التي ذكرها هذا القائل مما يماثل هذه الفقرة، إنما تشترك معها في العنصر الشكلي فحسب حيث استخدمت في جميعها صيغة النفي.

و أما الجهة الثالثة: و هي مدي تناسب مواردها في الروايات مع هذا التفسير-:

فلا بد في تحقيقها من استعراض المهم منها:

1 أما قضية سمرة فما ذكر من مناسبتها مع التحريم وجدانا محل تأمل، و توضيح ذلك: إن سمرة كان يري دخوله في دار الأنصاري عملا سائغا له باعتبار حقه في الاستطراق إلي نخلته، فإن حق الاستطراق عرفا يترتب عليه جواز الدخول مطلقا في كل زمان و حال لا خصوص الدخول بالاستئذان، فإن إناطة الدخول بالاستئذان يناسب عدم الحق رأسا، و قد احتج بذلك سمرة في

حديثه مع الأنصاري و مع النبي صلي الله عليه و آله، ففي رواية ابن بكير بعد ذكر طلب الأنصاري من سمرة أن يستأذن إذا جاء (فقال: لا أفعل، هو مالي أدخل عليه و لا أستأذن، فأتي الأنصاري رسول الله صلي الله عليه و آله فشكي إليه و أخبره فبعث إلي سمرة فجاء، فقال له استأذن، فأبي و قال له مثل ما قال للأنصاري)، و في رواية ابن مسكان، بعد ذلك: (فقال: لا أستأذن في طريقي و هو طريقي إلي عذقي، فقال: فشكا الأنصاري إلي رسول الله صلي الله عليه و آله فأرسل إليه رسول الله صلي الله عليه و آله فأتاه فقال: فلان قد شكاك و زعم إنك تمر عليه و علي أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلي عذقي؟).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 157

و علي هذا فلو كان المراد بالحديث مجرد النهي التكليفي لبقي استدلال سمرة بلا جواب، لانه يتمسك بحقه في الاستطراق و (لا ضرر) يقول (لا تضر بالانصاري) و من المعلوم إن النهي التكليفي عن ذلك ليس إلا أعمال سلطة، و ليس جوابا عن وجه تفكيك الجواز المطلق عن حق الاستطراق. و هذا بخلاف ما لو أريد به نفي التسبيب إلي الضرر بجعل حكم ضرري، فإنه يرجع إلي الجواب عن هذا الاستدلال بأن الإسلام لم يمض الأحكام العرفية متي استوجبت تفويت حق الآخرين و الإضرار بهم، فلا يترتب علي حق الاستطراق جواز الدخول مطلقا و لا يثبت حق الاستطراق مطلقا بل ذلك مقيد بعدم كون الدخول ضررا علي الأنصاري في حقه من التعيش الحر في داره. و بذلك يظهر

إن (لا ضرر) علي هذا التفسير أكثر تناسبا و أوثق ارتباطا بقضية سمرة منه علي تفسيره بالنهي عن الإضرار.

2 و أما قضية الشفعة فلا شهادة فيها لأحد المعنيين، لا لما ذكره هذا القائل من عدم ثبوت تذييلها ب (لا ضرر) أصلا، و إنما الجمع بينهما من قبل الراوي، فإنه غير تام كما سبق في الفصل الأول، و إنما بملاحظة ما تقدم هناك من أن (لا ضرر) فيها إنما هو حكمة للتشريع فلا يرتبط بما هو مبحوث عنه من كونه بنفسه حكما كليا. و علي أي تقدير فلا يتم ما ذكره هذا القائل من إنه لا مساغ فيها إلا للنهي التكليفي.

3 و أما قضية منع فضل الماء فهي تناسب التفسير المذكور، لما ذكرناه في الفصل الأول من إنه لا يبعد ثبوت حق الشرب من الماء للآخرين سواء كان مباحا أو مملوكا، فيمكن تطبيق (لا ضرر) فيها بعناية نفي جواز منع

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 158

الآخرين من الاستفادة من فضل الماء لانه ضرر بهم و تنقيص لحقهم و حاصله (أن حق الحائزين علي الماء ليس مطلقا شاملا لجواز منع الآخرين منه). و ربما يشكل فيها أيضا كقضية الشفعة بعدم ثبوت (لا ضرر) ذيلا لها و قد سبق مناقشة ذلك.

4 و أما حديث هدم الحائط: فلا يتعين كون (لا ضرر و لا ضرار) فيها تعليلا لحرمة ترك الحائط بعد هدمه، بل يمكن أن يكون بلحاظ وجود حق للجار في المورد، بحيث يكون جواز هدم الجدار حكما ضرريّاً بالنسبة إلي الجار بملاحظة منافاته مع حقه فيرتفع ب (لا ضرر). فظهر: إن ما ذكر من عدم تناسب (لا ضرر) بهذا التفسير مع موارد تطبيقه في الروايات ليس

بتام بل هو بهذا التفسير أنسب ببعضها منه بتفسيره بالنهي كما في قضية سمرة.

و أما الجهة الرابعة: و هي مدي ذهاب العلماء إلي هذا الرأي في تفسير الحديث

فالمقصود بالعلماء أما علماء اللغة أو الفقهاء.

أما علماء اللغة: فقد ذكر هذا القائل اتفاقهم علي تفسير الفقرة بالنهي ذاكرا في ذلك بعض كلماتهم و سيأتي مناقشة ذلك، و تقييم آراء اللغويين في مثل هذا الموضوع مما يتعلق بالفقه و التشريع الإسلامي في تحقيق مسلك النهي، حيث اعتبر هذه الجهة مؤيدة لهذا المسلك. و أما الفقهاء: فالظاهر أن أكثر فقهاء الفريقين قد فهموا من الحديث نفي الحكم الضرري كما ذكر الشيخ. أما علماء العامة: فيكفي في تصديق ذلك عنهم ملاحظة ما نقله السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطإ مالك عن أبي داود: من إنه قال

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 159

(إن الفقه يدور علي خمسة أحاديث هذا أحدها) «1» فإنه يبتني علي تفسيره بهذا الوجه، لأنه حينئذ يكون محددا عاما للأدلة الدالة علي الأحكام الأولية في مختلف الأبواب و ليس كذلك علي تفسيره بالنهي، كما أن تعبيره بأن الفقه يدور. قد يدل علي إن ذلك هو الرأي السائد لدي فقهائهم. و يؤكد ذلك ما ذكره السيوطي في كتاب الأشباه و النظائر حيث قال: (اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه، و من ذلك الرد بالعيب و جميع أنواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط و التعزير و إفلاس المشتري و غير ذلك و الحجر بأنواعه و الشفعة لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة و القصاص و الحدود و الكفارات و ضمان المتلف و القسمة و نصب الأئمة و القضاة و دفع العائل و قتال المشركين و البغاة و فسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار أو غير ذلك). ثم قال:

(و يتعلق بهذه القاعدة قواعد: الاولي: الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.

و من ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة و إساغة اللقمة بالخمر و التلفظ بكلمة الكفر للإكراه و كذا إتلاف المال. إلخ) «2». فإن الاستدلال بها لكثير من هذه المواضع متفرع علي تفسيرها بنفي الحكم الضرري كما هو واضح. و أما علماء الخاصة: فيكفي في معرفة موقفهم ملاحظة ما ذكره صاحب العناوين فيها في ذكر المقامات التي استندوا فيها إلي هذه القاعدة قال: (و يندرج تحته لزوم دية الترس المقتول علي المجاهدين و سقوط النهي عن المنكر و إقامة الحدود مع عدم الأمن، و عدم الإجبار عل القسمة مع عدم

______________________________

(1) 2/ 122.

(2) الأشباه و النظائر ط مصر دار إحياء الكتب العربية ص 92 93.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 160

تحقق الضرر، و عدم لزوم أداء الشهادة كذلك و حرمة السحر و الغش و التدليس، و مشروعية التقاص و جواز بيع أم الولد في مواقع و التسعير علي المحتكر إن أجحف، و حرمة الاحتكار مع حاجة الناس و تفريق الام عن الولد و جواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة و تخير المسلم في الفسخ مع انقطاع المسلم فيه عند الحلول و تختر الرابح عند الكذب و الخديعة، و في خيار التأخير و ما يفسد ليومه و الرؤية و الغبن و عدم سقوط خيار الغبن بالخروج عن الملك و خيار العيب و التدليس.) «1» إلي آخر ما ذكره مما يطول نقله. و كثير من هذه المواضيع أيضا يتفرع علي التفسير المذكور كما هو واضح.

البحث الثاني: في استعراض المسالك الأخري في تفسير الحديث

اشارة

. و يلاحظ: أن هذه المسالك غالبا فسرت (لا ضرر) و (لا ضرار) بمعني واحد و لم تفرق

بين الجملتين من حيث المعني التركيبي كما تقدم و إن كان محل العناية و الأهمية في الجملة الأولي كما ذكر الشيخ الأنصاري (قده) في رسالة (لا ضرر) بعد البحث في معني الضرار: (فالتباس الفرق بين الضرر و الضرار لا يخل بما هو المقصود من الاستدلال بنفي الضرر في المسائل الشرعية) «2». و هي مسالك خمسة

المسلك الأول: تفسير (لا ضرر) بنفي الحكم الضرري

و ذلك بتقريب ذكره المحقق النائيني، و تبعه عليه غير واحد «3» و هو أن الضرر المنفي

______________________________

(1) العناوين: 96.

(2) ص 418 (طبعت مع كتبه الفقهية سنة 1312 ه).

(3) المكاسب (رسالة في قاعدة نفي الضرر: 372).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 161

في الحديث عنوان ثانوي متولد من الحكم، و نسبته إليه نسبة السبب التوليدي إلي مسببه، كالقتل إلي قطع الرقبة و الإحراق إلي الإلقاء في النار و الإيلام إلي الضرب و نحو ذلك. و إطلاق العناوين التوليدية علي أسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلي أية عناية فيكون مجازا و المقام من هذا القبيل، فيكون المراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه و هو الحكم، و الفرق بين هذا المسلك و مسلكنا أننا نري أن المنفي هو التسبيب للضرر و لازمه نفي الحكم الضرري بينما هذا المسلك يري أن المنفي مباشرة هو الحكم الضرري. (إن قيل): إنه يعتبر في العنوان التوليدي عدم تخلل إرادة من فاعل مختار بينه و بين السبب كعدم تخللها بين الإلقاء و الإحراق، و المقام ليس من هذا القبيل في مثل إيجاد الوضوء و الحج الضرريين، لان الحكم فعل للشارع و الضرر إنما يترتب علي امتثال العبد بإرادته و اختياره، فكيف يحمل الضرر علي الحكم. (قيل): إن إرادة العبد في عين كونها اختيارية مقهورة لإرادة

الله سبحانه، لان العبد ملزم عقلا و مجبور شرعا بالامتثال، فالعلة التامة لوقوع المتوضي أو الشريك أو الجار في الضرر هي الجعل الشرعي. و لكن هذا التقريب ضعيف:

أولا: لأن الإشكال المطروح لا واقع له، فإن المقام ليس من قبيل الأسباب و المسببات التوليدية، و مجرد كون إرادة العبد مقهورة لإرادة المولي لا يجعله من قبيلها موضوعا و لا يلحقه بها حكما، مضافا إلي أن ذلك إنما يتأتي في إرادة العبد المطيع دون العاصي كما اعترف به و من المعلوم أن الاحكام لا تختص بالمطيعين دون العصاة.

و ثانيا: إن الضرر المترتب علي العمل لا يترتب عليه دائما مباشرة،

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 162

بل قد يكون العمل مجرد معد للضرر كما لو كان الوضوء مما يوجب استعداد المزاج لمرض ما. و حينئذ لا يمكن اتصاف الحكم بأنه ضرر بلحاظ توليده للعمل المضر.

و ثالثا: إن العنوان التوليدي إنما ينطبق علي سببه بالمعني المصدري المتضمن للنسبة الصدورية لا بالمعني الاسم المصدري و نحوه مما لا يتضمن نسبة صدورية و لذا لا يقال علي الإلقاء إنه احتراق و لكن يقال إنه إحراق، لان الإحراق يتضمن نسبة صدورية دون الاحتراق، و علي هذا فما ينطبق علي الحكم هو عنوان الإضرار و الضرار لا عنوان (الضرر) لانه معني اسم مصدري علي ما سبق.

و رابعا: إن هذا المقدار ليس إلا تصويرا لتفسير الحديث بنفي الحكم الضرري و ذلك لا يقتضي تعينه بعد عدم انحصار ما يحتمل معني للحديث بهذا التصوير.

المسلك الثاني: أن يكون المراد بالحديث النهي عن الضرر و إلا ضرار
اشارة

. و هذا المسلك هو العمدة في تفسير الحديث في مقابل تفسيره بنفي الحكم الضرري، و قد ذهب إليه جمع من اللغويين و نقل عن بعض فقهاء العامة. و قد

اختاره من المتأخرين جماعة منهم صاحب العناوين و العلامة شيخ الشريعة. و علي هذا المسلك يكون مفاد (لا ضرر) متحدا مع مفاد (لا ضرار) بعد الاعتراف بوحدة معني المادة فيهما علي ما تقدم تحقيقه فيكون التكرار لمجرد التأكيد كما نقل عن بعض اللغويين علي ما مر. و ربما قال جمع منهم بالتفرقة بينهما تخلصا عن التكرار بوجوه ضعيفة سبق التعرض لها و لنقدها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 163

و ينحل هذا المسلك في نفسه إلي عدة وجوه، لأن النهي الذي يتضمنه الحديث تارة يجعل نهيا تحريميا أوليا، و أخري يقال إنه نهي تحريمي سلطاني و ثالثة يدعي أنه جامع بين النهي التكليفي و الإرشادي. و نحن نتعرض لتحقيق أصل هذا المسلك وفق الوجه الأول من هذه الوجوه لأنه أقواها و أرجحها، ثم نتعرض للوجهين الآخرين عقيب ذلك، و إن كانت جملة من الأبحاث الاتية في هذا الصدد مما يتعلق بأصل هذا المسلك فتنطبق علي جميع الوجوه.

و لتحقيق هذا المسلك لا بد من البحث:
اشارة

أولا: في تصويره. و ثانيا: فيما ذكر ترجيحا له و إثباتا لتعينه.

و ثالثا: فيما يرد علي هذا المسلك أو أورد عليه.

و رابعا: في الوجهين الأخيرين مما قيل بناء عليه.

فهنا أبحاث أربعة:

البحث الأول: في تصوير هذا المبني
اشارة

. و هو يتوقف علي توضيح أمرين:

الأول: كيفية إرادة النهي من هذا التركيب

. لا إشكال في أن مفاد (لا) في الحديث هو النفي فيكون معني الحديث استعمالا الاخبار عن نفي الضرر و الضرار علي ما هو المنساق منه، و إنما أريد النهي علي تقديره في مرحلة الإرادة تجوزا. و الجهة المصححة لهذا الاستعمال هي التناسب الموجود بين نفي الطبيعة و بين التسبيب إلي انتفائها باعتبارها فعلا محرما. و أما العناية الموجبة لهذا التجوز فهي إظهار المبالغة في الزجر عن الشي ء حتي كأن الفعل لا يوجد خارجا أصلا، كما تستعمل صيغة الإثبات

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 164

في البعث إلي الشي ء بمثل هذه العناية و قد ذكر في علم المعاني أنه قد يقع الخبر موقع الإنشاء لإظهار الحرص في وقوع الفعل حتي يخيل إليه حاصلا و قد أوضحنا القول في ذلك بتفصيل في بحث استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب من علم الأصول.

الثاني: في ثبوت استعمال هذا التركيب في النهي

. لا إشكال في ثبوت استعمال الجملة الخبرية بأقسامها في غير مورد الإنشاء الطلبي و الزجري سواء كانت جملة اسمية ك (هي طالق) أو جملة فعلية بالفعل الماضي ك (بعت) و (اشتريت) أو بالفعل المضارع نحو (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ). لكن الأمر ليس كذلك في مورد الإنشاء الطلبي و الزجري علي ما يشهد به موارد الاستعمالات فلم يثبت استعمالها في مورد إنشاء هذين المعنيين، إذا كانت الجملة اسمية من قبيل (زيد قائم) أو (زيد ليس بقائم) بأن يراد بالأول بعثه إلي القيام و بالثاني زجره عنه و إن كان الاستعمال صحيحا ممكنا كأن يقول الوالد لولده (أنا مسافر غدا و أنت معي) و مراده طلب السفر معه. و أما في مورد الفعل الماضي فربما قيل إنه لم يثبت أو لا يصح أيضا كما

عن السيد الأستاذ (قده) «1». لكنه ليس بواضح فإنه يشيع استعماله في الدعاء ك (رحمك الله و أعزك) كما يستعمل في معني الأمر إذا كان جزاء ك (إذا استيقن إنه زاد في صلاته ركعة أعاد صلاته) و ربما استعمل فيه ابتداء كقوله عليه السلام (أجزء امرؤ قرنه آسي أخاه بنفسه) «2».

______________________________

(1) المحاضرات ج 2 ص 137.

(2) نهج البلاغة (في حث أصحابه علن القتال: 180 181).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 165

و أما في مورد الفعل المضارع فلا إشكال في ثبوت استعمالها في البعث و الزجر كما هو شائع ك (يعيد صلاته) أو (لا يعيد صلاته) علي ما هو واضح. (و أما تركيب لا النافية): و هو مورد البحث هنا فربما يشكل ذلك كما ذكر المحقق الخراساني (إن إرادة النهي من النفي و إن كان غير عزيز إلا إنه لم يعهد في مثل هذا التركيب) «1» و رد عليه العلامة شيخ الشريعة بشيوع هذا المعني في التركيب و ذكر جملة كثيرة من الأمثلة ادعي فيها إنها تعني النهي «2». و الحق إن القولين لا يخلوان عن إفراط و تفريط، أما الأول فلمعهودية إرادة النهي من النفي كما في قوله تعالي (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ) «3» و غير ذلك من الاستعمالات. و أما الثاني: فلان شيوع هذا المعني في التركيب المزبور بالمستوي الذي يمثله ذكر تلك الأمثلة غير ثابت فإن جملة منها ليست بهذا المعني كما يأتي تفصيله في التعرض لما ذكر في ترجيح هذا المسلك. لكن يكفي في ما هو الغرض في المقام (من تصوير هذا المسلك) أصل ثبوت استعمال هذا التركيب في هذا المعني. و علي ضوء

هذا يتضح تمامية هذا المسلك تصويرا.

البحث الثاني: في تعيين هذا المسلك و ترجيحه
اشارة

. و يستفاد من كلام العلامة شيخ الشريعة في هذا الصدد وجوه:

______________________________

(1) كفاية الأصول: 382.

(2) رسالة لا ضرر له: 37 39.

(3) البقرة 2: 197.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 166

الوجه الأول: ما يظهر من مجموع كلامه «1» من تعين إرادة النهي في الحديث

نظرا إلي شيوع إرادته من هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون غيره من المعاني التي يصح أن تراد بهذا التركيب. و هذا ينحل إلي عقدين سلبي و إيجابي. أما العقد السلبي: و هو عدم شيوع غيره، فلان في قبال احتمال النهي وجهين: أحدهما: نفي المسبب و إرادة نفي السبب كما هو مبني تفسيره بنفي الحكم الضرري. و الثاني: نفي الحكم بلسان نفي موضوعه. و الأول غير معهود في هذا التركيب أصلا. و الثاني معهود لكن فيما لا يماثل المقام موضوعا و هو ما إذا ثبت حكم لموضوع عام و أريد نفيه عن بعض أصنافه ك (لا سهو في سهو) و من الواضح إن المقام ليس من هذا القبيل، إذ لم يجعل لنفس الضرر حكم يراد نفيه عن بعض أصنافه، و أما نفي حكم موضوع آخر عنه فإرادته تحتاج إلي قرينة واضحة و هي منتفية في مقامنا. و أما العقد الإيجابي: و هو شيوع إرادة النهي من هذا التركيب فقد ذكر له أمثلة من الكتاب و السنة و قال بعدها (و لو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات و استعمالات الفصحاء نظما و نثرا لطال المقال وادي إلي الملل و فيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعني في هذا التركيب، أعني تركيب (لا) التي لنفي الجنس «2».

______________________________

(1) يظهر ذلك بملاحظة ما ذكره أول الفصل الثامن من شيوع إرادة النهي و ما ذكره بعد ذلك ص 37 40 حول سائر الاحتمالات.

(2)

رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص 37 39.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 167

و الأمثلة التي ذكرها هي كما يلي:

1 قوله تعالي (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ) «1».

2 و قوله تعالي (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لٰا مِسٰاسَ) «2» في مجمع البيان: معني (لٰا مِسٰاسَ) أي لا يمس بعضنا بعضا «3».

3 و مثل قوله صلي الله عليه و آله: (لا جلب و لا جنب و لا شغار في الإسلام).

4 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا جلب و لا جنب و لا اعتراض).

5 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا خصي في الإسلام و لا بنيان كنيسة).

6 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا حمي في الإسلام و لا مناجشة).

7 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا حمي في الأراك).

8 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا حمي إلا حمي الله و رسوله).

9 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل).

10 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا صمات يوم إلي الليل).

11 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا صرورة في الإسلام).

12 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

13 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام).

14 و قوله صلي الله عليه و آله: (لا غش بين المسلمين).

______________________________

(1) البقرة 2: 197.

(2) طه 20: 97.

(3) ط جديد ج 4 ص 28.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 168

و لرد علي هذا الوجه:

أولا: ما تقدم من إن شيوع إرادة النهي

من هذا التركيب لا يؤثر في تقوية هذا الاحتمال و تضعيف سائر الاحتمالات بمجرد التماثل التركيبي بين المقام و بين الموارد الأخري، مع اختلافها في ملابسات و خصوصيات مؤثرة في تغيير المعني، بل لا بد من إحراز اتحادها في ذلك. و جملة (لا ضرر) لا تشترك مع الأمثلة المضروبة في هذه الجهة لأن طبيعة الموضوع المنفي فيها أمر مرغوب عنه مما يجعل الإنسان لا يتحمله إلا بتصور تسبيب شرعي فالنفي الوارد في هذا السياق النفسي يهدف بالطبع إلي إبطال التصور المذكور، و نفي التسبيب الشرعي إلي ذلك، و ليس شي ء من هذه الأمثلة من هذا القبيل فإنها بين طبائع خارجية مرغوبة لذاتها لانسجامها مع القوي الشهوية و الغضبية، و بين طبائع اعتبارية مرغوبة لآثارها القانونية كما سيتضح مما يأتي فشيوع إرادة النهي في هذا المجال لا يحسم الموقف لصالح احتمال النهي في الحديث.

و ثانيا: إن استعمال هذا التركيب في النهي ليس بشائع بالمستوي المدعي، إذ جملة من الأمثلة المذكورة إنما هي من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، إما لتعذر إرادة النهي فيها و إن أفادت التحريم أو لعدم ظهورها في ذلك. أما القسم الأول: و هو ما يتعذر إرادة النهي منها فهو ما اقترن بكلمة (في الإسلام) فإن وجود هذه الكلمة يقتضي كون نفي الماهية بلحاظ عالم التشريع أي عدم وقوعه موضوعا للحكم لا نفيها خارجا بداعي الزجر عن إيجادها. ففي هذا القسم حتي لو أريد التحريم كما في (لا خصي في الإسلام) مثلا فإنما يكون ذلك علي سبيل نفي الحكم (أي الجواز) بلسان نفي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 169

موضوعه لا علي إرادة النهي، و إن كان نفي الجواز و النهي

يرجعان إلي مؤدي واحد، إلا إنه لا ينبغي الخلط بينهما في مقام التدقيق في أنحاء استعمال هذا التركيب كما هو واضح.

و أما القسم الثاني: و هو ما لا يكون ظاهرا في التحريم فهو الموارد التي كان المنفي فيها ماهية اعتبارية، فإن نفي الماهية الاعتبارية ظاهر حسب تناسبات الحكم للموضوع في نفي صحتها كما تقدم توضيح ذلك في ذكر الضابط العام لتشخيص محتوي صيغ الحكم فتكون هذه الموارد من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه. سواء في ذلك ما كان النفي فيه نفيا للماهية خارجا أو في وعاء التشريع. فمن الأول قوله (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) فإن المراد بالسبق العقد الخاص فالمقصود بالحديث بطلانه إلا في الموارد المستثناة، و ثبوت حرمته بدليل آخر لا يقضي باستفادته من هذا الدليل. و من الثاني: قوله (لا شغار في الإسلام) فإن الشغار نوع خاص من النكاح كان معروفا في الجاهلية و قوله (لا حمي في الإسلام) فإن المراد بالحمي اعتبار مرعي و مرتع مختصا بشخص أو قبيله، فيمنع الغير من الرعي فيه و هذا نوع من الحكم الوضعي الذي يندمج فيه الحكم التحريمي و مرجع نفيه إلي الغاية أو إسقاط ما كان يترتب عليه من الآثار في العرف الجاهلي لا تحريمه تحريما مولويا. و يحتمل أن يكون من هذا القبيل قوله (لا رهبانية في الإسلام) بناء علي إنها التزام و تعهد نفسي بترك الاشتغال بالدنيا و ملاذها و العزلة من أهلها و التعمد إلي مشاقها، فيكون المراد بنفيها إلغاء هذا العهد و عدم استتباعه لوجوب الوفاء فلا يكون في هذا المورد تحريم مولوي.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 170

و بذلك ظهر أن

معني النهي لا يتجه في الأمثلة المذكورة، إلا فيما لم يقترن بزيادة في الإسلام و كان المتعلق ماهية خارجية يؤتي بها لبعض الدواعي الشهوية و الغضبية ك (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ) «1».

الوجه الثاني: تبادر النهي من الحديث و انسباقه إلي الذهن

. قال (قده) (في كلام له عن هذا المسلك): (و هو الذي لا تسبق الأذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلا إليه) «2» و قال (و بالجملة: فلا إشكال في أن المتبادر إلي الأذهان الخالية من أهل المحاورات قبل أن ترد عليها شبهة التمسك بالحديث في نفي الحكم الوضعي ليس إلا النهي التكليفي) «3».

(و يلاحظ عليه): إنه لا يتجه التمسك بالتبادر في المقام كما سبق و ذلك لان الشك (تارة) يكون في تشخيص المراد الاستعمالي وضعا أو انصرافا و (أخري) في تشخيص توافق المراد التفهيمي مع المراد الاستعمالي و عدمه.

(و ثالثة) في تشخيص المراد التفهيمي المردد بين وجوه بعد العلم بعدم توافقه مع المراد الاستعمالي. و التمسك بالتبادر إنما يتجه في المرحلة الاولي لإثبات العلقة الوضعية أو الانصراف. و أما في المرحلتين الأخيرتين فلا عبرة بادعاء التبادر بل المناط في المرحلة الثانية وجود القرينة المعينة لهذا المعني أو ذاك بعد وجود القرينة الصارفة عن المراد الاستعمالي. و من المعلوم إن حمل الحديث علي النهي ليس تحديدا لمدلوله الاستعمالي و إنما هو اقتراح في المراد التفهيمي بعد الاعتراف بتخالفه مع المراد الاستعمالي. فلا بد إذن من ملاحظة الجهات المحيطة بهذا الحديث لملاحظة مدي توفر القرينة علي أحد الوجوه المقترحة في تحديد المراد التفهيمي و قد

______________________________

(1) البقرة 2: 197.

(2) رسالة لا ضرر: 40 (الفصل الثامن).

(3) رسالة لا ضرر: 41 (الفصل الثامن).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 171

عرفت مقتضاها

في كل من الجملتين.

الوجه الثالث: ما ذكره بعد ذلك

بقوله (مضافا إلي ما عرفت من إن الثابت من صدور هذا الحديث الشريف إنما هو ما كان في قضية سمرة بن جندب و أنه ثبت فيها (لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن) و لا شك إن اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي) «1». (و يلاحظ عليه) أولا: إن هذه الزيادة لم ترد إلا في مرسلة ابن مسكان عن زرارة و هي ليست بحجة و علي تقدير حجيتها فإن موثقة ابن بكير التي تنقل نفس القضية عن زرارة دون تلك الزيادة مقدمة عليها علي ما مر تحقيقه في البحث عن متن الحديث في الفصل الأول. و ثانيا: إنه علي تقدير ثبوت هذه الزيادة فإنا لا نسلم منافاته مع إرادة نفي التسبيب إلي الحكم الضرري إذ يمكن نفي ذلك بالنسبة إلي المؤمن.

الوجه الرابع: ما ذكره بقوله (علي إن قوله صلي الله عليه و آله لسمرة إنك رجل مضار

و لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن كما في رواية ابن مسكان عن زرارة إنما هو بمنزلة صغري و كبري، فلو أريد التحريم كان معناه إنك رجل مضار و المضارة حرام و هو المناسب لتلك الصغري، لكن لو أريد غيره مما يقولون صار معناه إنك رجل مضار و الحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، و لا أظن بالاذهان المستقيمة ارتضاءه) «2». و يرد عليه أولا: إن القول المذكور لم يتضمنه إلا رواية ابن مسكان. و قد سبق عدم اعتبارها في الفصل الأول.

______________________________

(1) نفس المصدر ص 41.

(2) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة: 41 42.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 172

و ثانيا: إن مقتضي ما ذكره استفادة التحريم من (لا ضرار) لا من (لا ضرر) و لا منهما جميعا لان المستعمل في التطبيق هو وصف باب المفاعلة

و هو مضار و عليه فلا مانع من أن يراد ب (لا ضرر) نفي التسبيب إلي الضرر بنفي الحكم الضرري و يراد ب (لا ضرار) الحرمة التكليفية فتتناسب الصغري مع الكبري.

الوجه الخامس: اتفاق أهل اللغة علي فهم معني النهي من الحديث

. قال (قده) (في كلام له): (و لنذكر بعض كلمات أئمة اللغة و مهرة أهل اللسان تراهم متفقين علي إرادة النهي لا يرتابون فيه و لا يحتملون غيره، ففي النهاية الأثيرية: قوله (لا ضرر) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شي ء من حقه، و الضرار فعال من الضر أي لا يجازيه علي إضراره بإدخال (الضرر عليه). و في لسان العرب و هو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلدا «1» معني قوله (لا ضرر) لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه. و (لا ضرر) أي لا يجازيه علي إضراره بإدخال (الضرر عليه). و في تاج العروس مثل هذا بعينه، و كذا الطريحي في المجمع) «2». و في هذا الوجه ملاحظتان: الاولي: في مدي أصالة هذه المصادر الخمسة في ذكر هذا الرأي و مدي التزام مؤلفيها به.

1 و أما النهاية لابن الأثير (ت 656 ه) فقد تقدم إنها في جزء مهم

______________________________

(1) قد طبع الكتاب أولا في عشرين مجلدا و عليه جري هذا القائل و قد طبع ثانيا في بيروت في خمسة و عشرين مجلدا و قد جاء قي مقدمة هذه الطبعة 1/ 6 إنه ثلاثون مجلدا كما جاء في مقدمة تاج العروس أنه سبعة و عشرون مجلدا. منه.

(2) لسان العرب 4/ 482، مجمع البحرين 3/ 373، تاج العروس 3/ 348، النهاية لابن الأثير 3/ 81، رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة: 43.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 173

منها تجميع لكتاب غريبي الحديث و

القرآن لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفي سنة (401 ه) و كتاب الغيث في تهذيب القرآن و الحديث للحافظ أبي موسي محمد الأصفهاني (ت 581 ه) و قد جعل لكل منهما علامة. و قد جعل هنا علامة الأول مما يعني إنه نقله عن كتاب الهروي و ليس من كلامه هو.

2- (و أما لسان العرب لابن منظور ت 711 ه) فهو و إن كان كتابا جامعا إلا إنه ليس إلا تجميعا لعدة كتب لغوية و هي تهذيب اللغة للأزهري (ت 370 ه) و الصحاح للجوهري (ت 393 ه) و نقد الصحاح لابن بري و المحكم لابن سيدة الأندلسي و النهاية لابن الأثير. و قد صرح بذلك مؤلفه في مقدمة كتابه كما صرح بأنه ليس مسؤولا عما في الكتاب «1» و قد اعتبره بعض محققي هذه الكتب كالنهاية كتاب اللسان نسخة من نسخها في مرحلة تحقيقها «2» و قد نقل في اللسان عبارتين تتضمنان تفسير

______________________________

(1) قال في مقدمة لسان العرب 1/ 8 ط بيروت (و ليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها و لا وسيلة أ تمسك بها سوي إني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم و بسطت القول فيه و لم أشبع باليسير و طالب العلم منهوم فمن وقف فيه علي صواب أو ذيل أو صحة أو خلل فعهدته علي المصنف الأول و حمده و ذمه لأصله الذي عليه المعول لانني نقلت من كل أصل مضمونه و لم أبدل منه شيئا فيقال إنما إثمه علي الذين يبدلون بل أديت الأمانة في نقل الأصول بالنص و ما تصرفت فيه بكلام غير ما فيه من النص فليعتد من ينقل من كتابي هذا إنه

ينقل عن الأصول الخمسة و ليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما طلعت شمسه) و قد أكد ذلك في أثناء الكتاب ففي 4/ 42 (قال عبد الله محمد بن المكرم: شرطي في هذا الكتاب أن أذكر ما قاله مصنفو الكتب الخمسة التي عنيتها في خطبته لكن هذه نكتة لم يسعني إهمالها. قال الهيثمي.).

(2) لاحظ مقدمة النهاية: 19 قال (و لما كان ابن منظور قد أفرغ النهاية في لسان العرب فقد اعتبرنا ما جاء من النهاية في اللسان نسخة و أثبتنا ما بينه و بينها من فروق).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 174

الحديث بالنهي: إحداهما: عبارة النهاية لابن الأثير و قد نسبها إليه صريحا. و الثانية: عبارة الأزهري في تهذيب اللغة و لم يصرح باسمه و إنما عبر بقوله (قال: و روي عن النبي صلي الله عليه و آله.) و الكلام الذي نقله هذا القائل هو جزء من هذه العبارة. فليس ذلك قول لابن منظور نفسه.

3 و أما الدر النثير للسيوطي (ت 911 ه) فهو: أولا: مختصر نهاية ابن الأثير و اسمه الكامل (الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير و قد أضاف علي ذلك إضافات قليلة كما ذكر في مقدمة محقق النهاية «1» و عبارته في المقام نص عبارة ابن الأثير فهو في الحقيقة ليس مصدرا آخر. و ثانيا: إن الظاهر إن السيوطي لا يلتزم بأن معني (لا ضرر) هو النهي، فإنه في كتبه الحديثية و الفقهية جري علي ما بني عليه أكثر فقهاء العامة من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري، ففي كتابه تنوير الحوالك في شرح موطإ مالك نقل عن ابن داود قوله (إن الفقه يدور علي خمسة أحاديث و هذا أحدها) «2»

و في كتابه الأشباه و النظائر «3» و هو مؤلف في القواعد الفقهية قد فرع عليها فروعا كثيرة لا تنسجم إلا مع التفسير المذكور كما تقدم ذكر ذلك.

______________________________

(1) قال في ص 8 ثم رأي السيوطي أن يفرد زياداته علي النهاية و سماها التذييل و التهذيب علي نهاية الغريب. و يوجد هذا التذييل بآخر نسخة من نسخ النهاية بدار الكتب المصرية و هو في سبع ورقات) و قد ذكر في ص 19 20 (و قد نظرنا في الدر النثير للسيوطي و سجلنا تحقيقاته و زياداته و معظمها عن ابن الجوزي و لعله اطلع علي غريبه فهو يكثر النقل عنه).

(2) المصدر 2/ 22.

(3) الأشباه و النظائر 84 85.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 175

4 و أما تاج العروس للزبيدي: فالظاهر إنه أخذ ما ذكره من النهاية أما مباشرة أو بتوسط لسان العرب أو الدر النثير، فإنها جميعا من مصادره كما يظهر من مقدمة كتابه، و قد اعتمد عليه محقق النهاية في تحقيق نصها كما ذكره في مقدمتها و عبارته في المقام عين عبارة النهاية. مضافا إلي إن كلامه قد لا يدل علي جزمه بذلك فإنه لم يتضمن إلا نقل هذا التفسير حيث قال (و الاسم الضرر فعل واحد و الضرار فعل الاثنين و به فسر الحديث (لا ضرر و لا ضرار) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه و لا يجازيه علي إضراره بإدخال الضرر عليه، و قيل هما بمعني و تكرارهما للتأكيد).

5 و أما مجمع البحرين: فهو أيضا ذكر عين عبارة النهاية في المقام و قد صرح في المقدمة بأنها من مصادره. و بذلك يتضح: أولا: إن ذكر هذا الرأي في كلمات

هؤلاء لم يكن عن التزام به من قبلهم جميعا، بل كان ذكر أكثرهم لذلك علي سبيل النقل و لو احتمالا كما في المصادر الأربعة الأولي، و ذلك إن أكثر الكتب اللغوية شأنها تجميع. الكلمات و الأقوال كالجوامع الحديثية، و لذا كانوا يذكرون الاسناد إليها في العهد الأول. و ثانيا: إن أصل هذا التفسير ينتهي إلي كلامين تقدم ذكرهما في أول هذا الفصل أحدهما للأزهري في تهذيب اللغة، و الثاني للهروي في الغريبين، و سائر المتأخرين عنهما إنما ذكروا نص هذين الكلامين أو أحدهما و لو ملخصا من دون تصرف زائد في ذلك. و علي ضوء ذلك يظهر إن ما ذكر من نسبة فهم هذا المعني إلي مهرة اللغة لا يخلو عن نظر و تأمل.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 176

و الملاحظة الأخري: إن الاحتجاج بقول أهل اللغة ضعيف لعدم حجية أقوالهم في حد أنفسها علي ما أوضحناه في علم الأصول لا سيما في مثل هذا الموضوع الذي لا يرتبط بتفسير مفرد لغوي، و إنما يرتبط بتشخيص المعني المجازي للكلمة، و خصوصا مع تعارضه مع فهم الفقهاء الذين هم أكثر اطلاعا علي المناسبات الدخيلة في تشخيص المراد التفهيمي، لا سيما في النصوص التشريعية حيث تقدم أن أغلب فتقاء الفريقين فهموا من الحديث نفي مجعولية الحكم الضرري.

الوجه السادس و السابع و الثامن: ما نقله (قده) عن صاحب العناوين

من إنه قال:

1- (و الحق إن سياق الروايات يرشد إلي إرادة النهي من ذلك، و إن المراد تحريم الضرر و الضرار و المنع عنهما، و ذلك إما بحمل (لا) علي معني النهي، و إما بتقدير كلمة (مشروع و مجوز و مباح) في خبره مع بقائه علي نفيه، و علي التقديرين يفيد المنع و التحريم.

2 و هذا هو الأنسب

بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك، كما في مقام ما يوجد في دين و ما لا يوجد، و إن كان كل من المعنيين مستلزما للاخر إذ عدم كونه من الدين أيضا معناه منعه فيه و منعه فيه مستلزم لخروجه عنه.

3 مضافا إلي إن قولنا (الضرر و الضرار غير موجود في الدين) معني يحتاج تنقيحه إلي تكلفات، فإن الضرر مثلا نقص المال أو ما يوجب نقصه، و ذلك ليس من الدين بديهة إذ الدين عبارة عن الاحكام لا الموضوعات، فيحتاج حينئذ إلي جعل المعني هكذا: إن الحكم الذي فيه ضرر أو ضرار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 177

ليس من الدين، و هذا غير متبادر و إن بالغ فيه بعض المعاصرين) «1». و هذه الوجوه غير تامة أيضا. أما الأول: فلمنع إرشاد سياق الروايات إلي إرادة النهي من (لا ضرر) لا سيما علي المختار من دلالة (لا ضرار) علي النهي. كما إن الوجهين المذكورين لتخريج إرادة التحريم ضعيفان و إنما الصواب ما تقدم ذكره في تصوير هذا المسلك: و أما الثاني: فلان كون الشارع في مقام الحكم و القضاء لا يقابل كونه في مقام بيان تحديد الأحكام الشرعية بعدم الضرر تطبيقا لذلك في المورد كما هو واضح. و أما علي الثالث: فلان مبناه ثبوت زيادة (في الإسلام) ليكون المنفي وجود الضرر في وعاء التشريع، و أما علي تقدير عدم ثبوتها كما هو الصحيح فإن المنفي حينئذ يكون وجود الضرر في الخارج، و هو غير مراد تفهيما علي كل تقدير سواء فسر بالنهي أو بنفي الحكم الضرري، لكن مصححه علي الأول التسبيب إلي عدم الإضرار و علي الثاني عدم التسبيب إلي وقوع

الضرر و لا ترجيح للأول علي الثاني بل سبق تعين الثاني.

الوجه التاسع: ما يمكن أن يقال علي ضوء ما ذكره في موضع آخر

حيث قال: (إن التخصيصات الكثيرة التي يذعون ورودها علي القاعدة ليست كما يقولون، و أنها مبتنية علي إرادة المعني الذي رجحوه من التعميم للتكليفي و الوضعي و للضرر الناشئ من أركان المعاملة و شروطها و ما يترتب عليها مما هو خارج عنها «2» فلعل التسليم بورود تلك التخصيصات علي

______________________________

(1) لاحظ رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة الفصل الثامن ص 40 للسيد مير فتاح، العنوان العاشر.

(2) رسالة (لا ضرر) للعلامة شيخ الشريعة الفصل التاسع ص 45.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 178

الحديث في تفسيره بنفي الحكم الضرري يكون قرينة علي بطلان هذا الاحتمال، فيتعين احتمال النهي، و بعبارة أخري لازم تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري كثرة التخصيص بخلاف تفسيره بالنهي المولوي عن الإضرار، فهذه قرينة عقلية علي بطلان تفسيره بنفي الحكم الضرري. لكن هذا الوجه أيضا غير تام لما سيأتي في التنبيه الثاني من تنبيهات القاعدة من عدم ثبوت استلزام إرادة نفي الحكم الضرري لتخصيص الحديث كذلك. هذه هي الوجوه التي أفادها العلامة شيخ الشريعة (قده) في ترجيح هذا المسلك، و قد ظهر عدم نهوض شي ء منها علي ذلك. و علي هذا: فهذا المبني بعد تمامية تصويره ليس له معين في حد نفسه في مقابل سائر الوجوه و المعاني التي يصح إرادتها من الحديث.

البحث الثالث: في مناقشة هذا المسلك
اشارة

. و يظهر ذلك مما سبق في تحقيق معني الحديث علي المختار. ففيما يتعلق ب (لا ضرر) قد أوضحنا إن معني الضرر بما إنه معني اسم مصدري لا يتضمن النسبة الصدورية فلا تناسب بينه و بين احتمال النهي لأنه ماهية مرغوب عنها لا تتحمل إلا بتصور التسبيب الشرعي فيكون نفيه نفيا لذلك بالطبع، و إنما المناسب مع النهي هو الإضرار

و الضرار، مع تأيد ذلك بفهم أكثر الفقهاء و أنسبيته مع بعض موارد الحديث كقضية سمرة علي ما مر سابقا و أما فيما يرتبط ب (لا ضرار) فإن إفادته للنهي صحيحة، لكن لا يقتصر مفادها علي ذلك لان مؤداه التسبيب إلي عدم الإضرار بالغير، و هذا المعني كما يقتضي النهي عنه فإنه يقتضي تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحته علي ما سبق أيضا.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 179

و قد يعترض علي هذا المسلك بوجوه أخري: منها: ما تقدم في أثناء المباحث السابقة و تقدم القول فيها. و منها: ما أورده السيد الأستاذ (قده) من إنه لا يمكن الالتزام باحتمال النهي في المقام، (أما بناء) علي اشتمال الحديث علي جملة (في الإسلام) كما في رواية الفقيه و نهاية ابن الأثير فظاهر، لان هذا القيد كاشف عن إن المراد هو النفي في مقام التشريع لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر، (و أما بناء) علي عديم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح، فلان حمل النفي علي النهي يتوقف علي وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية، كما هي ثابتة في قوله تعالي (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ) «1» فإن العلم بوجود هذه الأمور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب علي الله سبحانه و تعالي، قرينة قطعية علي إرادة النهي، و أما في المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور و حمل النفي علي النهي، لإمكان حمل القضية علي الخبرية «2».

و فيما ذكر نظر في كلا الشقين:
أما الشق الأول: فيلاحظ علي ما ذكر:

أولا: إنه لا وجه لذكره بعد إن كان مبناه و مبني المعترض عليه جميعا و هو العلامة شيخ الشريعة عدم صحة هذه الزيادة فالبحث في الصيغة التي ثبت ورود الحديث بها لا غيرها.

و

ثانيا: إن وجود هذه الزيادة و إن كان يمنع عن جعل المقصود ب (لا ضرر) نفس النهي عن الإضرار، إلا إنه لا يمنع من استفادة التحريم المولوي

______________________________

(1) البقرة 2/ 197

(2) لاحظ مصباح الأصول 2/ 526.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 180

من الحديث علي أن يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه استعمالا، و يراد به تفهيما نفي جواز الضرر في الشريعة الإسلامية و مدعي المعترض عليه هو دلالة الحديث علي الحرمة سواء كانت مرادا استعماليا أم تفهيميا، كما يظهر من آخر كلامه في المقام «1». إن قيل: إنه يعتبر في نفي شي ء في الشريعة المقدسة ثبوت الحكم المنفي للشي ء مسبقا كأن يثبت له في الشرائع السابقة كما في قوله عليه السلام (لا رهبانية في الإسلام) فإن الرهبانية كانت مشروعة في الأمم السابقة فكان نفيها في الإسلام نفيا لمشروعيتها، و الإضرار ليس كذلك (فإن حكمه السابق حيث لم يكن إباحة بل كان إما تحريما أو قبيحا علي ما يستقل به العقل فإرادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ينتج ضد المقصود و هو نفي الحرمة أو القبح الثابتين سابقا). قيل: إن هذا البيان أولا: منتقض بقوله (لا مناجشة في الإسلام) فإنه لا إشكال في إن المراد نفي مشروعيتها مع أنها أيضا قبيحة عقلا. و قد ذكر الشيخ الأنصاري في المكاسب المحرمة بعد ذكر النجش إنه يدل علي قبحه العقل، لانه غش و تلبيس و إضرار. فالنجش أما منحصر بمورد الإضرار كما يظهر من المصباح المنير «2» أو أعم من ذلك، فكيف يوجه نفي الحكم فيها بلسان نفي موضوعه مع أنه قد ينتج ضد المقصود. و ثانيا: إنه يمكن حل ذلك بملاحظة مجموع جهتين: الاولي:

إن نفي الحكم بلسان نفي موضوعه لا يختص بما لو كان

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2/ 526.

(2) المصباح المنير 2: 594.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 181

الحكم ثابتا للشي ء في الشرائع السابقة، بل يكفي ثبوته له عرفا و عادة كما اعترف به فإن للعرف أيضا قانونا و إن لم يكن مدونا، و إضافة النفي إلي الإسلام يكفي في مصححه ثبوت الحكم في القانون العرفي كما هو واضح. الثانية: إنه لا يبعد القول بأن الإضرار في العرف الجاهلي كان مباحا و مجوزا و ذلك بملاحظة عملهم الخارجي، فقد كان يتعارف لديهم المعاملات الضررية كالقمار و الربا و غيرهما كما كان من عاداتهم وأد البنات و الإغارة و النهب، و كانت سيرتهم علي وفق قانون (الحق للقوة) حيث كان القوي يظلم الضعيف و يغصب حقه، كما كانوا يضارون النساء كثيرا، و لذلك ورد النهي عن مضارتهن في جملة من الآيات القرآنية كقوله تعالي (وَ لٰا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) «1» كما ورد التنديد بالظالم في كثير منها. و لا ينافي ذلك حكم العقل بقبح الإضرار فإن الأحكام الحاكمة في العرف الجاهلي كان كثير منها علي خلاف ما يحكم به العقل، كما أشير إلي ذلك في كثير من الآيات الشريفة في مقام المحاجة معهم و لا يختص ذلك بإباحة الإضرار. و علي هذا فيكون المقصود بالحديث أن الجواز الثابت للإضرار في العرف الجاهلي غير ثابت له في الإسلام.

و أما الشق الثاني: فيرد علي ما ذكر في إبطاله:

إن مجرد انحفاظ كون الجملة خبرية علي تقدير تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري لا يصلح ترجيحا لهذا التفسير، و مبطلا لاحتمال النهي إلا إذا لم يكن التفسير المذكور مقتضيا للتجوز في أية جهة أخري بحيث تتطابق عليه الإرادة الاستعمالية و

الإرادة التفهيمية من جميع الجهات، و إلا لو كان هذا التفسير يقتضي نحو

______________________________

(1) الطلاق 65: 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 182

تجوز آخر في الحديث لكان الوجهان سواء في مخالفتهما للأصل، فلا بد من قرينة معينة لأحدهما بعد وجود القرينة الصارفة عن إرادة المعني الحقيقي و هو نفي الضرر خارجا. و قد اتضح مما ذكرناه سابقا: أن نفي الحكم الضرري معني مجازي للحديث لان المراد الاستعمالي به هو نفي وجود الطبيعي خارجا، لكنه استعمل بداعي التعبير عن عدم التسبيب التشريعي إلي تحقق الضرر، و عليه فلا يرد الاعتراض المذكور.

البحث الرابع: في الوجهين الآخرين في تقرير هذا المسلك

. قد سبق أن ذكرنا إن هذا المسلك ينحل إلي وجوه ثلاثة:

أولها و أقواها: أن يراد بالحديث النهي التحريمي المولوي. و هذا الوجه هو المنساق من كلام من فسر الحديث بالنهي من غير توضيح لنوعه. و إنما كان أقوي من الوجهين الآخرين لانه لا يتجه عليه اعتراض زائد عما يرد علي أصل هذا المسلك بخلاف هذين الوجهين كما سوف يتضح ذلك.

الوجه الثاني: أن يراد بالنهي ما يعم النهي التحريمي المولوي و النهي الإرشادي. و قد ذكر ذلك الشيخ الأنصاري (قده) في الرسائل حيث قال بعد ذكر احتمال النهي (و لا بد أن يراد بالنهي زائدا علي التحريم الفساد و عدم المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته علي الحكم الوضعي دون محض التكليف، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء بالشروط و العقود. فكل إضرار بالنفس أو بالغير محرم غير ماض علي من أضره، و هذا المعني قريب من الأول بل راجع إليه) «1».

______________________________

(1) فرائد الأصول 2/ 535، الرسائل ط رحمت الله ص 315.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 183

و الكلام تارة في تصوير

هذا الوجه و أخري في مدي انسجامه مع ظاهر الكلام. أما من الناحية الأولي: فقد يشكل هذا الوجه من جهة اقتضائه الجمع بين إرادة الحكم المولوي و الإرشادي و الجمع بين الحكمين يستلزم تعدد المراد التفهيمي بالنفي أي استعمال اللفظ في أكثر من معني مجازي و هو خلاف الظاهر علي الأقل. و لكن التحقيق عدم اتجاه هذا الاشكال لعدم الحاجة إلي قصد معنيين بل يمكن إرادة النهي، فإن معني النهي بحقيقته و هو الزجر جامع بينهما، إلا أنه إذا كان محتواه الوعيد علي الفعل كان نهيا مولويا تحريميا. و إذا كان محتواه الإرشاد إلي عدم ترتب الأثر المرغوب من الشي ء من الأثر القانوني في موضوعات الاحكام، أو امتثال الحكم المتعلق بالطبيعة لم في متعلقاتها كان إرشاديا، و لا مانع من اجتماع الأمرين كما في مورد تحريم الربا، و عليه يمكن إرادة كلتا الحرمتين، كما يمكن إرادة الحلية التكليفية و الوضعية جميعا من الحكم بها في نحو (أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ) «1». نعم، يشكل الوجه المذكور من جهة أخري و هي الجمع بين إرادة متعلق الحكمين، و ذلك لان الضرر علي هذا التقدير لا بد أن يكون ملحوظا باللحاظين الاستقلالي و المرآتي في حال واحد. أما اللحاظ الاستقلالي فباعتبار الحكم التكليفي، لأن النهي التحريمي المولوي إنما يتعلق بالإضرار بما هو إضرار. و أما اللحاظ المرآتي فباعتبار الحكم الوضعي لأنه لا معني لفساد الإضرار بذاته و إنما يتجه الحكم عليه بالفساد إذا أخذ مرآة لماهية يعقل اتصافها بالفساد.

______________________________

(1) البقرة 2: 275.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 184

و الجمع بين اللحاظين و إن لم يمتنع عقلا إلا إنه خلاف الظاهر جدا لأنه يقتضي استعمال اللفظ في معنيين

معا، نعم لو كان المنفي ماهية يمكن تعلق التحريم و الفساد بها مباشرة احتمل الوجه المذكور معني للكلام. و أما من الناحية الثانية: فيلاحظ إن هذا الوجه يخالف ظهور الجملة من جهات، مضافا إلي ما سبق في أصل احتمال النهي. منها: كون الضرر مرآة لما يكون ضررا لكي يعقل أن يكون متعلقا للحكم الوضعي، و لا إشكال في مخالفة ذلك للظاهر إذ الظاهر هو تعلق النفي به نفسه. و منها: الجمع بين إرادة الضرر بنفسه و جعله مرآة لما ينطبق عليه و هو مخالفة أخري للظاهر كما تقدم، و يتفرع علي ذلك أنه يكون اسناد التحريم إلي الضرر إسنادا مجازيا بلحاظ مرآتيته لما يصدق عليه، و حقيقيا أخري باعتبار ملحوظيته ذاتا. و منها: تعميم الحكم للحكم الإرشادي بناء علي إن الأصل في النواهي أن تكون مولوية كما هو المعروف بين الأصوليين فيكون خلاف الأصل. و هكذا يتضح مدي التكلف الذي يتضمنه هذا التقرير.

الوجه الثالث: أن يكون النهي نهيا سلطانيا كما ذهب إليه بعض الأعاظم «1». و أوضحه بأن للنبي صلي الله عليه و آله شؤونا:

أحدها: تبليغ الأحكام الإلهية و هو ما يعبر عنه بالنبوة أو الرسالة باعتبار أنبائه صلي الله عليه و آله عن أحكامه و إرساله لذلك. و أمره و نهيه فيما يتعلق بهذا الشأن يكون إرشادا إلي أمر الله و نهيه، كما أن مخالفتهما تكون

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني (قده): 50 و ما بعدها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 185

مخالفة لله تعالي لا للرسول صلي الله عليه و آله.

و ثانيها: الرئاسة العامة بين العباد لكونه وليا علي الأمة من قبل الله تعالي و بهذا الشأن يكون له صلي الله عليه و آله

حق الأمر و النهي مستقلا، كتنفيذه جيش أسامة و نحوه. و يكون حكمه في ذلك حكما سلطانيا تجب طاعته بما أنه وال و رئيس كما تجب طاعة أحكام الله تعالي، و قد قال تعالي (أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) «1» و جملة من الأحكام الكلية في الشريعة الإسلامية المقدسة تستند إلي هذا الشأن. و ثالثها: مقام القضاء بين المتنازعين و ذلك بتطبيق الأحكام الكلية في مورد النزاع و الحكم علي ضوئها، و تجب طاعته في ذلك بما أنه قاض لا بما أنه وال و رئيس. و حديث (لا ضرر و لا ضرار) إنما يمثل حكما سلطانيا من جهة رئاسته العامة، فمفاده المنع عن الضر و الضرار في حدود حكومته. و قد استدل علي ذلك بعدة أمور: الأول: إنه قد ورد حكاية هذا الحديث في بعض روايات أهل السنة بلفظ (و قضي صلي الله عليه و آله أن لا ضرر و لا ضرار) كرواية عبادة بن الصامت. و لفظ القضاء كالحكم ظاهر في كون المقضي به من أحكامه صلي الله عليه و آله، إما بما هو قاض بين الناس أو بما إنه ولي علي الأمة لا تبليغا عن الله تعالي، و بما أن المجعول حكم كلي لا يرتبط بمقام القضاء بين الناس فقط فينحصر أن يكون مصحح إطلاقه هو كون ذلك حكما سلطانيا صدر عنه من جهة ولايته العامة. الثاني: إن الحديث قد ورد من طرقنا في ذيل قضية (سمرة) و هي لا تنسجم مع كون الحكم المذكور فيها حكما إلهيا أو قضائيا أما الأول فلأنه

______________________________

(1) النساء 4: 59.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 186

لم يكن الحكم هنا حكما مشتبها

في المورد لكي يخبر النبي صلي الله عليه و آله بأن الحكم الضرري منفي في الإسلام أو منهي عنه من قبله تعالي. و أما الثاني: فلأنه لم يكن هناك نزاع بين الرجل الأنصاري و بين سمرة في حق أو مال. و إنما كان مورد الحديث شكاية الأنصاري ظلم سمرة له في الدخول في داره بدون استئذان و وقوعه لذلك في الضيق و المشقة، و استنجاده به صلي الله عليه و آله بما إنه ولي علي الأمة في رفع هذا الظلم و منع سمرة من ذلك، فاستجاب النبي صلي الله عليه و آله لطلب الأنصاري فأمر سمرة بالاستئذان أولا ثم أمر بقلع شجرته ثانيا منعا لوقوع الضرر في حوزة حكومته، و تحكيما للعدل و قمعا للظلم بين الرعية، و هذا إنما يناسب الحكم السلطاني. الثالث: إن الحديث قد وقع تعليلا للأمر بالقلع في قضية سمرة مع إنه لو أريد نفي الحكم الضرري أو النهي الأولي عن الإضرار لم يتجه كونه تعليلا لذلك، إذ هذان المعنيان لا يبرران الإضرار بالغير بالقلع. لان القلع في حد نفسه إضرار كما إن الأمر به حكم ضرري، و إنما يبرر ذلك إعمال الولاية قطعا لمادة الفساد و دفعا للضرر و الضرار، فلا بد أن يكون مفاد (لا ضرر) حكما سلطانيا حتي ينسجم التعليل مع الحكم المعلل. و هذا المعني هو أكثر ما وقع محلا للتركيز في كلامه (قده). و لكن هذا الوجه غير تام أيضا: لأن النهي عن الإضرار إنما يناسب أن يكون حكما كليا إلهيا لا حكما سلطانيا، لأن الإضرار بالغير ظلم عليه و قبح الظلم من القوانين الفطرية بل هو أوضح موارد التحسين و التقبيح العقليين، فكيف تكون صفحة

التشريع الإلهي خالية عن مثل هذا الحكم الفطري مع إن التشريعات الإلهية تفصيل و توضيح للقوانين الفطرية فيكون في مستوي حكم سلطاني وضعه النبي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 187

صلي الله عليه و آله. و كأن منشأ العدول إلي هذا الرأي ملاحظة إن حكمه صلي الله عليه و آله بالقلع إنما كان حكما سلطانيا في مورد قضية سمرة و قد علل بهذه الكبري فيقتضي كونها كذلك. و هذا غير تام كما سيأتي في نقد الأمر الثالث. و أما الشواهد المذكورة فلا يتم شي ء منها. أما الأول: ففيه مضافا إلي عدم حجية شي ء من روايات العامة التي عبرت بالقضاء بما فيها رواية عبادة و مضافا إلي ورود القضاء بمعان متعددة إن المنساق من التعبير بالقضاء علي ما اعترف به هو الحكومة بين المتخاصمين، و لذلك يفرق بينه و بين الفتوي لان الفتوي هي عبارة عن بيان الحكم بنحو كلي و أما القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصية التي هي مورد تشاجر و نزاع. و هذا المعني قابل لان يراد هنا علي أن يكون المقصود هو إنه صلي الله عليه و آله حكم في مورد جزئي بين المتخاصمين بأنه لا ضرر و لا ضرار، فلا ينافي ذلك كون الحكم الكلي تشريعا إلهيا عاما، و قد سبق أن نقلنا كلام بعض الفقهاء في اقتضاء هذا التعبير للحكم به في مورد خاص. يضاف إلي ذلك: استبعاد الالتزام بالمعني المذكور في جملة من موارد استخدام هذا التعبير من قبيل (قضي في الركاز الخمس) مع أن الخمس ثابت في الغنيمة بالمعني الأعم بقوله تعالي (وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ.) «1» الشامل للركاز.

و أما الثاني: ففيه منع عدم وجود

النزاع في أي حكم في مورد قضية سمرة، فإن الذي تمثله هذه القضية تحقق أمرين:

______________________________

(1) الأنفال 8: 41.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 188

الأول: وجود النزاع في شبهة حكمية حيث إن الأنصاري كان لا يري لسمرة حق الدخول في داره بلا استئذان، و لكن سمرة كان يري نفسه إنه يجوز له ذلك، لانه له حق الاستطراق إلي نخلته و ليس يريد الدخول في مكان لا حق له في استطراقه حتي يحتاج إلي الاذن من مالك الأرض، و قد احتج بذلك في كلامه مع الأنصاري و مع النبي صلي الله عليه و آله كما تضمنت ذلك معتبرة ابن بكير و خبر ابن مسكان، ففي معتبرة ابن بكير بعد ذكر طلب الأنصاري من سمرة أن يستأذن إذا دخل (فقال: لا أفعل هو مالي أدخل عليه و لا استأذن، فأتي الأنصاري رسول الله صلي الله عليه و آله فشكي إليه و أخبره فبعث إلي سمرة فجاء فقال له استأذن فأبي، فقال مثل ما قال للأنصاري). و في خبر ابن مسكان بعد ذلك (فقال: لا أستأذن في طريقي و هو طريقي إلي عذقي، قال: فشكاه الأنصاري إلي رسول الله فأرسل إليه رسول الله فأتاه فقال له: إن فلانا قد شكاك و زعم إنك تمر عليه و علي أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلي عذقي!).

الثاني: طلب الأنصاري من النبي صلي الله عليه و آله أن يحميه و يدفع عنه أذي سمرة، و ذلك لانه كان يري موقفه في النزاع الواقع في استحقاق الدخول دون أذن و عدمه، هو الحق، و كان قد ضاق به الأمر من تكرر

صدور ذلك من سمرة و إصراره علي الدخول دون أذن. و علي ضوء هذا: فيمكن القول بأن النبي صلي الله عليه و آله في مورد الأمر الأول من النزاع الذي نشب بينهما حكم علي وفق القانون الإلهي العام و أمر سمرة بالاستئذان، و هذا القانون هو حرمة الإضرار بالغير، بناء علي مسلك النهي، إذ كان دخوله بلا استئذان إضرارا بالانصاري، أو محدودية حق الاستطراق بعدم لزوم الضرر بالغير بناء علي مسلك النفي أو بكلا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 189

الأمرين بناء علي المعني المختار للحديث الجامع للنفي و النهي بلحاظ كلا الجملتين و هما لا ضرر و لا ضرار. و بعد ترجيح موقف الأنصاري في مورد النزاع و إباء سمرة عن الالتزام بموجب الحكم القضائي وصلت النوبة إلي معالجة الأمر الثاني بتنفيذ الحكم القضائي دفعا للضرر عن الأنصاري، و قد استند صلي الله عليه و آله في ذلك إلي مادة قضائه المذكور و هي (لا ضرر و لا ضرار) فأمر بقلع نخلته.

و أما الثالث: فيرد عليه:

أولا: إن مفاد (لا ضرار) لا يبرر الأمر بالقلع في حد ذاته سواء كان حكما أوليا أو سلطانيا، إذ لا فرق بين نوع النهي في عدم دلالته علي تشريع مثل هذا الإضرار كما هو واضح. و عليه فليس في الالتزام بالوجه المذكور علاج لهذه النقطة. و كأنه قد وقع الاشتباه فيما ذكر بين مرحلة اتخاذ الحاكم وسيلة لدفع الإضرار كقلع النخلة، و بين الحكم بلزوم دفعه الذي يتكفله القانون العام.

و ثانيا: إن (لا ضرار) إذا كان بدلالته علي النهي لا يبرر الأمر بالقلع فإنه يمكن تبريره بدلالته علي تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحة الإضرار علي ما تقدم إيضاحه

في ذكر المسلك المختار فلا يقتضي ذلك رفع اليد عن كون الحكم قانونيا إلهيا، و سيأتي زيادة إيضاح للموضوع في التنبيه الأول من تنبيهات القاعدة.

المسلك الثالث [المراد بالحديث هو نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ادعاء]

ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية من إن المراد بالحديث هو نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ادعاء «1» و ملخص ما ذكره في

______________________________

(1) كفاية الأصول 380 382.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 190

توضيح معني الحديث يرجع إلي نقاط ثلاث:

الاولي: في معني الضرر و الضرار. وتد ذكر إن الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال، و قال (إن الأظهر أن يكون الضرار جي ء به تأكيدا كما يشهد به إطلاق المضار علي سمرة و حكي عن النهاية. و لم يثبت له معني آخر غير الضرر).

الثانية: في المراد التفهيمي بالجملتين. و قد ذكر إن تركيب (لا) النافية إنما هو لنفي الطبيعة أما حقيقة أو ادعاء، كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) و (يا أشباه الرجال و لا رجال). و المقام من قبيل الثاني فالمقصود هو نفي حكم الضرر، لكن الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر كما صرح به هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه لوضوح إن الضرر علة لنفي الحكم حسب مفاد الحديث فلا معني لأن ينفي حكم نفسه، بل يلزم من ذلك التناقض في مرحلة الجعل و وعاء التشريع.

الثالثة: في وجه ترجيح هذا المعني علي غيره مما فسر به الحديث. و الذي يظهر من مجموع كلامه في وجه ذلك:

أولا: إن أقرب المجازات بعد عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة هو

نفيها ادعاء تحفظا علي نوع المعني المفاد استعمالا لكن علي نحو التنزيل و الادعاء فإن في المسالك الأخري عدولا عن ذلك.

و ثانيا: إن النفي الادعائي كثيرا ما يستعمل فيه هذا التركيب حتي كان هو الغالب فيه بخلاف غيره من المعاني. و في النقاط الثلاث نظر.

أما النقطة الاولي: فيرد عليها إنه لا يصح القول بوحدة معني الكلمتين

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 191

تماما علي ما اتضح من الأبحاث السابقة، فإنهما يتفقان في المعني من جهة المادة لكن يختلفان من جهة الهيئة لأن (الضرر) اسم مصدر من الثلاثي المجرد و (الضرار) مصدر من باب المفاعلة من الثلاثي المزيد فيه و قد تقدم تحقيق معناهما.

و أما النقطة الثانية: فلان تصوير نفي الحكم بنفي موضوعه في الحديث يتوقف علي أمرين:

الأول: أن يكون المقصود بالضرر و الضرار العمل المضر، إذ لو أريد به نفس معناه لم يتم هذا الوجه لأنه إن كان معني اسم مصدري كما هو الصحيح في كلمة (الضرر) فإنه لا معني لنفي حكمه، لأنه لا حكم له و الحرمة و الضمان إنما هما من آثار المعني المصدري علي ما هو واضح، و إن كان معني مصدريا كما هو الصحيح في كلمة الضرار، فإنه و إن كان له حكم كالحرمة و الضمان إلا إن نفيهما ليس بمقصود و لا معقول كما تنبه له هو (قده).

و الثاني: أن يكون نفي الحكم بلسان نفي موضوعه صحيحا و إن كان الموضوع متعلقا للحكم لا موضوعا له بالمعني المصطلح و هو ما فرض وجوده و رتب عليه الحكم ك (المستطيع) في قوله (يجب الحج علي المستطيع). لكن لا يتم شي ء من هذين الأمرين. أما الأول: فلان قصد العمل المضر من

الضرر إما بنحو المرآتية أو بنحو آخر. فإن كان بنحو المرآتية، ففيه:

أولا: إن جعل العنوان مرآة للمعنون هو خلاف الظاهر، لان ظاهر الكلام هو إن ما أخذ مرتبطا بالحكم في القضية اللفظية بنفسه مرتبط معه في القضية اللبية. و بهذا يفقد هذا التفسير ما جعله ميزة له في النقطة الثالثة من

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 192

إن فيه تحفظا علي الظاهر اللفظي من نفي الطبيعة لكن ادعاء بخلاف تفسيره بنفي الحكم الضرري مثلا، فإنه يقتضي إرادة نفي سبب وجود الطبيعة و هو الحكم الضرري لا نفسها.

و ثانيا: إنه لا يمكن جعل الضرر مرآة للعمل المضر، لأن مرآتية شي ء لشي ء ليست جزافية بل أقل ما يعتبر فيها نحو اتحاد بين المفهومين وجودا كما في العنوان و المعنون و ليست نسبة الضرر إلي العمل المضر كالوضوء من هذا القبيل، بل هي من قبيل نسبة المعلول إلي العلة. و إن كان علي غير المرآتية كالسببية و المسببية فهو أبعد منها استظهارا لان المرآتية فيما يقال أخف مراحل المجاز. و أما الثاني، ففيه: أولا: إن الحكم ليس من قبيل لواحق وجود متعلقه خارجا حتي ينفي بلسان نفيه بل وجود المتعلق خارجا مسقط للحكم لا مثبت له فهو متأخر عنه رتبة لا متقدم عليه، و هذا بخلافه بالنسبة إلي موضوعه فإنه من قبيل آثار وجوده الخارجي عرفا لأن علاقة الموضوع بالحكم علاقة العلة بالمعلول فهو متقدم علي الحكمة رتبة، و لذا يصح نفيه بلسان نفيه ك (لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق) كما يصح نفي الأثر التكويني بلسان نفي مؤثرة ك (يا أشباه الرجال و لا رجال).

و ثانيا: إنه لو تم ذلك فإنه يقتضي نفي حكم المتعلق و

لو كان فعلا تحريميا فيما إذا كان في ارتكابه مضرة علي المكلف، و من المعلوم إنه لا يمكن الالتزام بذلك، إلا أن يتوسل في دفع ذلك بجهة أخري ككون الحديث في مقام الامتنان، و دفع الحرمة عند الضرر خلاف الامتنان.

و أما النقطة الثالثة: فيرد عليها ما تقدم من أن هذا التفسير لا يستدعي جعل نفي الطبيعة تنزيلا فحسب علي ما ذكر، بل يقتضي التصرف في

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 193

(الضرر) أيضا بجعله معبرا عن العمل المضر كما مضي في نقد النقطة الثانية، و بذلك يظهر أن كثرة النفي الادعائي في أمثلة هذا التركيب لا تجدي في ترجيح هذا الوجه بعد اختلاف هذه الأمثلة مع المقام في مدي حاجته إلي التكلف و التأمل.

المسلك الرابع [إن مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك]
اشارة

في تفسير الحديث ما نقله الشيخ الأنصاري عن الفاضل التوني من إن مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك فيرجع إلي إثبات الحكم بالتدارك شرعا «1». و

تقريب ذلك علي أساس جهتين:
الجهة الاولي: إن الضرر المنفي يمكن أن يراد به في نفسه أحد معان ثلاثة:

الأول: كل نقص واقعي سواء كان متداركا خارجا أو محكوما بالتدارك أم لا.

الثاني: النقص غير المتدارك خارجا و ذلك بلحاظ إن النقص إذا كان متداركا لا يكون مصداقا للضرر لتداركه بحكم القانون العقلائي و الشرعي، كبذل المثل أو القيمة في تلف الأموال أو الديات في تلف الأنفس و الاطراف، فإنه يكون منتفيا بالنظر العرفي المسامحي و إن لم يكن كذلك بالنظر الدقي و لذا يعبر عن أداء العوض بالتدارك فيكون مثال الضرر المتدارك مثال معاوضة شي ء بما يساويه قيمة و مالية، فكما لا يصدق الضرر في هذه فكذلك في تضرر صاحب المال في شي ء. و كذا من أصيبت سيارته و أخذ عوض ما خسره من شركة التأمين لا يقال إنه أصابه ضرر عرفا.

الثالث: النقص غير المحكوم بلزوم تداركه قانونا و شرعا، فإن النقص

______________________________

(1) فرائد الأصول 2/ 532.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 194

المحكوم بلزوم تداركه إذا كان للقانون قوة إجرائية تضمن تحقق التدارك الخارجي عادة يمكن أن ينفي كونه ضررا تنزيلا و ادعاء و إن لم يتدارك خارجا. فهذه معان ثلاثة و حيث إنه لا يمكن أن يكون الضرر المنفي بالحديث هو المعني الأول للزوم مخالفة الواقع بعد وجود الضرر خارجا، مع إنه خلاف المفهوم العرفي للضرر أيضا كما يتضح مما ذكر في المعني الثاني، و كذلك لا يمكن أن يكون هو المعني الثاني لعدم تدارك كل ضرر خارجا فيتنافي مع عموم النفي، فلا بد أن يراد المعني الثالث فيرجع إلي إثبات حكم شرعي قاض بالتدارك في

مورد كل ضرر.

الجهة الثانية: إنه بناء علي هذا التفسير يكون مفاد (لا ضرار) الحكم بضمان من أضر بأحد في شي ء

و أما (لا ضرر) فهو باعتبار كون الضرر اسم مصدر لا يتضمن النسبة الصدورية، يكون مفاده نفي لضرر مطلقا سواء كان من قبل شخص معين أو كان لحادثة طبيعية أو غير ذلك، فكل ضرر أصاب شخصا في نفسه أو ماله، فإنه لا يذهب هدرا بل له ضامن لا محالة فإن كان بسبب شخص معين فيكون الضمان عليه، و إلا فيكون الضمان علي الامام و الدولة. و بذلك يستفاد من الحديث ثبوت تأمين عام في الدولة الإسلامية بالنسبة إلي أفراد المجتمع الإسلامي، و قد حدث التأمين في المجتمع البشري أولا بداع إنساني تعاوني فكان مرجعه إلي تحمل الجماعة المشتركين في أداء حق التأمين للخسارة الواقعة علي الشخص حتي لا تكون الخسارة ثقلا عليه. و إلي ذلك يرجع ما يتعارف في بعض المجتمعات من التعاون بين أفراد القبيلة عند إرادة بعض أفرادها تأسيس عائلة جديدة حيث يهدي كل منهم ما يسد بعض حاجتها، إلا أنه أصبح فعلا وسيلة لاستثمار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 195

الآخرين. و يمكن تأييد هذه الفكرة بجملة من الروايات الواردة في جملة من مصاديق الموضوع. ففي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام إن النبي صلي الله عليه و آله قال: أنا أولي بكل مؤمن من نفسه و علي أولي به من بعدي. فقيل له: ما معني ذلك؟ فقال قول النبي صلي الله عليه و آله من ترك دينا أو ضياعا فعلي، و من ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له علي نفسه ولاية إذا لم يكن له مال و ليس له علي عياله أمر و لا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة و النبي و أمير المؤمنين (عليه

السلام) و من بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولي بهم من أنفسهم، و ما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله صلي الله عليه و آله (أنهم آمنوا علي أنفسهم و علي عيالاتهم) «1». و في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضي أمير المؤمنين عليه السلام في رجل وجد مقتولا لا يدري من قتله قال: (إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين، و لا يبطل دم امرئ مسلم لان ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته علي الامام، و يصلون عليه و يدفنونه. قال: و قضي في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين «2» و مثله أحاديث أخري. إلي غير ذلك مما دل علي إنه لا يذهب دم امرئ مسلم هدرا و مثله ماله لأن حرمة ماله كحرمة دمه كما في الحديث «3».

______________________________

(1) أصول الكافي 1/ 335 336 ح 6.

(2) الوسائل ج 29 ص 145 146 الحديث 35346.

(3) الوسائل ج 12 ص 297 الحديث 16349.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 196

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول و إن كان ما ذكرناه في مفاد (لا ضرر) مما لا يلتزم به القائل بهذا القول يقينا، لكنه لازم هذا الرأي بعد كون (الضرر) اسم مصدر شاملا لكل ضرر يرد علي الإنسان.

و يمكن أن يناقش في ذلك بوجوه:
الأول: إن ما ذكر في تعيين هذا المعني ليس بتام

لان نفي الضرر و الضرار كما يمكن أن يكون بملاحظة جعل الحكم بالتدارك الذي يوجب انتفاءهما بقاء بنحو التنزيل، فكذلك يمكن أن يكون بعناية التسبيب إلي عدم الإضرار فيكون مفاد الحديث هو النهي أو بعناية عدم التسبيب إلي

ضرر المكلفين فيكون مفاده نفي الحكم الضرري لأن هاتين الجهتين أيضا مصححتان لنفي المعني علي ما تقدم، فلا يتعين التفسير المذكور.

الثاني: إنه إذا كان المدعي في (لا ضرر) أن معناه كمعني (لا ضرار)

و هو نفي الضرر الصادر من الغير بالنسبة إلي الإنسان ليختص الحكم بالتدارك بالإضرار الصادر من الغير، فهو معني معقول في نفسه لكن إنما يناسب مع (لا ضرر) لو كان الضرر مصدرا محتويا علي النسبة الصدورية، حيث يمكن القول باختصاصه حينئذ بالإضرار الصادر عن الغير، و أما علي ما هو الصحيح من إنه اسم مصدر فلا وجه لتخصيصه بذلك بل ينبغي تعميمه لكل ضرر واقع علي الشخص و لو من جهة عوامل طبيعية. و إن كان المدعي إن معناه نفي كل ضرر واقع علي الشخص من غير تدارك كما أوضحناه فهو مما لا يمكن الالتزام به لانه لم يثبت في الإسلام تدارك كل ضرر واقع علي أي شخص مهما كان سببه من العوامل الطبيعية و غيرها بحيث يرجع إلي تأمين عام من قبل الدولة كما لم يعرف مثل ذلك في عصرنا هذا عن شي ء من القوانين البشرية. (نعم) يمكن الالتزام بضمان الدولة فيما لو قصرت فيما هو من وظائفها تجاه الناس كما لو لم تجعل

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 197

الحواجز اللازمة لاجتياح السيول مثلا مع توفر الامكانات المادية لديها.

الثالث: إن هذا المعني ليس بمنساق من الحديث و نحوه

أصلا بل الذي ينساق إلي الذهن من نفي الماهية من قبل الشارع، إما نفي التسبيب الشرعي إليها إن كان نفيها في معرض توهم تسبيب شرعي علي ما أوضحناه في جملة (لا ضرر) فيرجع إلي نفي الحكم الضرري. أو التسبيب إلي انتفائها كما هو الحال علي مسلك النهي و يشهد علي ذلك ملاحظة موارد استعمال النفي في التعبير عن موقف شرعي كالأمثلة المتقدمة فيما سبق. و أما الحكم بالتدارك فهو و إن كان مصححا لنفي الضرر لكن لا يفي به الكلام من دون قرينة

زائدة تدل عليه.

الرابع: إن هذا المعني لا يناسب موارد تطبيق الحديث من قبيل قضية سمرة

، فإنه لم يحكم فيها بتدارك الضرر الواقع علي الأنصاري لعدم كونه قابلا للتدارك كما هو واضح. هذا و قد يناقش في هذا المسلك بوجوه أخري: منها: ما ذكره السيد الأستاذ (قده) من أن هذا المسلك يقتضي تقييد الضرر المنفي بغير المحكوم بتداركه و التقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه «1».

(و يرد عليه) إنه ليس المقصود بهذا التفسير تقييد الضرر بغير التدارك، بل المنفي هو مطلق الضرر لكن بملاحظة الحكم بتداركه، فالحكم بالتدارك مصحح لنفيه مدلول عليه بدلالة الاقتضاء بعد تعذر حمل النفي علي النفي الخارجي للطبيعة، و ليس عدمه قيدا لها و بين الأمرين فرق واضح ففي كل نفي تنزيلي يكون فقدان كمال ما مصححا لنفي المعني، و ليس عدم ذلك الكمال قيدا في المنفي فنفي الطبيعي عن حصته تنزيلا

______________________________

(1) لاحظ مصبات الأصول 2/ 529.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 198

نفي لوجوده في ضمنها مطلقا، بينما تقييده بعدمها يستبطن الاعتراف بكونها منه. و التنزيل بحاجة إلي عناية دون حذف و التقييد بحاجة إلي حذف دون عناية، و نافي التنزيل هو أصالة الحقيقة أي ظهور الكلام في المعني الحقيقي، و أما نافي التقييد فهو أصالة الإطلاق أي ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع للنفي. و منها: ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده) و وافقه جمع من أن الضرر الخارجي لا يصح تنزيله منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه، و إنما المنزل منزلة العدم الضرر المتدارك فعلا «1». (و يرد عليه) إنه إذا حكم الشارع بالتدارك و جعل لتنفيذ ذلك قوة إجرائية كما أن لكل قانون من القوانين الاجتماعية بحسب التشريع قوة إجرائية طبعا فإنه يكون التدارك حينئذ من نظر

المقنن جاريا مجري الأمر الواقع فيصح اعتباره واقعا تنزيلا.

المسلك الخامس: ما يظهر من كلام الصدوق في الفقيه

من أن المقصود بهذه الجملة أن إسلام الشخص و اعتقاده الدين الإسلامي لا يوجب تنقيص شي ء من حقوقه، فكل حق كان ثابتا له لو لم يكن مسلما فإنه يثبت له في حالة إسلامه كحق الإرث عن المورث الكافر، و بهذا الاعتبار استدل بهذا الحديث علي ما ذهبت إليه الإمامية و جمع من الصحابة و التابعين و علماء العامة خلافا لأكثرهم كأئمة المذاهب الأربعة من أن المسلم يرث من الكافر. قال (قده) (لا يتوارث أهل ملتين و المسلم يرث الكافر و الكافر لا يرث المسلم، و ذلك أن أصل الحكم في أموال المشركين إنها في للمسلمين

______________________________

(1) لاحظ رسالة (لا ضرر) للشيخ الأنصاري ملحقة بمكاسبه ص 372، رسالة (لا ضرر) للعلامة شيخ الشريعة ص 41 الفصل الثامن و مصباح الأصول 2/ 529.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 199

و أن المسلمين أحق بها من المشركين، و أن الله عز و جل إنما حرم علي الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم كما حرم علي القاتل عقوبة لقتله، فأما المسلم فلأي جرم و عقوبة يحرم الميراث؟ و كيف صار الإسلام يزيده شرا مع قول النبي صلي الله عليه و آله: الإسلام يزيد و لا ينقص. و مع قوله عليه السلام لا ضرورة و لا إضرار في الإسلام. فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا. و مع قوله عليه السلام (الإسلام يعلو و لا يعلي عليه) «1» فهو اعتبر مفاد هذا الحديث كمفاد قوله عليه السلام (الإسلام يزيد و لا ينقص). و لتوضيح ذلك: لا بد من بيان أمرين:

كيفية تطبيق الحديث علي هذا المعني، و كيفيته انطباق المعني علي هذا

الموضوع.

أما الأول: فيمكن تطبيق الحديث علي هذا المعني بأن يحمل لفظ (في) في الحديث علي التعليل و السببية كما قيل في قوله تعالي (فَذٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ»)، و قوله (لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ»)، و ما نسب إليه صلي الله عليه و آله من (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها)، كما يحمل لفظ الإسلام علي التدين بالدين الخاص لا علي نفس الدين فيكون مفاد الحديث علي هذا أنه لا يدخل ضرر علي المرء بإسلامه. و علي هذا فيماثل مفاده مفاد الرواية الأخري التي نقلها من طرقهم و احتج بها جماعة من فقهاء الفريقين علي ثبوت الإرث و هي (الإسلام يزيد و لا ينقص) فإن الضرر في هذا الحديث بمعني النقص أيضا كما مر، بل يمكن الاستمداد بهذا الحديث في تفسير (لا ضرر) بذلك ردا للمتشابه إلي

______________________________

(1) الفقيه 4/ 243 ح 778.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 200

المحكم لان كلامهم يفسر بعضه بعضا. لكن قد يشكل تفسير (لا ضرار) بذلك لأنه يقتضي أن يكون معناه أن اعتقاد الإسلام لا يسبب الإضرار بالغير و هذا معني بعيد، لأن أحدا لا يتوهم أن اعتقاد الإسلام يوجب الإضرار بالنسبة إلي الغير. لكن يمكن أن يجاب عن ذلك: بأن المقصود بعدم تسبيبه للإضرار إن هذا الاعتقاد لا يخوله الإضرار بالآخرين و سلب حقوقهم، إذا كانوا ممن يحترم ماله كالمسلم و الذمي و المعاهد. و أما الثاني: و هو انطباق هذا المعني علي المورد، فقد يشكل من جهة أن عدم الإرث من المورث ليس ضررا و إنما هو من قبيل عدم النفع، فلا مورد لتطبيق هذه الكبري. لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الإرث و إن كان في حد

ذاته انتفاعا فعدمه ليس إلا عدم انتفاع لا ضررا علي الشخص، إلا إنه باعتبار ثبوت حق الوراثة للشخص بالنسبة إلي مال مورثه يمكن اعتبار الحكم بانتفاء هذا الحق من جهة إسلامه ضررا و نقصا، كما يدل علي ذلك تطبيق عنوان (الإضرار) و (الضارة) و نحوهما ك (الجور و الحيف) علي وصية الميت إذا كانت تشمل أكثر أمواله مثلا كما في قوله تعالي (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصيٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) «1»، و في الحديث (قال علي عليه السلام ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتم ذلك المال) «2» و (قال علي عليه السلام من أوصي و لم يحف و لم يضار كان كمن تصدق به في حياته) «3» و فيه أيضا (من عدل في وصية كان كمن تصدق بها في حياته و من جار في وصيته لقي الله

______________________________

(1) النساء 4: 22.

(2) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 5 ح 24555 ص 264.

(3) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 5 ح 24556 ص 264.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 201

عز و جل يوم القيامة و هو عنه معرض) «1»، و جاء أيضا (الحيف في الوصية من الكبائر) «2» و (إن الضرار في الوصية من الكبائر) «3». هذا و لكن يلاحظ عليه إن هذا التفسير لو تم فيما يتضمن زيادة (في الإسلام)، فإنه لا يتم فيما لم يشتمل عليها و قد ثبت الحديث بدون الزيادة في روايات معتبرة علي ما تقدم، بل لم يظهر من الصدوق تفسيره للحديث بدون الزيادة بهذا المعني لا سيما إنه لم يعلم بثبوت الحديث مع الزيادة لديه لكي يكون معناه معها قرينة علي معناه بدونها إذ ذكره لهذا الحديث إنما

كان بغرض الاحتجاج علي العامة كما تقدم توضيحه. مضافا إلي أن حمل الحديث علي المعني المذكور مخالف للظاهر جدا، فإن تفسير (في) و (الإسلام) بما ذكرناه في تقريره خلاف المنساق منه. كما لا يخفي.

______________________________

(1) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 24562 ص 264.

(2) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 24563 ص 267.

(3) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 24564 و 24565 ص 268.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 203

(الفصل الثالث): في تنبيهات القاعدة

التنبيه الأول: في عدة إشكالات في قضية سمرة

اشارة

عمدتها الإشكال في كيفية انطباق القاعدة عليها. إن قضية سمرة كما سبق هي أهم قضية تضمنت حديث (لا ضرر و لا ضرار)، و لكنها وقعت موردا للإشكال من عدة وجوه

الوجه الأول: إنه لماذا منع صلي الله عليه و آله سمرة من الدخول دون استئذان مع أنه كان له حق الاستطراق إلي نخلته؟

و هذا الاشكال يظهر من كلام الشيخ الصدوق (قده) في الفقيه، و أجاب عنه بأنه لم يثبت حق الاستطراق لسمرة أصلا فكان دخول سمرة إضرارا محضا، قال بعد نقل خبر أبي عبيدة الحذاء الماضي: (و ليس هذا الحديث بخلاف الحديث الذي ذكرته في أول الباب من قضاء رسول الله صلي الله عليه و آله في رجل باع نخله و استثني نخلة فقضي له بالمدخل إليها و المخرج منها، لان ذلك فيمن اشتري النخلة مع الطريق إليها و سمرة كانت له نخلة و لم يكن له الممر إليها) «1» و مقصوده بالحديث الذي أشار إليه ما رواه عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قضي رسول الله صلي الله عليه و آله في رجل باع نخله و استثني نخلة فقضي له بالمدخل إليها و المخرج منها و مدي جرائدها. و لكن هذا الجواب غير تام كما تنبه له العلامة المجلسي في مرآة

______________________________

(1) الفقيه 3/ 59 بعد الحديث 208.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 204

العقول «1» فإن الظاهر أنه كان لسمرة أيضا حق الاستطراق إلي نخلته في الجملة. لكنه إنما منع عن الدخول بدون استئذان لأن قاعدة (لا ضرر) حددت هذا الحق بما لا يوجب ضررا بالانصاري كما مر ذلك.

الوجه الثاني: إنه ما هو توجيه أمر النبي صلي الله عليه و آله بقلع نخلة سمرة؟

مع أنه لا يجوز شرعا التصرف في مال الغير بدون إذنه، و ليس في القواعد الشرعية ما يبرر ذلك حتي قاعدة (لا ضرر) لان مفاد القاعدة إن كان مجرد تحريم الإضرار بالغير فهذا إنما يقضي بحرمة دخول سمرة بدون الاستئذان، حيث كان ذلك إضرارا بالانصاري و لا يقتضي قلع نخلته، و إن كان مفادها نفي جعل الحكم

الضرري فإن مجرد حق سمرة في بقاء نخلته في ملك الأنصاري ليس ضررا علي الأنصاري لكي يكون مرفوعا بهذه القاعدة فيسوغ قلعها، و إنما الحكم الضرري في ذلك هو في الاستطراق بدون الاستئذان من الأنصاري، أو جواز ذلك فيكون هذا الحق أو الجواز هو المرفوع بمقتضي هذه القاعدة بلا حاجة لقلع نخلته. و يمكن الجواب عن هذا الوجه مضافا إلي ما سيأتي في نقد الوجه الثالث من بيان إمكان تبرير هذا الأمر بقاعدة (لا ضرر و لا ضرا ر) إنه يمكن أن يكون هذا الأمر حكما ولايتيا من قبل النبي صلي الله عليه و آله بلحاظ ولايته في الأمور العامة، لأن قلع وسيلة الإضرار من الأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام فيحق ذلك له بما أنه حافظ للنظام و إن لم تكن له ولاية عامة علي الأموال و الأنفس. و بذلك يتضح النظر في كلام المحقق النائيني و من وافقه «2» من تخريج

______________________________

(1) مرآة العقول 19/ 399 400 تعليقات علي الخبر 8.

(2) لاحظ تقريرات العلامة الخونساري: 209 و 210 و مصباح الأصول 2/ 523.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 205

هذا الأمر علي الولاية العامة علي الأموال و الأنفس فإن مجال الولاية العامة الثابتة للنبي صلي الله عليه و آله و أئمة الهدي عليهم السلام إنما هو المواضيع التي لا يتوقف عليها حفظ النظام و هي المسماة بالولاية العامة و أما الولاية في ما يتوقف عليه حفظ النظام فهي المسماة بالولاية في الأمور العامة الثابتة للفقيه المتصدي للأمور العامة المنتخب من قبل الفقهاء.

الوجه الثالث: و هو أهم الوجوه إنه قد ورد في هذه القضية تعليل الأمر بالقلع ب (لا ضرر و لا ضرار)

اشارة

ففي معتبرة عبد الله بن بكير بنقل الكافي- (فقال رسول الله صلي الله عليه و آله للأنصاري اذهب فاقلعها و

ارم بها إليه فإنه لا ضرر و لا ضرار) مع إن هذه القاعدة لا تبرر الأمر بالقلع علي ما سبق بيانه في الوجه الثاني، لانما أقصي ما تقتضيه عدم ثبوت حق الاستطراق لسمرة دون استئذان لان ذلك تسبيب إلي الضرر علي الأنصاري لا أنها تقتضي قلع النخلة. و قبل التعرض للجواب عن هذا الوجه نبحث عن جهة هي إن هذا الوجه علي تقدير تماميته هل يؤدي فقط إلي إجمال كيفية انطباق الحديث علي المورد بحيث ينحفظ الظهور الدلالي للحديث و يكون حجة فيه، أو إنه يمنع عن ظهوره في المعني الظاهر منه لولا هذا التطبيق و ينتهي إلي إجمال أصل الحديث. الظاهر من كلام الشيخ الأنصاري (قده) في رسالة (لا ضرر) هو الوجه الأول حيث قال: (و في هذه القضية إشكال من حيث حكم النبي صلي الله عليه و آله بقطع العذق مع إن القواعد لا تقتضيه، و نفي الضرر لا يوجب ذلك لكن ذلك لا يخل بالاستدلال) «1».

______________________________

(1) رسالة (لا ضرر) المطبوعة في آخر المكاسب ص 372.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 206

و ذهب المحقق النائيني (قده) إلي الثاني و استغرب كلام الشيخ في ذلك قائلا: (و من الغريب ما أفاده شيخنا الأنصاري من أن عدم انطباق التعليل علي الحكم المعلل به لا يخل بالاستدلال، فإن ذلك يرجع إلي أن خروج المورد لا يضر بالعموم فيتمسك به في سائر الموارد، مع أنك خبير بأن عدم دخول المورد في العموم يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلة ظاهرة فيه، و هذا مرجعه إلي الاعتراف بإجمال الدليل) «1». و هذا هو الصحيح و توضيحه: إن معني الكلام إنما يستقر و يتحدد في ظل تفاعله

الدلالي مع جميع ما يتصل به من ملابساته و شؤونه، فلا بد في تعيين معني كتفسير للكلام من ملاحظة مجموع هذه العوامل، و من المعلوم أن التعليل و الحكم المعلل به أو الكبري و التطبيق ليسا معنيين مستقلين في الكلام حتي ينفصل مصيرهما الدلالي، و يقتصر إجمال أحدهما علي نفسه من دون أن يتجاوز إلي الأخر، بل هما معنيان مترابطان يعتبر كل منهما من ملابسات الأخر، فلا يتم لأحدهما معني أو تحديد إذا لم يكن ذلك منسجما مع الثاني. و لذا يكون عموم العلة و خصوصها موجبا لعموم الحكم و خصوصه، و علي هذا فإذا كان الحكم المعلل به لا ينسجم مع تفسير التعليل علي وجه، فإنه ينتهي إلي عدم ظهور التعليل في ذلك المعني، و إن كان ظاهرا فيه في نفسه لولا تطبيقه في المورد. ففي المقام إذا فرضنا الحكم في المورد حكما مجعولا بلحاظ المصالح و المفاسد المتغيرة من باب الولاية في الأمور العامة أو الولاية العامة لا من باب الحكم الكلي الإلهي فإنه يوجب كون التعليل حكمة أو علة لمثل هذه الاحكام و لا يمكن أن يستفاد منه حكم كلي و قاعدة عامة.

______________________________

(1) تقريرات العلامة الخونساري 209.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 207

و بعد اتضاح ذلك نقول: إنه قد يجاب عن الاشكال المذكور بوجوه:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني (قده) من إنكار المقدمة الأولي للإشكال و هي ورود (لا ضرر) تعليلا للأمر بالقلع

قال (إن قوله (لا ضرر) ليس علة لقطع العذق، بل علة لوجوب استئذان سمرة) و هذا القول ينحل إلي عقدين: عقد سلبي هو الركن الأصلي للجواب و هو عدم كون (لا ضرر) تعليلا للقلع. و عقد إيجابي يتضمن اقتراحا بديلا عن كونه تعليلا للقلع و هو إنه تعليل لوجوب الاستئذان. و لا بد في تحقيق ذلك من الرجوع إلي الروايات التي تضمنت قضية سمرة مع جملة (لا

ضرر و لا ضرار) لملاحظة مدي انسجامها مع ذلك. و هي رواية ابن مسكان و رواية ابن بكير بنقل كل من الكافي و الفقيه. أما العقد السلبي: فيختلف مقتضي الروايات فيه. فرواية ابن بكير بنقل الكافي صريحة تقريبا في تعليل الأمر بالقلع ب (لا ضرر)، إذ فيها (فقال رسول الله صلي الله عليه و آله للأنصاري اذهب فاقلعها و ارم بها إليه فإنه لا ضرر و لا ضرار) فإن الفاء الداخلة علي القاعدة يقتضي الارتباط بين الأمرين، و لا معني للارتباط بين القاعدة العامة و الحكم الجزئي إلا بكون الاولي علة للثاني. و أما روايته بنقل الفقيه فهي ظاهرة في ذلك إذ فيها (فأمر رسول الله صلي الله عليه و آله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه) و قال: (لا ضرر و لا ضرار) و تعقيب الحكم بقاعدة ظاهر في تعليله بها كما هو واضح. (نعم): رواية ابن مسكان لا ظهور لها في كون (لا ضرر) تعليلا للأمر بالقلع، لانه ذكر قبل الأمر بالقلع فقد جاء فيها: (فقال له رسول الله إنك رجل مضار و لا ضرر و لا ضرار علي مؤمن، قال ثم أمر بها رسول الله فقلعت ثم رمي بها إليه و قال له رسول الله: انطلق فاغرسها حيث شئت) لكن لا يبعد أن

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 208

يكون ذكر الكبر توطئة و تمهيدا لتطبيقها علي المورد فيتحد مفاده مع مفاد رواية ابن بكير. و بذلك: يظهر عدم تمامية هذا العقد من كلامه إذ اتضح أن (لا ضرر) قد وقع تعليلا له في الرواية المعتبرة من الروايتين و هي رواية ابن بكير علي كلا النقلين فيها. و أما العقد الإيجابي:

و هو كون (لا ضرر) تعليلا لوجوب الاستئذان، و هو غير تام أيضا. أما أولا: فلما عرفت من أن معتبرة ابن بكير قاضية بكونه تعليلا للأمر بالقلع بلا مورد لاقتراح بديل عن ذلك.

و أما أولا:

فلان بين الأمر بالاستئذان و ذكر (لا ضرر) في كلتا الروايتين فصلا كثيرا مما يمنع عن اعتباره تعليلا لذلك. ففي رواية ابن بكير بنقل الفقيه. و يشبهه نقل الكافي (فأتي الأنصاري رسول الله صلي الله عليه و آله فشكي إليه و أخبره، فبعث إلي سمرة فجاء فقال له استأذن عليه فأبي و قال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله صلي الله عليه و آله أن يشتري منه بالثمن فأبي عليه و جعل يزيده فيأبي أن يبيع، فلما رأي ذلك رسول الله صلي الله عليه و آله قال لك عذق في الجنة فأبي أن يقبل ذلك فأمر رسول الله صلي الله عليه و آله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه و قال: (لا ضرر و لا ضرار) و مثلها رواية ابن مسكان، بل هي أكثر تفصيلا عن شرح معاملته صلي الله عليه و آله مع سمرة المتوسطة بين أمره بالاستئذان و بين قوله (لا ضرر و لا ضرار). فظهر بما ذكرنا أن المقدمة الأولي للإشكال تامة و لا يمكن الجواب عن الاعتراض بالنقاش فيها.

الوجه الثاني: النقاش في المقدمة الثانية بدعوي أن (لا ضرار) [مصحح للأمر بالقلع]

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 209

مصحح للأمر بالقلع بتقريب: إن المراد ب لفظ (ضرار) إنما هو وسيلة الإضرار بالغير علي سبيل إطلاق المصدر علي الذات مبالغة ك (زيد عدل) و عليه فيكون مفاد هذه الجملة أن كل شي ء اتخذ وسيلة للإضرار بحيث لا يمكن رفع الضرر إلا بإزالته فيجب التصرف فيه بالإتلاف

أو النقل أو غير ذلك مما يخرج عن صلاحية ذلك دفعا لذلك. و بناء علي هذا الاحتمال يكون الارتباط بين الأمر بالقلع و بين قوله (لا ضرر و لا ضرار) واضحا لان بقاء نخلة سمرة في دار الأنصاري أصبح وسيلة لاضراره به، و لم يكن بالإمكان دفع الإضرار مع التحفظ علي النخلة كما سوف يأتي توضيحه فجاز قلع النخلة تطبيقا د (لا ضرار) بناء علي هذا التفسير. و قد يؤيد هذا التفسير بقوله تعالي (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) «1». و شأن نزول الآية كما ذكر في التفسير «2» إن جماعة من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين و إيقاع الاختلاف بينهم علي أن يصلي جماعة منهم في هذا المسجد و جماعة أخري في المسجد الذي كانوا يصلون فيه قبل ذلك ثم يوقعوا الاختلاف بين الفريقين لينتهي إلي ضعف المؤمنين و تشتت كلمتهم في مقابل الكفار، فنزلت الآية الشريفة تخبر عن نواياهم و تنهي عن القيام فيه، و قد أمر النبي صلي الله عليه و آله بعد ذلك بهدم المسجد و إحراقه لكونه وسيلة للإضرار. و قد ذكر في إعراب قوله (ضِرٰاراً) وجوه: (منها): أن يكون مفعولا

______________________________

(1) التوبة 1/ 107.

(2) لاحظ مجمع البيان 3/ 72 و 73 طبعة المرعشي.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 210

لأجله. (و منها): أن يكون مفعولا مطلقا من قبيل (ضربت ضربا) بدعوي إن قوله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً) «1» في قوة (الذين ضاروا به ضرارا) (و منها): أن يكون ضرار مفعولا ثانيا ك (اتخذ) حملا للمصدر علي الذات، قال أبو البقاء في إعراب القرآن

(ضرارا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا اتخذوا) و كذلك ما بعده و هذه المصادر كلها واقعة موضع اسم الفاعل أي مضرا أو مفرقا. «2». و قد يكون هذا الوجه أقوي من الوجهين الأولين إذا كان اتخذ في الآية من أفعال التحويل التي تأخذ مفعولين لانه لا حاجة إلي تقدير المفعول الثاني علي هذا الوجه بخلافه علي الوجهين الأولين. و علي هذا الوجه تكون هذه الآية مناسبة لتفسير (ضرار) بوسيلة الإضرار في الحديث. (هذا) و لكن هذا الوجه ضعيف لان حمل (ضرار) علي وسيلة الإضرار مخالف للظاهر فإنه مجاز.

الوجه الثالث: منع المقدمة الثانية أيضا بما ذكره بعض الأعاظم

«3» و تقريره إن الاشكال إنما يتجه إذا فسر الحديث بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكما أوليا و أما إذا فسرنا الحديث بالنهي عن الإضرار مع اعتباره حكما سلطانيا فإنه لا يتجه الإشكال، إذ يكون مبني الأمر بالقلع هو النهي السلطاني المفاد ب (لا ضرر) فيتم ذلك تعليلا للأمر بالقلع. و علي أساس هذا جعل عدم ورود الاشكال علي التفسير المذكور دليلا علي تعينه كمعني للحديث كما تقدم.

______________________________

(1) التوبة: 9/ 107.

(2) إملاء ما من به الرحمن 2/ 22.

________________________________________

سيستاني، سيد علي حسيني، قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، در يك جلد، ه ق قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)؛ ص: 210

(3) الرسائل للإمام الخميني (قده) ص 50 و ما بعدها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 211

لكن هذا الوجه غير تام أيضا إذ يرد عليه مضافا إلي النقاش في أصل هذا التفسير علي ما اتضح من الأبحاث السابقة إنه لا فرق بين كون النهي أوليا أو سلطانيا في عدم صحة وقوعه تعليلا للأمر بالقلع، فإن مفاد النهي علي كل حال هو

حرمة الإضرار بالغير، و هي لا تنتج إمكان الإضرار بالمضر كما هو واضح و لو فرض أنها تنتج ذلك لم يكن فرق بين نوع الحكم من كونه حكما مولويا أوليا أو حكما سلطانيا.

الوجه الرابع: ما يبتني علي التفسير المختار لجملة (لا ضرار)

من إن مفادها التسبيب إلي عدم الإضرار و هو ينحل إلي أمرين: أحدهما: سلب مشروعية الإضرار قانونا بجعله عملا محرما. و الثاني: إعطاء صلاحيات إجرائية للحاكم بما أنه ولي أمر المسلمين في اتخاذ الوسيلة المناسبة خفة و تأثيرا وفق قوانين الشريعة المقدسة لمنع تحقق الإضرار و هدم وسائله خارجا. و هذا الجانب من مفاد (لا ضرر) يمكن أن يبرر أمر النبي صلي الله عليه و آله بقلع النخلة. و كان صلي الله عليه و آله قد أمر سمرة قبل اتخاذ هذه الخطوة التنفيذية بالاستئذان من الأنصاري أمرا له بالمعروف فلم يجده. ثم ساومه بشرائها منه بثمن أزيد و أزيد حتي عرض عليه بديلها شجرة في الجنة تجنبا منه صلي الله عليه و آله عن الإضرار به فلم يرتدع أيضا. و كانت هذه المساومة منه صلي الله عليه و آله غير واجبة عليه فإن للحاكم أن يعمل القوة لمنع الإضرار بعد الأمر القولي بالمعروف مباشرة إذا لم يستجب المأمور لذلك و لكن النبي صلي الله عليه و آله عامل سمرة بعظيم خلقه و كرمه. فكان من وظيفته صلي الله عليه و آله بعد ذلك أن يمنع من إضرار سمرة بالانصاري منعا عمليا. و لم يكن في هذا السبيل خيار أخف واجدي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 212

مما أمر به من قلع النخلة، فمن الخيارات الأخري مثلا تأديب سمرة و تعزيره لكن هذا العمل:

أولا: قد لا يكون ناجعا و مؤثرا لشدة إصرار

سمرة علي الإضرار بالانصاري، و ربما استمر سمرة علي ذلك بأن يدخل دار الأنصاري ثم ينكر ظاهرا فيتوقف إثباته علي إقامة شاهدين عدلين و هو ليس بسهل.

و ثانيا: إنه ربما لم يكن يكفي في ردع سمرة ضربه بما يوجب الإيلام فحسب بل كان يتوقف علي كسر عضو و نحوه و من المعلوم أن ذلك أشد من التصرف في ماله بقلع شجرته. و من الخيارات الأخري: حراسة بستان الأنصاري عن دخول سمرة في جميع الأوقات التي يحتمل دخول سمرة في البستان ليلا و نهارا. و هذا أيضا عمل شاق. فبهذا الوجه ينحل هذا الاعتراض و يتضح وجه تعليل الأمر بالقلع ب (لا ضرر و لا ضرار).

التنبيه الثاني: في تحقيق مضمون الحديث علي أساس شواهد الكتاب و السنة

. قد سبق في المقصد الأول أن حديث (لا ضرر) قد ورد بطريق صحيح في ضمن قضية سمرة بن جندب، و يؤيده طرق أخري لم يثبت اعتبارها في أنفسها، إلا أن الاعتبار السندي علي المختار لا يكفي في حجية الخبر، بل لا بد في تحقيق مضمون الخبر من مقايسته بشواهد الكتاب و السنة و نقده نقدا داخليا و ذلك من جهتين:

الاولي: أن لا يكون مضمون الخبر مخالفا للمعارف المسلمة في الإسلام مما ورد في الكتاب و السنة كأن يكون هادما لما بناه الإسلام أو بانيا لما هدمه الإسلام. و اعتبار هذا الشرط من قبيل القضايا التي قياساتها معها كما هو واضح.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 213

الثانية: أن يكون مضمونه موافقا مع الكتاب و السنة توافقا روحيا بمعني أن يتسانخ مع المبادئ الثابتة من الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها القطعية و لو في مستوي التناسب و الاستئناس. و مبني اعتبار هذا المعني في قبول الخبر دخالته في الوثوق

به عقلاء، بناء علي ما هو الصحيح من حجية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة علي ما أوضحناه في بحث حجية خبر الواحد من علم الأصول، فإنه كلما كانت هناك مجموعتان منسوبتان إلي شخص أو جهة و كانت إحداهما مقطوعة الانتساب و الأخري مشكوكة، فإنه لا بد في الوثوق بالمجموعة الثانية من الرجوع إلي المجموعة الاولي باعتبارها السند الثابت في الموضوع. و ملاحظة روحها و خصائصها العامة، ثم عرض تلك المجموعة علي تلك المبادئ المستنبطة فما وافقها قبل و ما خالفها رد. و ربما تداول إجراء مثل هذه الطريقة في تحقيق الكتب أو الإشعار المشكوكة النسبة و نحوها فإنها تقارن بما ثبت عن الشخص ثبوتا قطعيا، بعد درس مميزاته و خصائصه ثم يحكم فيها علي ضوء ذلك فلو فرضنا إن شعرا نسب إلي مثل الرضي أو مهيار الديلمي أو إلي حافظ أو سعدي، و هو لا ينسجم مع ما عرف به من أسلوب و من صفات نفسية و مميزات فكرية فإنه لا تقبل النسبة لأن كان الذي نسبه إليه رجل ثقة. و بمثل ذلك أبطل بعضهم دعوي قوم أن بعض نهج البلاغة مصنوع و مختلق، ففي شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن مصدق بن شبيب الواسطي إنه قال قلت لأبي محمد عبد الله ابن احمد المعروف بابن الخشاب في كلام عن الخطبة الشقشقية-: (أ تقول: إنها منحولة! فقال: لا و الله، و إني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق. قال فقلت له: إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي (ره) فقال: إن للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الأسلوب. قد وقفنا علي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص:

214

رسائل الرضي و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر) «1». و قال ابن أبي الحديد نفسه في إبطال هذه الدعوي: (إن من أنس بالكلام و الخطابة و شدا طرفا من علم البيان و صار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك و الفصيح و بين الفصيح و الأفصح و بين الأصيل و المولد. و إذا وقف علي كرأس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين و يميز بين الطريقتين، أ لا تري أنا مع معرفتنا بالشعر و نقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام نفسه و طريقته و مذهبه في القريض، أ لا تري إن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر و كذلك حذفوا من شعر أبي نواس كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه و لا من شعره، و كذلك غيرهما من الشعراء و لم يعتمدوا في ذلك إلا علي الذوق خاصة). و قال (و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا و نفسا واحدا و أسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي لا يكون بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية و كالقرآن العزيز أوله كوسطه و أوسطه كآخره، و كل سورة منه و كل آية مماثلة في المأخذ و المذهب و الفن و الطريق و النظم لباقي الآيات و السور. و لو كان بعض نهج البلاغة منحولا و بعضه صحيحا لم

يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلي أمير المؤمنين عليه السلام) «2».

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1/ 205.

(2) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 10/ 128 و 129.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 215

و السر في هذا المعني: أن كل مقتن أو مؤلف أو شاعر لا محالة يجمع شتات ما يصدر منه مبادئ عامة سارية في مختلف آثاره تشترك فيها و تتسانخ بحسبها. و قد نبه علي اعتبار هذا الشرط في حجية الخبر جملة من الروايات حيث اعتبرت في قبوله موافقة الكتاب و السنة، و أمرت بطرح ما خالفهما فإن المقصود بذلك علي التفسير المختار لها التوافق أو التخالف الروحي بينه و بينهما علي ما تشهد به قرائن داخلية و خارجية و إن كان المعروف تفسيرها بالتوافق أو التخالف في المؤدي و لنذكر بعض هذه الاخبار المستفيضة: منها: ما عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلي الله عليه و آله بمني، فقال: (يا أيها الناس ما جاءكم مني يوافق كتاب الله فأنا قلته و ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله) «1». (و منها): ما عنه عليه السلام قال قال رسول الله صلي الله عليه و آله: (إن علي كل حق حقيقة و علي كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فدعوه) «2». و (الحقيقة) هي: الراية و المعني أن علي كل حق راية و علي كل صواب وضوح ورائه الحق هي الموافقة مع القرآن الكريم. (و منها) معتبرة أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (كل

حديث مردود إلي الكتاب و السنة و كل شي ء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) «3» و غير ذلك. و لو أريد بالتوافق في هذه الاخبار التوافق في المؤدي علي أن يكون مضمون الحديث مفادا بإطلاق أو عموم كتابي لزم من ذلك عدم جواز الأخذ

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة 1/ 259/ ح 441.

(2) جامع أحاديث الشيعة 1: 257/ 434.

(3) جامع أحاديث الشيعة 1: 258/ 435.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 216

بالمخصصات فهذا قرينة واضحة علي أن المعني بها التوافق الروحي. و قد ورد إعمال هذا المنهج في بعض الاخبار، و هو قرينة علي إرادة التوافق الروحي في الاخبار السابقة: (منها): ما عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا حدثتكم بشي ء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه إن رسول الله صلي الله عليه و آله نهي عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله صلي الله عليه و آله أين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن الله عز و جل يقول (لٰا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلّٰا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلٰاحٍ بَيْنَ النّٰاسِ) «1» و قال (وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً) «2» و قال (لٰا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) «3». «4» (و منها): ما في صحيحة الفضل بن العباس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله و إن مسه جافا فاصبب عليه الماء، قلت: لم صار بهذه المنزلة؟ قال: لأن النبي صلي الله عليه و آله أمر بقتلها) «5» فإن السؤال سواء كان عن سبب

الحكم ثبوتا أو عن دليله إثباتا لا يكون الجواب عنه بذلك إلا من باب الاستئناس، باعتبار أن الأمر بقتلها يدل علي مدي مبغوضيتها شرعا فيسانخ ذلك مع الحكم بالغسل أو الصب، إلي غير ذلك. و علي ضوء ما ذكرنا فلا بد في المقام من تحقيق مضمون حديث (لا

______________________________

(1) النساء: 4/ 114.

(2) النساء: 4/ 5.

(3) المائدة: 5/ 101.

(4) الكافي الأصول باب الرد إلي الكتاب و السنة الحديث 5: 48 49.

(5) جامع الأحاديث كتاب الطهارة أبواب النجاسات ج 2: 105/ 1439.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 217

ضرر و لا ضرار) تكميلا للبحث عن اعتباره و حجيته من جهتين: الجهة الاولي: في تحقيق مخالفة الحديث للكتاب و السنة و عدمها و ذلك إنه قد يقال بتخالفه معهما بأحد تقريبات: (منها) إنه علي التفسير المذكور يكون الخارج منها أكثر من الباقي، كما أثار ذلك الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في الرسائل فقال: (إن الذي يوهن فيها كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي كما لا يخفي علي المتتبع خصوصا علي تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدم، بل لو بني علي العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد). ثم طرح فرضية انجبار هذا الوهن باستقرار سيرة الفريقين علي الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام، لكنه تنظر فيها قائلا: (إن لزوم تخصيص الأكثر علي تقدير العموم قرينة علي إرادة معني لا يلزم منه ذلك غاية الأمر تردد الأمر بين العموم لإرادة ذلك المعني و استدلال العلماء لا يصلح معينا خصوصا لهذا المعني المرجوح المنافي لمقام الامتنان و ضرب القاعدة). و مما يعتبر من موارد التخصيص علن هذا الرأي تشريع الخمس و الزكاة و الحج و

الجهاد و الكفارات و الديات و الحدود و القصاص و الاسترقاق و سلب مالية جملة من الأشياء كالخمر و الخنزير و غير ذلك. و الجهة الثانية: في تحقيق موافقة الحديث روحا مع الكتاب و السنة و عدمها. أما الجهة الأولي: فقد يقال بمخالفة مضمون الحديث للكتاب و السنة بناء علي تفسيره بنفي الحكم الضرري بأحد تقريبات ثلاث: التقريب الأول: ما ذكره بعض الأعاظم من إن مفاد (لا ضرر) بطبعه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 218

حكم امتناني فيكون آبيا عن التخصيص كقوله تعالي (مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «1» و من المعلوم إنه مخصص في جملة من الموارد.

و يرد عليه:

أولا: إنه لم يتضح كون العام الامتناني آبيا عن التخصيص إذا كان التخصيص في سياق الامتنان أيضا.

و ثانيا: إنه علي تقدير ثبوت ذلك فبالامكان أن يكون خروج ما خرج منه علي سبيل الحكومة دون التخصيص بأن تعتبر الزكاة مثلا حكما غير ضرري فيجب دفعها، و لسان الحكومة لا يمس باللسان الابي عن التخصيص لان صيغتها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فهو لسان مسالم للعام علي خلاف لسان التخصيص، كما يأتي توضيحه في التنبيه الثالث.

التقريب الثاني: ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده) في كلام مر ذكره من إن الحديث يكون مخصصا في أكثر مفاده بل الخارج منه أضعاف الباقي. و بما إن تخصيص العام في أكثر مدلوله غير جائز، و المخصص في المقام قطعي لا يسري إليه الريب فيتوجه الوهن إلي العام. و السر في عدم جواز تخصيص العام كذلك علي ما أوضحناه في بعض المباحث الأصولية لزوم انحفاظ التناسب عقلا بين مقامي الإثبات و الثبوت، فإذا كان الحكم بحسب المراد الجدي و مقام الثبوت

مختصا بأفراد نادرة مثلا فإنه لا يتناسب مع إلقاء خطاب عام و إنما المصحح لمثل هذه الصيغة العامة ثبوت مقدار يقرب من العموم و الاستيعاب حتي تكون نسبة الخارج إلي العموم نسبة الاستثناء إلي القاعدة. و قد أجاب الشيخ (قده) عن هذا الاشكال بقوله (إن الموارد الكثيرة

______________________________

(1) الحج: 22/ 78.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 219

الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها و إن لم نعرفه علي وجه التفصيل، و قد تقرر إن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لافراد هي أكثر من الباقي) «1». و ما طرحه الشيخ في قوله هذا من جواز تخصيص الأكثر بعنوان واحد أصبح مورد نقاش من قبل جماعة من المتأخرين، و قد ذكر في كلماتهم في هذا الموضوع تفصيلان:

أحدهما: ما ذكره صاحب الكفاية (قده) في حاشية الرسائل «2» من التفصيل بين ما إذا كانت الآحاد التي لوحظ العموم بحسبها أنواعا أو أشخاصا، فإن كانت أنواعا جاز تخصيص العام في أكثر الأشخاص المندرجة تحته بعنوان واحد لعدم لزوم تخصيص العام، فيما هو أكثر أفراده في الحقيقة و أما إذا كانت أشخاصا فلا يجوز ذلك للزوم هذا المحذور.

و الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني من التفصيل بين القضية الحقيقية و الخارجية «3» ففي القضية الخارجية يمتنع تخصيص الأكثر، و لو بعنوان واحد كما لو قيل اقتل من في العسكر، ثم أخرج بني تميم من ذلك مع إنه ليس فيه أحد من غيرهم إلا اثنان أو ثلاثة، و أما في القضية الحقيقية فلا يمتنع ذلك، لكن الظاهر عدم الفرق بين القضيتين علي ما يظهر بملاحظة الأمثلة العرفية لهما. إلا أنه لا أثر للبحث عن

ذلك في المقام بعد وضوح عدم تمامية تجويز ذلك مطلقا في المقام علي ما ذهب إليه الشيخ إذ لا يجوز هذا المعني في مورد (لا ضرر) علي كلا التفصيلين.

______________________________

(1) الرسائل 2/ 537.

(2) حاشية فرائد الأصول 196.

(3) تقريرات العلامة النائيني 211.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 220

أما علي الأول: فلان الملحوظ في (لا ضرر) نفي ضررية كل واحد من الأحكام المجعولة في الشريعة من غير لحاظها تحت مجاميع تحتوي كل مجموعة علي جملة منها، لكي يخصص مفاده في واحدة منها بملاحظة أدلة الأحكام الواقعية كما هو واضح.

و أما علي الثاني: فلاعتراف القائل به بأن حديث (لا ضرر) إنما هو في مستوي القضية الخارجية بملاحظة أن المنفي هو الضرر الناشئ من الأحكام المجعولة خارجا، و إن كان قد يناقش في ذلك من جهة عدم العلم بأن النبي صلي الله عليه و آله قد قال ذلك في مورد قضية سمرة بعد انتهاء تشريع الاحكام ليكون قضية خارجية بل المقصود بالحديت نفي جعل أي حكم ضرري شرعا فهو قضية حقيقية.

و التقريب الثالث: أن يقال: بأن من المستهجن تخصيص الحديث في الموارد المذكورة حتي و إن لم تكن هي أكثر موارده لأنها من أصول الأحكام الإلهية و مهماتها و تخصيص العام في مثل ذلك قبيح. و يلاحظ أن مثل هذا الانطباع عن أحكام الإسلام من كون أكثرها أو أصولها ضررية علي ما يتمثل في هذا التقريب و التقريب السابق مما يستحق البحث، حتي مع غض النظر عن كون ذلك موجبا لوهن هذا الحديث، لان ذلك قد يكون ذريعة لبعض المخالفين للدين في تشويه صورة الإسلام و القدح في حقية تشريعاته، للإقرار بأن معظمها أو أصولها تشريعات ضررية. و

في الجواب عن هذين التقريبين طريقان: الطريق الأول: ما هو المختار. و هو ينحل إلي جزءين:

الأول: عدم صدق الضرر في كثير من هذه الموارد علي ضوء التدقيق في مفهومه و في مدي انطباقه فيها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 221

الثاني: تحديد الضرر المنفي ب (لا ضرر) بملاحظة طبيعة معناه التركيبي علي المختار و بملاحظة اقترانه ب (لا ضرار) بنحو لا يقتضي نفي الضرر أصلا في جملة من الموارد المذكورة.

أما الجزء الأول: فيظهر بملاحظة أمرين: الأمر الأول: في التدقيق في مفهوم الضرر. إن الضرر في الشي ء كالمال مثلا ليس مطلق عروض النقص عليه بل كونه أنقص عما ينبغي أن يكون عليه من الكمية أو المالية، كما لو عرضت علي المال آفة توجب نقص ماليته، أو نقصت كميته بضياع أو سرقة أو غصب أو بصرت المالك له فيما لا يعد مئونة له و لا يعود منه فائدة عليه، فأما لو صرف فيما يرجع إلي مئونة الشخص و شؤونه أو ينتفع منه بنحو مناسب معه فإنه لا يكون ذلك ضررا عليه، و لذا لا يعتبر صرف المال في مئونته و مئونة عياله فيما يحتاجون إليه من المأكل و المشرب و الملبس و العلاج و الوقاية و التنظيف و سائر حاجاتهم إضرارا بالمال لا لغة و لا عرفا، و كذلك صرف المال في أداء الحقوق العرفية للغير و سائر الرغبات العقلائية كالسفر إلي مكان آخر لغرض ثقافي أو اجتماعي، و هكذا لو اشترك الشخص في مشروع عام أو جهة عامة يعم الانتفاع بها.

و بالجملة: فصرف الشخص المال في الشؤون المتعلقة بتعيش نفسه و عياله بحسب مستواه من العرف و العادة لا يعد ضررا، لأن شأن المال أن

يصرف في مثل هذه الأمور بل عدم صرفه في مثل الإنفاق علي العيال يعد إضرارا بهم و ظلما عليهم. و إذا لم يكن صرف المال في ذلك إضرارا فلا ينقلب ضررا بالإلزام الشرعي ليكون الحكم الشرعي ضرريّاً. و علي ضوء هذا البيان: يظهر عدم صدق الضرر في جملة من الموارد

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 222

السابعة، كما تنبه له جمع من المحققين: منها: إيجاب صرف المال فيما عليه من الحقوق بحسب العرف كالإنفاق علي من يجب الإنفاق عليه عرفا كالزوجة و الأولاد و بعض الأقرباء بل المواشي و نحوها، و كذلك صرف المال لتفريغ ذمته عما اشتراه من غيره، أو اشتغلت به ذمته من جهة إتلافه لمال الغير أو بدلا عن الانتفاع به. و منها: إيجاب الخمس و الزكاة في الجملة فإنها تصرف في مصارف عمدتها التحفظ علي النظام و المصالح الاجتماعية العامة. و منها: إيجاب صرف المال في إزالة كثير من القذارات العرفية التي يحسن الاجتناب عنها. إلي غير ذلك من الموارد المختلفة. و يمكن ضبط الموارد الخارجة عن حدود الضرر علي ضوء البيان الذي ذكرناه بنحو عام في حالات ثلاث:

الاولي: أن يكون الحكم الشرعي في مورد لا يكون صرف المال فيه ضررا عرفا، فإنه لا يكون الحكم حينئذ ضرريّاً و هذه الحالة هي التي يندرج تحتها أكثر الموارد السابقة.

الثانية: أن يكون الحكم الشرعي بملاحظة كشف الشارع عن كون المورد مصداقا لجهة لا يعتبر صرف المال في تلك الجهة ضررا، فإنه حينئذ يكون خارجا عن الضرر تخصصا و إن لم تعرف مصداقية المورد لتلك الجهة لدي العرف، نظير ما لو انكشفت مصداقية المورد من قبل غير الشارع كما في القذارات المستكشفة بالوسائل

الحديثة فإن صرف المال في إزالتها لا يعد ضررا كما هو واضح رغم عدم تعرف العرف علي المصداق فيها أيضا.

الثالثة: أن يكون الحكم الشرعي في مورد قد اعتبر القانون حقا من الحقوق في ذلك المورد فلا يكون صرف المال فيه ضررا، فإن الاعتبار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 223

الشرعي لتلك الجهة يوجب انتفاء الضرر علي نحو الورود.

الأمر الثاني: إن قسما من الأحكام المذكورة لا يوجب ضررا في الحقيقة و إنما يرجع إلي عدم النفع أو تحديده، و بين الضرر و عدم النفع فرق واضح، فإن الضرر هو انتقاص الشي ء الموجود، و عدم النفع إنما هو عدم تحقق الزيادة عليه، فتوهم صدق الضرر في ذلك من قبيل توهم صدقه علي الحكم بعدم تملك الربا و هو المقدار الزائد في المعاملة الربوية. و أظهر موارد هذا القسم تشريع الخمس و الزكاة.

1 أما تشريع الخمس من الغنيمة بمعناها الأعم و هو الظفر بالمال بلا عوض مادي فإنه تحديد لنفع المغتنم لا إضرار به، لان اعتبار الشارع الاغتنام سببا للملكية يرجع إلي توفير نفع للمغتنم، فإذا فرضنا إن الشارع قد اعترف أولا بكون الاغتنام سببا لملكية جميع الغنيمة كان إيجاب دفع خمسه بعد ذلك تنقيصا لماله و ضررا به. و أما إذا لم يعترف منذ البدء بكون الاغتنام سببا للملكية إلا بالنسبة إلي أربعة أخماس الغنيمة فلا يكون إيجاب دفع الخمس إلي من فرضه الشارع له ضررا بالمغتنم لانه لم يملكه أصلا. و لتوضيح ذلك نتعرض لبعض موارد الخمس في الغنيمة: منها: الغنيمة القتالية و هي التي يسيطر عليها المقاتلون المسلمون في قتال الكفار، فقد جعل الشارع أخذها سببا للملكية، إمضاء لقانون الإغارة الذي كان قبل الإسلام

علي أن يقسم بين المقاتلين و من بحكمهم، و استثني من ذلك الخمس علي أن يكون للعناوين الخاصة، و لو أنه لم يجعل شيئا للمغتنم، لم يكن ذلك ضررا عليه أصلا فضلا عن استثناء الخمس، لعدم حق لهم لولا الجعل الشرعي أصلا. و ربما كان استثناء الخمس بعنوان إنه حق الرئاسة كما كان هذا الحق متعارفا في الجاهلية أيضا حيث كان ربع الغنيمة التي يحصلون عليها بالاغارة لرئيس القبيلة أو العشيرة و يسمي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 224

مرباعا «1». و منها: المعادن و هي علي المختار وفاقا للمشهور من الأنفال فيكون ملكا للإمام، و مرجع جعل الخمس فيها إلي الاذن في استخراجها و تمليك أربعة أخماسها للمستخرج توسعة علي المؤمنين، و يحق لولي الأمر أن لا يأذن في استخراجها، فينحصر حق استخراجها بالدولة و يصرف جميعها في سبيل مصالح المسلمين. و منها: الأرباح الزائدة و هي بحسب الدقة و التحليل أحد مصاديق الغنيمة بمعناها اللغوي، أي الفوز بالمال بلا عوض مالي. و قد اختلف فيها المنهج الرأسمالي و الاشتراكي علي طرفي إفراط و تفريط، و الحل الوسط في ذلك ما تضمنه فقه أهل البيت (عليهم السلام) من إقرار الرابح علي أربعة أخماس، و اعتبار الخمس الباقي للعناوين الخاصة. إن قيل: إن هذا ضرر علي الناس لان لكل إنسان أن يحصل علي ما يشاء من الأموال بأية وسيلة و علي أي نهج فمنع التملك لمقدار الخمس سلب لهذا الحق. قيل: إنه لم يثبت مثل هذا الحق بشي ء من الأدلة، فإنه ليس مدركا بالعقل النظري و لا من قضاء الوجدان و الضمير الإنساني، و لا مما بني عليه العقلاء بناء عاما، أما الأولان فواضح

و أما الثالث فلاختلاف القوانين في حدود قانون الملكية الفردية حسب تقييم العقلاء للمصالح الفردية و الاجتماعية و تنبههم لها. و أما تشريع الزكاة: ففيما يتعلق بالغلات الأربع لا يمكن اعتباره حكما ضرريّاً بعد ملاحظة إن شأن الزارع و الفلاح ليس إلا اتخاذ بعض

______________________________

(1) لسان العرب 8/ 101 (ربع).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 225

المعدات، و أما التنمية فإنما هي بعوامل طبيعية خلقها الله تعالي من الماء و المطر و الشمس و الجو و صلاحية التربة و غير ذلك حتي إن لبعض الطيور تأثيرا في ذلك بدفع الحشرات الضارة، و قد أشير إلي بعض هذه الجهات في سورة الواقعة حيث قال تعالي (أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ، أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّٰارِعُونَ. لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰاهُ حُطٰاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) «1» و مفاده إن عمل الإنسان إنما يقتصر علي الحرث و هو من مقدمات الزرع من كراب الأرض و إلقاء البذر و سقي المبذور، و أما نفس الزرع و هو الإنبات فإنه من فعله تعالي بما قدره من عوامل مختلفة و لو لا فعله سبحانه لأصبح الزرع هشيما لا ينتفع به. و كذلك لا تعتبر زكاة الأنعام الثلاثة ضررا بعد ملاحظة اختصاصها بالسائمة منها. و ربما لوحظ في فرض الزكاة عليها بعد حلول الحول عدم اجتماعها لدي صنف خاص من الناس و تيسر وقوعها في متناول من يريد اقتناءها لحوائجه الشخصية أو للتنمية. و هكذا فرض الزكاة في الذهب و الفضة المسكوكين مع حلول الحول عليهما، فإنه ربما كان للزجر عن تجميعها أو غرامة علي ذلك بملاحظة إنهما كانا في العهد السابق نقدا، و خاصة النقد كونه ميزانا للمالية و

وسيلة سهلة للتبادل بين الأمتعة، و لولاه لكان التبادل بينهما أمرا صعبا و معرضا للضرر و الغبن و توفر النقود و تداولها من وسائل ازدهار التجارة و نموها و ذلك مورد اهتمام الشارع و عنايته كما لعله أحد أسباب تحريم (ربا الفضل) كما ذكرناه في بحث الربا. يضاف إلي ما ذكرنا ما يترتب علي تشريع الخمس و الزكاة من المصالح

______________________________

(1) الواقعة 56: 63 67.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 226

الاجتماعية العامة كما أشرنا إليه أولا بل هذا التشريع مما توجبه العدالة من جهة استفادة الجميع من الجهات العامة التي توفرها الدولة كبناء القناطر و تعبيد الطرق و تحقيق الأمن و غير ذلك. فظهر أن التدقيق في (الضرر) مفهوما و انطباقا يوجب دفع دعوي التخصيص بالنسبة إلي جملة من الاحكام التي عدت ضررية بطبعها.

و أما الجزء الثاني من هذا الحل و هو تحديد الضرر المنفي ب (لا ضرر) فهو يتضمن جهات ثلاث.

الاولي: إن الضرر المنفي منصرف عن كل ضرر تثبته الاحكام الجزائية، و ذلك لان الحكم المولوي لا بد أن يدعمه قانون جزائي يثبت ضررا علي مخالفته سواء كان ضررا دنيويا أو أخرويا، و إلا لم يكن حكما مولويا أصلا بل كان حكما إرشاديا، إذ الحكم المولوي علي ما أوضحناه سابقا يتقوم بما يستبطنه من الوعيد فإذا لوحظ الضرر الذي يولده الحكم الجزائي الذي يندمج في الحكم الشرعي فإن الأحكام الشرعية كلها ضررية، إذ لا فرق في ذلك بين الضرر الدنيوي الذي يثبته مثل قوله سبحانه (وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا) «1» و بين الضرر الأخروي الذي يثبته مثل قوله تعالي (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ

سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) «2» و علي هذا فنفي التسبيب إلي الضرر من المقنن إنما ينصرف إلي الضرر الابتدائي علي الشخص دون ما كان جزاء علي مخالفة القانون، هذا ما ينبغي ملاحظته. كما ينبغي أن يلاحظ أيضا إن إضرار الحاكم لا يندرج تحت عنوان

______________________________

(1) المائدة: 5/ 38.

(2) النساء: 4/ 10.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 227

(الضرار) أيضا لأن الضرار بحسب كونه من باب المفاعلة يقتضي أن يكون بمعني إنهاء الضرر إلي الغير المستتبع لنسبة مماثلة من نفس الفاعل أو من الغير و لو بالقوة، فلا ينطبق ذلك في مورد إضرار الحاكم لانه لا يستتبع إضرارا آخر لا من الحاكم لان عمله محدود بحد قانوني، و لا من قبل المتضرر لان الحاكم بملاحظة الحماية القانونية له ليس في معرض أن يقع عليه ضرر ممن أجري عليه الحكم كما هو واضح. الجهة الثانية: إن الحديث بحسب المراد التفهيمي منه علي المختار لا يشمل جملة من الإضرار فإن المراد التفهيمي له هو نفي إلزام المكلف بتحمل الضرر، و عليه فلا ينفي الحكم الشرعي فيما لو أقدم المكلف بنفسه علي تحمل الضرر كما إذا اشتري شيئا مع إسقاط جميع الخيارات أو كان عالما بالغبن أو العيب أو صالح صلحا مجاباتيا أو ألزم نفسه شيئا بالنذر و العهد و اليمين، ففي مثل ذلك لا يعد إمضاء الشارع لما أنشأه المكلف تسبيبا من قبله لتحمل المكلف للضرر، و إنما الشخص هو الذي حمل نفسه الضرر ابتداء و الشارع إنما أقره علي ذلك. و لا يقال: إن المكلف في مورد العلم بالغبن و نحوه و إن كان أقدم علي الضرر ابتداء، لكنه لم يقدم عليه بقاء و إنما الشارع ألزمه به بسبب

حكمه باللزوم كما ذكره غير واحد من المحققين. فإنه يقال: إن اللزوم ليس حكما تأسيسيا شرعيا و إنما ينتزع من إطلاق المنشأ لما بعد الفسخ في موارد عدم الشرط و لو ارتكازا، و إنما الشارع أمضي ما أنشأه المنشئ بحدوده. الجهة الثالثة: إن اقتران (لا ضرر) ب (لا ضرار) يمنع عن شموله لجملة من الإضرار، و ذلك لان (لا ضرار) كما تقدم بحسب معناه التفهيمي يثبت عدة أنواع من الأحكام الضررية دفعا لوقوع الإضرار:

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 228

منها: أحكام جزائية يستتبعها الإضرار بالمجتمع من قبيل حد السرقة و المحاربة و حد القصاص و التعزير. و منها: حق مكافحة الإضرار و لو بإنزال الضرر علي الغير كما في بعض مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و منها: فروض مالية مقابل الإضرار كضمان الإتلاف و أروش الجنايات و الديات التي تفرض علي نفس الجاني. و منها: أحكام تمهيدية مانعة عن تحقيق الإضرار كحق الشفعة. فالضرر الذي توجبه هذه الاحكام غير مشمول ل (لا ضرر) لان اقترانه ب (لإضرار) الذي يثبت مثل هذه الاحكام يكون قرينة متصلة علي تحديد مدلوله و مانعة عن شموله لمثل ذلك. و هكذا يتضح بمجموع ما ذكرناه: عدم اتجاه ما ادعي من لزوم تخصيص الحديث في أكثر مدلوله بناء عل تفسيره بنفي الحكم الضرري.

الطريق الثاني: في جواب الاشكال أن يقال إن (لا ضرر) ليس ظاهرا إلا في نفي الحكم الذي ربما يترتب علي امتثاله ضرر، دون ما كان بطبعه ضرريّاً من قبيل الموارد المذكورة كالخمس و الزكاة و الحج و غيرها، فهي خارجة عن مصب الحديث تخصصا، و ذلك بأحد وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني من إن

قاعدة (لا ضرر) ناظرة إلي الأحكام و مخصصة لها بلسان الحكومة، و لازم الحكومة أن يكون المحكوم بها حكما لا يقتضي بطبعه ضررا لانه لو اقتضي بطبعه ضررا لوقع التعارض بينهما «1».

و توضيحه: إن قاعدة (لا ضرر) إنما سيقت للحكومة علي الأدلة

______________________________

(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني ص 211.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 229

الواقعية و لا معني للحكومة بالنسبة إلي الأدلة التي تثبت أحكاما ضررية بحسب طبعها، لأن النسبة بين (لا ضرر) و بينها هي التباين. و الحكومة التضييقية كالتخصيص لا تعقل إلا مع كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه أو عموما مطلقا، فإنها لا تفترق عن التخصيص إلا بحسب اللسان حيث إن لسان الحكومة هو لسان مسالمة مع الدليل الأخر، و لسان التخصيص لسان معارضة معه و إلا فهما يشتركان في المحتوي و هو تحديد حجية الدليل الأخر، و لذلك لا تعقل الحكومة إلا في مورد يعقل فيه التخصيص و بما إن التخصيص لا يعقل في مورد كون النسبة هي التباين فإنه لا تعقل الحكومة معها أيضا. و ليس المقصود بذلك أن كل مورد لم يحكم فيه بالتخصيص لا يحكم فيه بالحكومة، إذ في بعض موارد العامين من وجه يلتزم بحكومة أحدهما علي الأخر و لا يلتزم بتخصيصه به بل يتعارض الدليلان في المجمع فيتساقطان، و إنما المراد أن كل ما لا يعقل فيه التخصيص لا تعقل فيه الحكومة.

و يرد علي ذلك أولا:

إنه لم يثبت كون (لا ضرر) مسوقا للحكومة علي الأدلة الأخري ابتداء حتي يقال بموجبه إنه ناظر إلي خصوص الأدلة التي تثبت بإطلاقها أو عمومها حكما ضرريّاً، لطرو عوارض خارجية، و يحدد مفاده بنفي الحكم الذي لا

يكون بطبعه ضرريّاً، بل الظاهر منه هو نفي التسبيب إلي تحمل الضرر مطلقا سواء كان الحكم المسبب إلي الضرر موجبا له بالذات أو بعروض عارض، بل شموله للأول أوضح لأنه أجلي الافراد فيكون إخراجه منه تخصيصا في مفاده و يعود الاشكال.

و ثانيا: إن مبناه في تقريب نفي الحديث للحكم الضرري هو جعل الضرر عنوانا للحكم فيكون مصب النفي في الحديث نفس الحكم مباشرة، و علي هذا المبني لا يمكن اعتبار (لا ضرر) حاكما علي الأدلة الأولية علي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 230

ما سيتضح في التنبيه الثالث لان لسان نفي الحكم المثبت للموضوع في الدليل الأخر لسان معارضة مع لسان ذاك الدليل، فإن الدليل يثبت الحكم للموضوع و (لا ضرر) ينفي ذلك الحكم عن موضوعه و لا معني للحكومة في مثل ذلك. نعم يمكن تصوير الحكومة علي المختار في مفاد الحديث من أنه ينفي التسبيب الشرعي إلي تحمل الضرر فيكون نفيا للتسبيب بالحكم الضرري بلسان نفي الضرر كناية، لكن هذا اللسان إنما ينتج تقديم الدليل فيما أمكن الجمع الدلالي بينه و بين الدليل الأخر ليكون هذا حاكما و ذاك محكوما به، و ذلك كما في مورد يكون (لا ضرر) فيه أخص من الدليل الأخر و لو في الجملة، و أما إذا لم يمكن الجمع الدلالي بينهما بذلك بأن كانت النسبة بينهما هي التباين كما هو الحال في مورد (لا ضرر) مع أدلة الأحكام الضررية بحسب طبعها فلا وجه لتقدم الدليل الوارد بهذا اللسان علي غيره كما هو واضح.

الوجه الثاني: ما عن السيد الأستاذ (قده) من أن (لا ضرر) إنما هو ناظر إلي العمومات و الإطلاقات الدالة علي التكاليف التي قد تكون ضررية و

قد لا تكون ضررية فيحددها بما إذا لم تكن ضررية و لا يتعرض للتكاليف التي هي بطبعها ضررية، و الشاهد علي ذلك إن وجوب الحج و الجهاد و غيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبي صلي الله عليه و آله في قضية سمرة، و مع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل هذه الأحكام الشرعية «1».

و يرد علية: أولا: إن الاستشهاد يبتني علي تصور أن الصحابة جميعا

______________________________

(1) لاحظ الدراسات ص 332.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 231

فهموا مغزي هذا الحديث علي النحو الذي استظهرناه، مع أن الشواهد المختلفة تدل علي أن أكثرهم لم يكونوا بهذه المنزلة، و قد قال النبي صلي الله عليه و آله في خطبته التي خطبها في مسجد الخيف و قد نقلها الفريقان- (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها و بلغها من لم تبلغه، يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه، و رب حامل فقه إلي من هو أفقه منه) «1». و في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: (و ليس كل أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله كان يسأله الشي ء فيفهم و كان منهم من يسأله و يستفهمه، حتي أنهم كانوا ليحبون أن يجي ء الأعرابي و الطارئ فيسأل رسول الله صلي الله عليه و آله حتي يسمعوا) «2». بل كانت معرفتهم بالقرآن كذلك و قد أوضحنا ذلك في بعض مباحث حجية ظواهر الكتاب و مقدمة بحث حجية خبر الواحد و ذكرنا جملة من شواهد ذلك من روايات الفريقين.

و ثانيا: إنه علي تقدير فهمهم لمعني الحديث و ثبوت عدم اعتراضهم أو سؤالهم أو بدعوي أنه لو كان لنقل

لتوفر الدواعي علي نقله فمن الممكن أن يكون الوجه في ذلك تنبه فقهاء الصحابة للطريق السابق في حل الاشكال من عدم نفي (لا ضرر) لكل ضرر من جهة عدم صدق الضرر في كثير من هذه الموارد علي ما سبق توضيحه. و ما يبقي منها من موارد قليلة فإنه ربما خصص الحديث بالنسبة إليها لأن الخاص حيث وجد يتقدم علي العام، و إن كان يدور بين أن يكون ناسخا أو مخصصا إلا إنه يحمل علي الثاني بحسب المتفاهم العرفي، فيمكن أن يكون الوجه في عدم اعتراضهم

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة 1/ 229/ ح 347.

(2) جامع أحاديث الشيعة 1/ 16/ ح 62.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 232

بذلك تنبههم لهذا النحو من الجمع العرفي و لا شهادة في عدم الاعتراض بنفسه علي اختصاص الضرر المنفي بما كان طارئا. و ربما كان مقصوده بهذا الكلام ما يأتي في الوجه الثالث.

الوجه الثالث: ما يبتني علي جهتين:

الأول: إن مورد هذه الكبري في قضية سمرة إنما كان هو الضرر الطاري لأن ملكية النخلة في ملك الغير تستتبع حق الاستطراق إليها متي شاء مالكها، كما ورد في الحديث عن النبي صلي الله عليه و آله إنه قضي في رجل باع نخله و استثني نخلة فقضي له (بالمدخل إليها و المخرج منها و مدي جرائدها) «1» إلا أن عموم هذا الحق في مورد قضية سمرة للدخول بدون الاستئذان كان ضررا علي الأنصاري، لأن البستان الذي كانت فيه النخلة كان محل سكناه و سكن أهله، فكان الدخول بدون استئذان موجبا لهتك حرمتهم. و علي هذا: فالضرر الطارئ هو القدر المتيقن من مفاد الحديث لكونه موردا لالقائه في جهته.

و الجهة الأخري: إن الاحكام التي

هي بطبعها ضررية كانت من مشهورات أحكام الإسلام و حيث إن الصحابة كانوا حديثي عهد بالإسلام فكانوا يحسون بثقل ذلك و مشقته، و لم ينقل عن أحد منهم تصور شمول الحديث لهذه الاحكام، فكان ذلك قرينة متصلة للكلام علي أن المنفي شرعا إنما هو خصوص الضرر الطارئ فلا ينعقد له ظهور في العموم.

التنبيه الثالث: في وجه تقديم (لا ضرر) علي أدلة الأحكام الأولية

اشارة

. و قد ذكر في ذلك وجوه كثيرة إلا أن المشهور بين المحققين أنه علي نحو الحكومة التضييقية و هو الصحيح، و حيث شاع لديهم التعرض لحقيقة

______________________________

(1) الوسائل كتاب التجارة أبواب أحكام العقود 18/ 91/ ح 23219.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 233

الحكومة في المقام فلا بأس بالبحث عنها أولا، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في حقيقة الحكومة التضييقية

اشارة

. و يلاحظ إن الحكومة تطلق علي معنيين فتارة يراد بها الخصوصية التي توجد في الدليل الحاكم التي توجب تقديمه علي الدليل الأخر متي لم يكن هناك مانع من ذلك، و بهذا المعني تعد الحكومة من المزايا الدلالية لأحد المتعارضين. و أخري يراد بها التحكيم و هو العلاج الخاص بين الدليلين المتعارضين حيث يكون أحدهما بأسلوب الحكومة كما يراد بالتخصيص أيضا نوع علاج خاص بين العام و الخاص أو العامين من وجه و حقيقة هذا العلاج الحكم بأوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت في الدليل الأخر تقديما للدليل المتضمن لأسلوب الحكومة، فيقابل النسخ و غيره من وجوه التقديم. و هذا المعني من شؤون المعني الأول و آثاره، و نحن نبحث أولا عن حقيقة الحكومة بالمعني الأول ثم نتعرض لوجه تقديم الحاكم علي المحكوم و كيفيته و شرائطه. و ذلك في ضمن جهات:

الجهة الاولي: في ذكر تقسيمات الحكومة و محل البحث من أقسامها:
التقسيم الأول: إن محتوي الدليل بحسب المراد الاستعمالي يكون علي أحد نوعين:

1 أن يكون محتواه اعتبارا أدبيا تنزيليا و ذلك من قبيل إثبات الحكم بلسان إثبات موضوعه أو نفيه بلسان نفيه كأن يقال بعد الأمر بإكرام العلماء مثلا (المتقي عالم) و (الفاسق ليس بعالم) فإن الأول يثبت وجوب الإكرام للمتقي بلسان تحقق موضوع الوجوب و هو العالم، كما أن الثاني ينفي وجوب الإكرام عن العالم الفاسق بلسان نفي تحقق موضوعه. و من الواضح إن اندراج المتقي تحت العالم و خروج العالم الفاسق عنه اعتبار أدبي تنزيلي.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 234

و سيجي ء توضيح هذا القسم في التقسيم الثاني.

2 أن يكون محتواه اعتبارا حقيقيا متأصلا. و قد يمثل لذلك بحكومة الأمارات علي الاحكام التي أخذ العلم أو عدمه حدا لها كالأصول العملية و ذلك علي القول بأن مفاد أدلة حجية الأمارات كخبر

الثقة أو الخبر الموثوق به هو تتميم كشفها باعتبارها علما. و ذلك ليس علي سبيل التنزيل و الاعتبار الادبي ليكون تقدمها علي الأصول العملية و نحوها علي نحو الحكومة التنزيلية، و إنما علي سبيل الاعتبار المتأصل بملاحظة أن للعلم عند العقلاء قسمين:

قسما تكوينيا و قسما اعتباريا و قد أمضي الشارع بما أنه رئيس العقلاء العلم الاعتباري العقلائي. فعلي هذا الرأي إذا فسرنا عدم العلم المأخوذ في موضوع جريان الأصل مثلا ك (رفع ما لا يعلمون) بعدم العلم التكويني و قامت أمارة كخبر الثقة علي الحرمة فإن هذه الحالة تخرج عن حدود الأصل بنحو الحكومة، لأن العقلاء يرون أنفسهم عالمين علما قانونيا فلا يجدون أنفسهم مشمولين ب (رفع ما لا يعلمون) رغم تفسير العلم بالعلم التكويني. و لا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الورود لتوقف الورود علي انتفاء الموضوع في الدليل الأول وجدانا بمئونة من التعبد، و عدم العلم التكويني الموضوع في دليل الأصل حسب الفرض لا ينتفي وجدانا بوجود علم اعتباري (نعم) لو كان موضوع الأصل عدم العلم الجامع بين العلم التكويني و العلم الاعتباري، لكان تقدم الامارة عليه بنحو الورود لانتفاء الموضوع حينئذ حقيقة بمعونة الاعتبار.

و يلاحظ: إن هذا النوع من الحكومة تترتب عليه آثار التضييق و التوسعة معا فإنه يوجب تضييق الدليل المحكوم بحسب المراد التفهيمي، إن كان موضوعه كالأصل عدم الماهية، و توسعته إن كان موضوعه وجود

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 235

الماهية كما في جواز الاخبار عما يعلم و نحوه. هذا إلا إن ثبوت هذا النوع من الحكومة محل تأمل. و علي تقديره فهو خارج عما هو المقصود بالبحث في المقام فإن (لا ضرر) ليس بمندرج في هذا القسم.

و تحقيق القول في هذا القسم من الحكومة (في وجه تقديم الأمارات علي الأصول) قد تعرضنا له في محله من علم الأصول.

التقسيم الثاني: إن مفاد الدليل الحاكم إما توسعة في الدليل المحكوم أو تضييق فيه

، و بهذا الاعتبار تنقسم الحكومة إلي قسمين:

1 الحكومة علي نحو التوسعة. و هي في الاعتبارات الأدبية عبارة عن تنزيل شي ء منزلة شي ء آخر ليترتب عليه الحكم الثابت لذلك الشي ء، إثباتا للحكم بلسان جعل موضوعه. و اختيار هذا الأسلوب من قبل المتكلم قد يكون لأجل إثارة نفس الاهتمام الثابت للحكم الأول من جهة تكراره و التأكيد عليه بالنسبة إلي الحكم الثاني، فيعدل المتكلم عن الأسلوب الصريح إلي هذا الأسلوب الذي يظهره بيان حدود موضوع الحكم الأول استغلالا للتأثير النفسي الثابت للمنزل عليه لتحقيق مثله بالنسبة إلي المنزل.

و مثال ذلك: ما ورد من أن الفقاع خمر فإن اعتبار الفقاع خمرا تنزيلا إنما يقصد به تفهيما كونه حراما أيضا كالخمر، و لكن اختير هذا التعبير بدلا عن أن يقال (إن الفقاع حرام) لكي يوجد تجاهه نفس الإحساس الموجود تجاه الخمر، لان الخمر من جهة التشديدات المؤكدة حولها قد اكتسبت طابعا خاصا من المبغوضية و الحرمة، و اعتبار الفقاع خمرا يثير في نفس المخاطب نفس الإحساس الموجود تجاه الخمر بالنسبة إليه. و ما ذكرناه هو النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية من قبيل اعتبار زيد أسدا، فإن العدول عن التصريح بشجاعته في ذلك إنما هو لإثارة نفس

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 236

المشاعر التي يثيرها عنوان الأسد عند المخاطب تجاه زيد، و قد أوضحنا ذلك في بعض مباحث الألفاظ في علم الأصول. و هذا القسم أيضا ليس بمقصود بالبحث فإن (لا ضرر) ليس من هذا القبيل بالنسبة إلي أدلة الأحكام.

2 الحكومة علي نحو التضييق. و

هي أن يكون مؤدي الدليل الحاكم تحديد ثبوت الحكم لموضوعه نافيا لتصور ثبوته له بنحو عام، و ذلك كأن ينفي موضوع الحكم أو متعلقه بغرض نفي نفس الحكم علي سبيل الكناية كقوله عليه السلام: (لا ربا بين الوالد و الولد) فإن المقصود من نفي الربا هو نفي حرمته لا نفي حقيقته و لكنه تعرض لذلك بلسان نفي الموضوع علي نحو الكناية دون التصريح. و هذا القسم هو المقصود بالبحث في المقام.

الجهة الثانية: في أقسام الحكومة التنزيلية و مواردها و اختلاف مؤدي الدليل الحاكم بحسبها

. إن الحكومة التنزيلية تنقسم إلي قسمين: الأول: أن يكون بلسان الإثبات و مفاده إعطاء شي ء حد شي ء آخر و تنزيله منزلته، كما إذا قام الدليل علي إن (ولد المسلم مسلم) فإن الإسلام بما إنه عبارة عن عقيدة خاصة فلا يتصف به غير المميز، و لكن الدليل المذكور ينزل ولد المسلم منزلة المسلم فيضيق دائرة الدليل الدال علي إن غير المسلم نجس مثلا. الثاني: أن يكون بلسان النفي، و هو الأكثر تداولا في الأدلة. و للنفي التنزيلي باعتبار مصبه موارد يختلف بحسبها نوع المراد التفهيمي من الدليل الحاكم:

1 أن يكون المنفي موضوعا لدي العقلاء لاعتبار متأصل كالعقود

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 237

و الإيقاعات. و المراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي الآثار القانونية التي ينشأ المعني بداعي ترتيبها، كحصول الفراق بالطلاق، و إذا كان المنفي حصة من الطبيعي الموضوع للحكم كقوله: (لا طلاق إلا بإشهاد) كان مقتضاه اشتراط ترتب تلك الآثار بحصول الشرط المذكور.

2 أن يكون المنفي موضوعا لأحكام شرعية ك (لا شك لكثير الشك) و (لا شك للإمام مع حفظ المأموم) و المراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك عدم ترتب ذلك بالنسبة إلي الحصة الخاصة.

3 أن يكون المنفي متعلقا للحكم

ك (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) و (لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة)، و (لا ربا بين الوالد و الولد) و المراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي ثبوت الحكم لها إيجابا أو تحريما، و مرجعه إلي اشتراط المتعلق بالشرط المذكور.

4 أن يكون المنفي نفس الحكم الشرعي كما في (كل شي ء لك حلال) و (رفع ما لا يعلمون) بناء علي كون (ما) كناية عن الحكم الواقعي، إذ لا يراد بمثل هذه الألسنة التصويب و دوران الاحكام مدار علم المكلف و جهله، و لا ثبوت حكم ظاهري في مورد الجهل بالحكم الواقعي كما عليه كثير من الأصوليين بل مفادها عدم ترتب أثر الحكم، كاستحقاق العقوبة علي مخالفته في ظرف الجهل بوجوده إرشادا إلي عدم كون الحكم بحد من الأهمية بحيث يكون احتمال وجوده منجزا له. و قد أوضحنا ذلك في مبحث أصالة البراءة.

5 أن يكون المنفي انتساب المعني إلي المكلف كما في حديث الرفع إذا كانت (ما) كناية عن الفعل دون الحكم، و ذلك بناء علي المختار من أنه لا يعني رفع الفعل في حد نفسه، و لذلك لا يرتفع الحكم فيما كان الأثر مترتبا علي نفس الفعل من دون اعتبار صدوره من الفاعل، كما لو ألقي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 238

النجس في الماء عن إكراه، فإنه ينجس الماء حينئذ لكون نجاسة الماء أثرا لنفس الملاقاة بالمعني اسم المصدري. و إنما المقصود بذلك نفي انتسابه إلي المكلف فيرتفع الأثر المترتب علي ذلك كبيع المكره و طلاقه.

6 أن يكون المنفي طبيعة توهم تسبيب الشارع إلي تحققها سواء كانت متعلقا للحكم أو معلولا له في وعاء الخارج، من قبيل ما لو قيل: (لا

حرج في الدين) فإن الحرج ليس متعلقا للحكم، و إنما هو أمر يترتب علي الحكم فيكون المقصود بنفي الطبيعة حينئذ نفي جعل الحكم المؤدي إليها، و لكن عبر عن نفيه تنزيلا بنفي تحقق الطبيعة خارجا. هذه هي موارد النفي التنزيلي و ما ذكرناه إنما هو خصوص ما كان منها من قبيل الحكومة، بأن كان نظر المتكلم في نفيه التنزيلي للمعني إلي فكرة مخالفة لمؤدي الكلام علي ما هو معيار الحكومة علي التحقيق كما يأتي. و هناك مورد سابع لا يندرج في الحكومة و هو حيث يستفاد منه الزجر و التحريم المولوي من قبيل قوله تعالي (فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ) «1» و ضابطه كما يظهر مما تقدم أن يكون مصب النفي طبيعة تكوينية ذات آثار خارجية يرغب المكلفون فيها لانسجامها مع القوي الشهوية أو الغضبية للنفس، من دون أن يكون هذا الخطاب مسبوقا بحكم مخالف له و لو توهما كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه. و وجه عدم اندراج هذا المورد في الحكومة كونه مقيدا بعدم سبق حكم مخالف له و لو توهما، و مع هذا القيد لا يمكن أن يتوفر فيه الشرط السابق من نظر المتكلم إلي فكرة مخالفة، و وجه تقييده بذلك إنه لو سبق الخطاب حكم آخر، كان مفاده هدم ذلك الحكم و نفي التسبيب إلي الطبيعة، فيندرج حينئذ

______________________________

(1) البقرة: 2/ 197.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 239

في المورد السادس من الموارد السابقة. و يلاحظ إن سر اختلاف المحتوي في أكثر هذه الموارد قد تقدم إيضاحه مفصلا في ذكر الضابط العام لاختلاف محتوي صيغ الحكم عند ذكر المسلك المختار في الحديث، و يظهر الحال في

الباقي أيضا علي ضوء ذلك. هذا و هناك تقسيم آخر لموارد الحكومة يتردد في كلمات المحقق النائيني و من وافقه «1» و ملخصه: إن الدليل الحاكم علي قسمين:

1 أن يكون شارحا لعقد الوضع من الدليل المحكوم، و المراد بعقد الوضع ما يعم موضوع الحكم و متعلقه كحديث (لا ربا بين الوالد و الولد) بالنسبة إلي دليل حرمة الربا و فساده، فإن الربا متعلق للحرمة و موضوع للفساد 2 أن يكون شارحا لعقد الحمل منه و هو الحكم و مثل له ب (لا ضرر) بناء علي مختاره (قده) من إن الضرر عنوان ثانوي للحكم، و قد ذكر أن هذا القسم أظهر أفراد الحكومة، لأن هدم الموضوع يرجع بالواسطة إلي التعرض للحكم. و لكن هذا التقسيم غير تام. أما أولا: فلان كون القسم الثاني من قبيل الحكومة مبني علي مبناه من إن مناط الحكومة هو النظر إلي دليل آخر، و أما علي المختار من إن مناطه أن يكون لسان الدليل لسان مسالمة مع العام فلا يكون منها لان لسان الدليل في هذا القسم لا محالة لسان معارضة، لأنه ينفي ما يثبته العام صريحا، مع إن التمثيل لهذا القسم بحديث (لا ضرر) إنما يتجه علي مبناه و هو غير تام

______________________________

(1) لاحظ رسالة (لا ضرر) تقريرات المحقق النائيني: 213 و فوائد الأصول 4: 592 593 مفصلا، و أجود التقريرات 2: 162 163 و 505 507، و مصباح الأصول 2/ 541 542.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 240

كما مر، و سيتّضح القول في ذلك تفصيلا.

و أما أولا:

فلان القسمة غير حاصرة، إذ لا يشمل مثلا ما إذا كان الدليل الحاكم متعرضا لنفي ما يكون معلولا للحكم في الخارج ك

(لا حرج في الدين).

الجهة الثالثة: في حقيقة الحكومة التضييقية مع المقارنة بينها و بين التخصيص

. إن الصفات التي يتصف بها الدليل كالحكومة و الورود و التزاحم و التعارض تنقسم إلي قسمين: ففئة منها يتصف بها الدليل بلحاظ محتواه أعني مدلوله التفهيمي كحالة التعارض و الورود، فإن التعارض مثلا ليس إلا حالة تصادم بين المدلولين التفهيميين للدليلين، و لذا لا يتحقق التعارض بين قولين يتحد المدلول التفهيمي لهما و إن اختلف المراد الاستعمالي فيهما ك (زيد جواد) و (زيد كثير الرماد) و كذلك الورود فإن ورود أحد الدليلين علي الأخر إنما هو باعتبار واقع مؤداه من غير اعتبار بأسلوب الدليل. و هناك فئة أخري يتصف بها الدليل بلحاظ أسلوبه و لسانه في التعبير عن المعني، لا بلحاظ واقع مؤداه و محتواه، و لذلك يمكن أن يتصف الدليلان المتماثلان في المحتوي بوصفين متقابلين من هذه الفئة لمجرد الاختلاف في الأسلوب. و من هذه الفئة علي ما نراه هي الحكومة و التخصيص. فحقيقة الحكومة إنما هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه و هو أسلوب التنزيل و الكناية الذي هو أداء للمعني بلسان غير مباشر كنفي الملزوم استعمالا مع إرادة نفي ما يتوهم لازما له. و إنما كان ذلك أسلوب مسالمة لان الدليل الحاكم الذي يصاغ بهذا الأسلوب لا يمثل محتواه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 241

المعارض للعام المحكوم بلسان معارض معه بأن يثبت ما نفاه العام أو ينفي ما أثبته، و إنما يؤدي ذلك بلسان منسجم معه حيث يمثل نفسه علي إنه بيان لحدود الموضوع و عدم تحققه في المورد مثلا ليتمثل انتفاء الحكم في المورد انتفاء طبيعيا باعتبار عدم تحقق موضوعه، فهو يتضمن نحوا من الالتواء و عدم الصراحة في أداء المعني. و حقيقة التخصيص

علي العكس فإنها عبارة عن تحديد العموم بأسلوب معارض معه و هو أسلوب الصراحة بأن ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحا، من غير أن يلجأ إلي طريقة غير مباشرة كأن ينفي الموضوع لينتهي بذلك إلي نفي الحكم، فالدليل المخصص علي خلاف الحاكم يعكس معارضة محتواه مع العموم فيكون مفاده استعمالا موافقا لما يراد به تفهيما من دون لف و دوران في عرض المعني. و بذلك يظهر إن الحاكم و المخصص أسلوبان مختلفان في أداء المعني الواحد و تفهمه فقول الشارع (لا يجب إكرام العالم الفاسق) و قوله (العالم الفاسق ليس بعالم) كلاهما يدلان علي معني تفهيمي واحد و هو عدم وجوب إكرام العالم الفاسق، لكنهما يختلفان في المراد الاستعمالي أي في أسلوب التعبير عن نفي الحكم حيث يؤديه الأول صراحة و الثاني علي نحو الكناية من غير تصريح، و ذلك تفنن أدبي في أساليب إبراز المعني الواحد. هذا و لكن هناك اتجاه آخر في حقيقة الحكومة هو المعروف بين الأصوليين، و هو إن قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين إلي الدليل الأخر و سوقه قرينة شخصية لبيان المراد من ذلك الدليل سواء كان ذلك بلسان التنزيل كما في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أم لا كما لو جعل الحكم المضاف إلي العام منفيا عن حصة أو فرد من الموضوع كأن يقال (وجوب إكرام العلماء غير ثابت للفاسق أو لزيد) لان هذا اللسان ناظر إلي إثبات الحكم للعام.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 242

و لكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا و توضيحه: إن لكل باب موردا متيقنا له، يكون أساسا في تحليل ذلك الباب و مأخذا لملاكه و تحديده، كموارد قصور القدرة

اتفاقا بالنسبة إلي باب التزاحم مثلا، فكل تحليل لأي باب إنما يصح بعد تمامية تصوره في حد نفسه إذا أمكن شموله للمورد المتيقن للباب، و لا ضير بعد ذلك لاندراج موارد أخري تحت الباب و عدم اندراجها، و إلا لم يكن تحليلا لذلك الباب و إنما يكون تحديدا لظاهرة أخري. و موارد التنزيل بالنسبة إلي الحكومة من هذا القبيل فإنها هي القدر المتيقن لها فلا يصح أي تحليل للحكومة إلا إذا تم اندراج موارد التنزيل فيه و ليس بإمكان أحد أن ينكر تحقق الحكومة في موارد نفي الحكم بنفي موضوعه من قبيل قوله (العالم الفاسق ليس بعالم) مثلا. و الاتجاه المذكور غير قادر علي ذلك، لان لسان التنزيل لا يقتضي نظرا إلي دليل آخر أصلا لا بالمطابقة كما هو واضح و لا بالالتزام، لان دلالته عليه بالالتزام إنما تتم لو كانت صحة هذا اللسان لغة أو بلاغة تقتضي نظره إلي دليل آخر، و ليس الأمر كذلك، فإن صحة هذا اللسان لغة إنما تتوقف علي وجود تناسب بين المعني الاستعمالي و المراد التفهيمي كما هو شأن كل اعتبار أدبي و لا تعلق لذلك بالنظر إلي دليل آخر. كما إن صحته بلاغة بمعني النكتة المصححة للعدول إلي هذا اللسان من اللسان الصريح إنما هي الحذر من مواجهة إحساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عام مرتكزا في ذهنه و لا أهمية لوجود دليل آخر و عدمه في ذلك. و سوف يتضح هذا من خلال التعرض للمصحح اللغوي و البلاغي لهذا اللسان، ثم سنعود إلي بيان الموضوع بعد ذلك تفصيلا.

الجهة الرابعة: في المصحح اللغوي للسان التنزيل

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 243

إن الاعتبار التنزيلي اعتبار أدبي يختلف فيه

العنصر المعنوي عن العنصر الشكلي للكلام و كل اعتبار أدبي بحاجة إلي مصححين لغوي و بلاغي.

1 فالمصحح اللغوي: هو العلاقة و التناسب بين المعني الاعتباري (المجازي) و المعني الحقيقي، و ذلك إنه كلما عبر عن معني خاص بعنصر شكلي يختلف عنه فإنه لا بد من تسانخ و تناسب بين الأمرين ليصح بذلك التعبير عن المعني المراد بالشكل الخاص، و بدون توفر ذلك لا يصح استعمال اللفظ في التعبير عن المراد لغة بل يكون خطا و قد تعرضنا لمصحح الاستعمال المجازي و حدوده بنحو عام في مباحث الألفاظ.

2 و المصحح البلاغي: و قد يعبر عنه بالنكتة البلاغية أو وجه العدول عن التعبير الحقيقي و هو الجهة التي توجب أداء المعني بنحو الاعتبار الادبي دون التصريح، و ذلك لان العدول عن التعبير الحقيقي و إن كان يصح لغة من دون نكتة لوجود المصحح اللغوي للاستعمال، إلا أن مقتضي البلاغة اختيار التعبير الصريح في أداء المعني ما لم يوجد دافع لاستعمال التعبير المجازي. و يتضح الفرق بين المصححين في المثال الاتي: إذا عبرنا عن زيد بالأسد، فالمصحح اللغوي لهذا التعبير هو التشابه بينهما في صفة الشجاعة و لكن المصحح البلاغي لذلك هو قصد تحقيق نفس الإحساس الموجود تجاه الأسد بالنسبة إلي زيد. و المصحح اللغوي لأسلوب التنزيل هو إحدي نكتتين:

1 النكتة الاولي: التناسب الكائن بين التسبيب إلي عدم تحقق الطبيعة في الخارج و بين المفاد الاستعمالي لصيغة النفي من انتفائها خارجا، فحيث كان المعني المراد مصداقا للتسبيب إلي عدم تحقق الطبيعة صح أن

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 244

يكون محتوي لصيغة النفي علي أساس التناسب المذكور. و أوضح مصداق للتسبيب إلي ذلك هو تحريم الطبيعة تحريما

مولويا لا سيما إذا انضم إلي ذلك تشريع اتخاذ وسائل إجرائية للصد من تحققها خارجا كما هو مفاد مقطع (لا ضرار) من حديث (لا ضرر و لا ضرار) علي ما سبق توضيحه. و لكن لا ينحصر مصداقه بذلك، بل يتحقق في الموارد التالية أيضا:

1 فصل الماهية الاعتبارية عن آثارها الوضعية التي تترتب عليها عقلاء كما في المورد الأول من الموارد السابقة للنفي التنزيلي، فهذا المعني يكون مصداقا للتسبيب إلي عدم الماهية خارجا باعتبار أن مطلوبية مثل هذه الماهيات كالعقود و الإيقاعات ليست لذاتها، بأن تكون في حد أنفسها مما يدعو إليها قوة نفسية للإنسان كالغضب و الشهوة و إنما هي لأجل تلك الآثار التي تترتب عليها فإذا فصلت عنها كان ذلك موجبا لزوال الرغبة و مؤديا إلي انتفاء الماهية خارجا. و لأجل ذلك قلنا فيما تقدم إن استعمال صيغة النهي في مثل هذا المورد ليس مجازا لان فصل الطبيعة عن آثارها يوجب انزجار المكلف عنها بالإمكان فيكون الزجر عنها زجرا حقيقيا طبعا.

2 تحديد الماهية التي هي متعلق للأمر المولوي كما في المورد الثالث من الموارد السابقة للنفي التنزيلي. و هذا المعني أيضا يكون مصداقا للتسبيب إلي عدم تحقق الماهية، و ذلك من جهة إن الرغبة إلي الماهية في هذا المورد أيضا ليست لذاتها و إنما لأجل امتثال الأمر و تفريغ الذمة عن المأمور به، فإذا حدد الشارع الماهية المأمور بها و أخرج منها حصة خاصة كان ذلك موجبا لزوال الرغبة عن تلك الحصة و مؤديا إلي انتفائها خارجا. و لذلك أيضا قلنا بأن استعمال صيغة النهي في هذا المورد ليس مجازا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 245

نظير ما سبق في المورد السابق بنفس

النكتة. و يجمع هذين الموردين أمران:

أولا: إن كون محتوي النفي فيهما مصداقا للتسبيب إلي عدم الماهية إنما هو علي أساس استلزامه لانتفاء السبب إلي تحقق الماهية حيث كانت الرغبة إليها لا لنفسها و إنما لجهة خاصة فأوجب محتوي النفي زوالها. و ثانيا: إن التسبيب فيهما تسبيب حقيقي و لو عرفا علي خلاف المورد الثالث الاتي و ذلك من جهة إن إعدام العلة سبب لعدم معلولها، و محتوي النفي فيهما موجب لعدم العلة في تحقق الماهية و هي الباعث عليها و المرغب فيها.

1 هدم الحكم الموجب لتحقق الماهية التي هي مرغوب عنها في حد نفسها، و في قوة الهدم بيان عدم وجود مثل هذا الحكم حيث يتوهم أو يحتمل وجوده، و ذلك كما في المورد السادس من الموارد السابقة للنفي التنزيلي. و هذه الجهة أيضا مصداق للتسبيب إلي عدم تحقق الماهية لان الماهية حيث كانت مرغوبة عنها لذاتها لم يكن هناك سبب لإيجادها، إلا ثبوت حكم موجب لها و حيث إن هدم الحكم أو بيان عدم وجوده يزيل هذا السبب كان ذلك مؤديا إلي عدم إيجاد الماهية. لكن هذا مصداق تنزيلي للتسبيب و ليس حقيقيا كما في الموردين الأولين لأن السبب الحقيقي لعدم الماهية في هذه الحالة إنما هي الرغبة الطبيعية عنها، و إنما كان وجود الحكم الموجب لها أو توهم وجوده مانعا عن فاعلية تلك الرغبة، و بهدم الحكم أو بيان عدمه يزول هذا العائق.

2 النكتة الثانية: تناسب واجدية حصة من الماهية لنقص أو فقدها لكمال، فإن ذلك يصحح نفي تحقق الماهية بها تنزيلا لوجودها منزلة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 246

عدمها، و من هذا القبيل نفي الإنسانية عمن لم لكن له أخلاق

فاضلة. و تنطبق هذه النكتة أيضا في موارد:

1 إذا كان المنفي موضوعا لحكم شرعي كما في المورد الثاني من الموارد السابقة للنفي التنزيلي، و ذلك كما لو قيل (الفاسق ليس بعالم) بعد ما قيل (أكرم العالم) فإن الفسق حيث كان صفة نقص في العالم صح نفي العالم في حالة وجوده تنزيلا، و هكذا قوله (لا شك لكثير الشك) فإن كثرة الشك لما كانت توجب نقصا في اعتبار الشك و قيمته صح نفي تحقق أصل الشك معها.

2 إذا كان المنفي حصة من ماهية منهي عنها كما في بعض أقسام المورد الثالث من الموارد المذكورة ك (لا ربا بين الوالد و الولد) فإن الحق العظيم الذي يثبت للوالد علي الولد يوجب كون الزيادة المسقاة بالربا كلا زيادة بالنسبة إليه.

3 إذا كان المنفي نفس الحكم الشرعي لعدم استحقاق العقوبة علي مخالفته كما في المورد الرابع من تلك الموارد فإن عدم الاستحقاق حيث إنه صفة نقص في الحكم عرفا صح نفيه تنزيلا. و تتجلي هذه النكتة في الحكومة بلسان الإثبات إذا كان المعني المثبت صفة نقص كما لو قيل إن (ولد الكافر كافر) فإن إثبات تلك الصفة تنزيلا يكون علي أساس نقص مناسب لتلك الصفة و هي كون الإنسان ولدا للكافر الذي يعد صفة نقص فيه. و أما إذا كان المعني المثبت صفة كمال فتنطبق فيها نكتة أخري هي عكس تلك النكتة و هي واجدية الشي ء لكمال يناسب تلك الصفة كما لو قيل إن (ولد المسلم مسلم) فإن كون الإنسان ولدا لمسلم تعتبر صفة كمال فيه و هي تناسب الصفة المثبتة له من الإسلام.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 247

و يلاحظ إن هذه النكتة قابلة للتطبيق في

بعض موارد النكتة الاولي: فمثلا يمكن أن يقال في (لا صلاة إلا بطهور) و هو مما يندرج في المورد الثاني منها إن مصحح النفي فاقدية الصلاة في هذه الحالة بكمال و هي الاقتران بالطهارة. فظهر مما ذكرنا: إنه لا يمكن أن يكون ادعاء اقتضاء لسان التنزيل للنظر إلي دليل آخر مبنيا علي اقتضاء المصحح اللغوي للتنزيل لمثل هذا المعني، فإن المصحح للتنزيل في كل اعتبار أدبي هو التسانخ بين المراد الاستعمالي و المراد التفهيمي و ليس للنظر دخل في ذلك.

الجهة الخامسة: في المصحح البلاغي للسان التنزيل

. قد ذكرنا في الأمر السابق إن البلاغة تقتضي اختيار المتكلم للاسلوب الصريح في مرحلة أداء المعني و رفض الأساليب الملتوية و المعقدة، لان الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي و واضح في الأداء و التفهيم، و لذلك لا بد أن يكون العدول عن هذا الأسلوب و اختيار أسلوب التنزيل و الكناية في موارد الحكومة مبنيا علي مصحح بلاغي من مراعاة جهة تتوفر في هذا الأسلوب دون الأسلوب المباشر الصريح. و بما إن هذا الأسلوب أسلوب أدبي، فنشير أولا إلي النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية ثم نتعرض لتحليل النكتة في مقامنا هذا علي ضوء ذلك:

1 أما النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية فهي التصرف بمشاعر المخاطبين و عواطفهم و إحساساتهم باختيار أسهل طرق التعبير و أحسنها و أوفاها، ليصل المتكلم من خلالها إلي مقاصده بصورة لا تجرح و لا تمس تلك الاحاسيس و العواطف، بل ليستفيد منها في الوصول إلي مقاصده تلك. و هذه الجهة هي فلسفة البلاغة و سرها. و لا بد في ذلك من ملاحظة الحالات النفسية للمخاطبين فيما يتعلق بالموضوع بنحو عام ليتسني التفاعل معها

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 248

تفاعلا مناسبا و

لأجل هذا المعني كان علم البيان في الحقيقة من العلوم النفسية. و قد يقتضي ما ذكرنا اختيار أساليب مختلفة حسب اختلاف المقامات، و لذلك عرف هذا العلم بأنه (علم يعرف به أداء المعني الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة و خفائها) إلا إن الصحيح أن يقال في التعريف (بطرق مختلفة في التأثير في النفس شدة و ضعفا) لان سر الاختلاف في الأسلوب ليس اختلاف الأساليب في مستوي الوضوح و إنما منشأه اختلافها في الوقع و التأثير النفسي المطلوب حصوله في نفس المخاطب و نوعه. فالتعبير الحقيقي و التشبيه و الاستعارة مثلا أساليب تختلف في درجة إثارة المعني في نفس المخاطب كما لو قيل (زيد شجاع) أو (زيد كالأسد) أو (جاء الأسد)، فإثارة الاستعارة للاحساس بشجاعة زيد أقوي من إثارة التشبيه كما إن إثارة التشبيه بدورها أقوي من إثارة التعبير الحقيقي. و أما النكتة الموجبة لاختيار أسلوب الكناية من قبل الشارع في مقام بيان تحديد الحكم فهي ترتكز علي أمرين:

أحدهما: اختلاف هذا الأسلوب عن أسلوب التصريح في نوع إثارة المعني. و يظهر ذلك فيما لو استخدمنا هذين الأسلوبين في مقابل فكرة عامة مخالفة لمحتواهما، فأسلوب التصريح بلحاظ إنه يمثل المعني علي ما هو عليه يكون جارحا لتلك الفكرة معارضا لها، و لذا قلنا إن لسانه لسان المعارضة مع العام و إذا كان المخاطب بالكلام مقتنعا بتلك الفكرة المخالفة و كان الترابط بين الحكم و الموضوع مثلا في ذهنه ترابطا وثيقا، فإن مواجهته بهذا الأسلوب يثير إحساسه ضد مؤدي الكلام طبعا فيوجب إنكاره أو استنكاره له، من جهة كون ذلك مجابهة واضحة مع ما ارتكز في ذهنه من الارتباط بينهما.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص:

249

و أما أسلوب الكناية فإنه يثير المعني بنحو لا يمس باعتقاد المخاطب و مشاعره و إحساسه، لان مظهره مظهر المسالمة و الاعتراف بتلك الفكرة حيث إنه ينفي تحقق الموضوع مثلا ليترتب عليه انتفاء الحكم انتفاء طبيعيا، و بذلك يخيل المتكلم لمخاطبة بأنه لا يعارض اعتقاده بثبوت الحكم للموضوع، بنحو عام بل يقره عليه و يعترف له به حتي كأنه لو كان الموضوع متحققا في المورد لثبت الحكم.

و بذلك يكون المعني أوقع في نفس المخاطب و أقرب إلي قبوله و إذعانه. و بهذا يظهر اختلاف هذين الاسلوبين في نوع التأثير الاحساسي. الأمر الثاني: اختلاف المواضيع التشريعية التي يتعرض لها الدليل الحاكم أو المخصص في ارتكاز فكرة مخالفة لمؤداه في ذهن المخاطب و عدمه. فقد يكون المخاطب بالدليل خالي الذهن عن أية فكرة عامة مقابلة، أو يكون له فكرة مقابلة إلا إنها غير مرتكزة في ذهنه، فتزول بمجرد اطلاعه علي الدليل حتي و إن كان له مستند في تلك الفكرة من عموم أو إطلاق. ففي هذه الحالة لا مصحح بلاغي للتعبير بلسان الحكومة حتي و إن كان هناك عموم أو إطلاق علي خلاف مؤدي الدليل بل المناسب أن يعبر المتكلم بلسان صريح بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق مثلا لو كان الدليل الأول هو (أكرم العلماء)، و لا موجب لأن ينفي عنه العلم لينتج عدم وجوب إكرامه. و قد يكون المخاطب بالدليل ذا ارتكاز ذهني في الموضوع علي خلاف مؤدي الدليل و المراد بالارتكاز الفكرة الثابتة في الذهن الراسخة في عمقه بحيث يصعب رفع اليد عنه إحساسا، و إن اطلع علي دليل علي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 250

خلافه. و في هذه الحالة يعدل المتكلم البليغ

عن النفي الصريح للحكم إلي لسان النفي غير المباشر، تجنبا عن إثارة مشاعر المخاطب و أحاسيسه و اختيارا لأحسن طرق التعبير مع الجمهور و أسهلها، لجلبهم إلي المقاصد المنشودة حيث يشتد الارتباط الاحساسي في أذهانهم و يصعب تفكيك شمول الحكم و عزله عن بعض الحصص. و يلاحظ أن منشأ الارتكاز الذهني لا يكون أمرا ادراكيا محضا كقيام عموم أو إطلاق، لأن ذلك بمجرده لا يستدعي مقاومة ذهنية للمخاطب في مقابل الدليل الحاكم، بل يرتفع الاعتقاد الادراكي بقيام ذلك. و إنما يكون منشأه أمرا إحساسيا يستوجب ثبوت المعني في نفس المخاطب و استقراره في ذهنه و تعلقه به، و ذلك لأحد أمور:

1 شدة مناسبة الحكم و الموضوع في الأذهان، كما لو أراد الشارع تحديد حكم وجوب إكرام العالم و كان المجتمع يري إنه لا يمكن أن يكون هناك عالم لا يجب إكرامه لما في نفوسهم من إحساس الاحترام و التقدير بالنسبة إلي العلماء. و حينئذ لما كان الشارع لا يريد أن يجابه مثل هذه المرتكزات الذهنية بصورة علنية فإنه يقول (الفاسق ليس بعالم). و يمكن تخريج كثير من الأمثلة السابقة في الأمر الثاني علي هذه النكتة و ذلك من قبيل (لا طلاق إلا بإشهاد) فإن استعمال هذا الأسلوب في هذه الجملة ربما كان بلحاظ شدة المناسبة بين الطلاق الإنشائي و الطلاق الشرعي. و كذلك نفي المتعلق في (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ربما كان باعتبار شدة التناسب بين الصلاة و بين المطلوبية شرعا، و هكذا نفي الحكم في (رفع ما لا يعلمون) ربما كان باعتبار ما انغرس في الأذهان من أن الحكم الشرعي يوجب الموافقة له عقلا.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 251

2 اشتهار

ثبوت الحكم للموضوع بالدعايات و وسائل النشر و الإعلام و نحوها مما يوجب تلقينا نفسيا للمجتمع. و لعل هذه الجهة هي الموجبة لاستعمال هذا الأسلوب في مواضيع كان محتوي الدليل فيها مخالفا لما هو المشهور لدي العامة ك (لا طلاق إلا بإشهاد) فإن العامة تري صحة الطلاق بلا إشهاد.

3 أن يكون العموم الملحوظ لدي المخاطب ذا لسان آب عن التخصيص كما قد يقال في قوله تعالي (إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)* «1» ففي هذه الحالة لا يناسب استخدام الأسلوب الصريح و هو أسلوب التخصيص، باعتبار منافاته مع لسان العام. بل لا بد من اختيار أسلوب الحكومة المنسجم معه كما مر ذلك. فهذه بعض مناشئ الارتكاز الذهني بين الحكم و موضوعه. فمثل هذه العوامل و الأسباب هي التي تقتضي أن يعبر الشارع عن مقصوده بلسان غير مباشر حتي لا يصطدم بالمشاعر و الأحاسيس و المرتكزات الذهنية المحترمة لدي الجمهور. فهذه هي النكتة العامة لأسلوب الحكومة. لكن هذه النكتة إنما هي فيما كان مصب النفي أو الإثبات فيها نفس الحكم أو ما يرتبط به كالموارد الخمسة الاولي من موارد السلب التنزيلي التي سبق ذكرها في الأمر الأول، و أما حيث يكون مصب ذلك أمرا خارجيا مسببا عن الحكم كالحرج و الضرر و هو المورد السادس من تلك الموارد فإنه لا تتأتي فيه هذه النكتة كما هو واضح. بل لا يبعد أن تكون النكتة في العدول إلي لسان التنزيل في مثل ذلك بيان عدم تناسب ثبوت الحكم المسبب إلي

______________________________

(1) يونس 10/ 36.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 252

الحرج و الضرر مع المصلحة العامة.

الجهة السادسة: في اقتضاء لسان التنزيل (و هو لسان الحكومة) نظر الدليل إلي ارتكاز ذهني للمخاطب علي خلافه

لا إلي عموم أو إطلاق. قد ظهر مما ذكرنا أن أسلوب

التنزيل و هو لسان الحكومة باعتبار مصححه البلاغي يقتضي نظر المتكلم إلي ارتكاز ذهني مخالف للدليل، حيث إن اختيار الأسلوب غير المباشر بالذات، إنما هو لعدم مجابهة هذا الارتكاز و ذلك جريا علي النكتة العامة للاعتبارات الأدبية من اختيار الأسلوب المناسب مع مشاعر المخاطب و إحساسه. و بذلك يتضح بأن الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم إلي ردها إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب، و ليس معني متمثلا في الأدلة بحسب مقام الإثبات من عموم أو إطلاق، كما اشتهر لدي الأصوليين حيث قالوا إن قوام الحكومة بوجود عموم أو إطلاق يكون الدليل الحاكم ناظرا إليه، إذ يرد علي ذلك:

أولا: إن مصحح هذا الأسلوب كما ذكرناه في تحليل الموضوع ليس النظر إلي دليل آخر، و إنما إلي ارتكاز مخالف سواء كان عليه دليل من عموم أو إطلاق أو غيرهما أم لا، و مجرد وجود العموم أو الإطلاق لا يصحح اختيار هذا اللسان و العدول عن التعبير الصريح من قبل البليغ لان هذا الأسلوب أسلوب أدبي يتضمن إثبات الشي ء أو نفيه تنزيلا، و الأسلوب الادبي إنما تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب، و مجرد النظر إلي دليل آخر ليس كذلك كما هو واضح.

و ثانيا: إنه يصح استعمال هذا اللسان بالبداهة اللغوية حتي فيما لم يكن هناك عموم أو إطلاق إذا كان هناك ارتكاز ذهني للعرف يخالف بعمومه مؤدي الدليل، أما من جهة تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 253

و الموضوع أو لغير ذلك من عوامل الارتكاز الذهني. و من هنا صح قوله عليه السلام (لا طلاق إلا بإشهاد) مثلا رغم ورود الأمر بالإشهاد في الآية عقيب

ذكر الطلاق مما يمنع عن تحقق إطلاق لها في ذلك، قال تعالي (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ) «1» ثم قال في الآية التالية (فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ) «2». فهذا يؤكد أنه ليس مصحح هذا الأسلوب و مقتضاه وجود عموم أو إطلاق، بل العبرة بالارتكاز الذهني للمخاطب و لو كان علي خلاف الدليل كما في الطلاق باعتبار اشتهار فتوي العامة فيه. و ثالثا: إنه قد يكون صدور الدليل المتضمن لهذا الأسلوب علي أساس عدم وجود دليل علي الحكم فلا يعقل ثبوت مفاده مع وجود الدليل عليه و ذلك كما في (رفع ما لا يعلمون) (و كل شي ء لك حلال). و هكذا يتضح إنه لا تتوقف صحة استعمال هذا الأسلوب علي وجود عموم أو إطلاق فلا يكون صدور الحاكم لغوا لو لم يكن هناك دليل محكوم في رتبة سابقة علي ما هو المعروف منهم بين الاعلام. نعم هنا نكتة أخري هي أن رد الارتكاز الذهني و لو بنحو غير صريح يستبطن نفي ما يكون حجة علي هذا الارتكاز لدي المخاطب بما في ذلك العموم و الإطلاق فيما إذا كان المتكلم مطلعا عليه فيكون تحديد ذلك ملحوظا بنحو غير مباشر في لسان التنزيل، إلا إن هذا اللحاظ غير المباشر

______________________________

(1) الطلاق 65/ 1.

(2) الطلاق 65/ 2.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 254

ليس هو المصحح لهذا الأسلوب كما هو واضح.

الجهة السابعة: في مدي اشتراك الحكومة و التخصيص في الأحكام
اشارة

. قد ظهر بما ذكرنا إن الحكومة و التخصيص متحدان بحسب المحتوي، و إنما يختلفان في أسلوب أداء المعني، حيث إنه أسلوب مسالم للعموم في الأول، و معارض معه

في الثاني. و يتفرع علي هذه الجهة اشتراك الحاكم و المخصص في الأوصاف و الأحكام المنوطة بمحتوي الدليل دون الأحكام المنوطة بأسلوبه. توضيح ذلك: إن الاحكام التي تثبت للدليل المخصص أو العام علي قسمين:

1 القسم الأول: ما يكون منوطا بمحتوي الدليل

، و هو القسم الأكبر منها لأن أكثر الأحكام المذكورة للخاص في المباحث المختلفة إنما تثبت له باعتبار واقعة من إخراج بعض أفراد العام عن تحته و فيما يلي بعض أمثلة ذلك: منها: اتصاف المخصص المنفصل بكونه معارضا مع العام، فإن التعارض كما أشرنا من قبل إنما هو وصف للدليل بلحاظ مدلوله التفهيمي لا باعتبار لسانه و معناه الاستعمالي. و منها: تأثير المخصص في تحديد ظهور العام حيث يكون متصلا، و في تحديد حجيته حيث يكون منفصلا فإن هذا التأثير إنما هو بلحاظ محتواه المصادم للعام، لا باعتبار أسلوبه كما هو واضح. و كذلك القول في مدي اعتبار ظهور العام و حجيته مع الشك في المخصص المتصل أو المنفصل. و منها: امتناع تخصيص الأحكام العقلية، و سر الامتناع إن التخصيص يرجع إلي أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصص،

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 255

و الحكم العقلي ليس له مقامان إثبات و ثبوت، و استلزام التخصيص لذلك أيضا بلحاظ محتواه لا بلحاظ مفاده الاستعمالي. و منها: امتناع تخصيص العام في أكثر أفراده من جهة لزوم التناسب بين التعبير في مقام الإثبات و بين مقام الثبوت فلا يناسب التعبير بالعموم إثباتا، إلا حيث يثبت الحكم لما يناسب العموم في الواقع و تخصيص العام بهذه الكثرة ينقض التناسب المذكور. و منها: كون التخصيص أهون وجوه التصرف في الظاهر و لذا يتعين حيث يدور الأمر بينه و بين حمل الأمر

علي الاستحباب في مثل (يستحب إكرام العلماء) و (أكرم العالم العادل) و وجه ذلك: استلزامه رفع اليد عن أصالة العموم و أصالة العموم أضعف الظهورات المنعقدة للكلام، بخلاف حمله علي الاستحباب فإنه مستوجب لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب و هو ظهور قوي. فهذا القسم من أحكام المخصص يشترك معه فيها الدليل الحاكم، لأنها منوطة بمحتوي الدليل و هو متحد فيهما، و لو لم تثبت تلك الاحكام للحاكم كان مرجعه إلي تأثير أسلوب الدليل في تحقق الوصف أو الحكم المنوط بمحتواه أو في عدم تحققه و هو أمر غير معقول. و بذلك يظهر النظر في جملة من كلمات المحقق النائيني (قده) حيث فصل بين موارد الحكومة و التخصيص في جملة من المواضيع السابقة: منها: تفصيله بينهما في تحقق التعارض بين الدليلين حيث قال بتحققه في موارد التخصيص دون الحكومة و سيأتي توضيح ذلك. و منها: ما يظهر من بعض كلماته في بحث حجية الظن «1» من إنه إذا

______________________________

(1) لاحظ أجود التقريرات 2: 77.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 256

شك في التخصيص أمكن الرجوع إلي العام و ذلك كما لو قال (أكرم العلماء) و شك في إنه هل قال (لا تكرم العالم الفاسق) أو لا. و لكن إذا شك في الحكومة لم يمكن الرجوع إلي العام كما لو شك في إنه هل قال (العالم الفاسق ليس بعالم) أم لا، و كان مبني ذلك أن التمسك بالعام في مورد الحكومة المشكوكة يكون من قبيل الشبهة المصداقية لنفس العام و لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه اتفاقا.

2 و القسم الثاني: ما يكون منوطا بالاسلوب الاستعمالي للدليل

، و له أمثلة: منها: امتناع تخصيص العام حيث يكون لسانه بدرجة من القوة يأبي عن

التخصيص كما قيل به في قوله (إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)* «1» و قوله (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) «2» فإن هذا الحكم منوط بأسلوب الدليل المخصص لانه من جهة كونه أسلوب معارضة مع العام، يكون كاسرا لقوة لسانه فيكون استخدامه في تحديد العام أمرا مستهجنا. و منها: إمكان كون المخصص عقليا فإن هذا الإمكان باعتبار أن العقل إنما يدرك الواقع بصورته التي هو عليه كما هو شأن الدليل المخصص حيث إن لسانه موافق لواقعة. و منها: عدم نظر المخصص إلي فكرة مخالفة من ارتكاز ذهني للمخاطب أو عموم أو إطلاق إلا في حالات خاصة كأن يكون المنفي هو الحكم العام نحو (وجوب إكرام العلماء لا يثبت في حق زيد). و وجه عدم نظره: أن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي لا يختص

______________________________

(1) يونس 10/ 36.

(2) لاحظ جامع الأحاديث أبواب النجاسات الباب 23 الحديث 5: 443 ج 1: 50 51.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 257

بقصد نفي فكرة مخالفة كما يختص الأسلوب الكنائي بذلك من جهة مصححه البلاغي. و هذا القسم من أحكام المخصص لا يشترك فيها معه الدليل الحاكم لانه منوط بأسلوبه، و الدليل الحاكم يختلف عن المخصص في الأسلوب فإن أسلوبه أسلوب كنائي غير مباشر. ففي المثال الأول: يجوز تحديد العام الابي عن التخصيص بلسان الحكومة، لأن لسانه لسان مسالم للعموم فلا يكسر شوكة لسان العموم حتي يكون مستهجنا. و بذلك أجبنا فيما سبق عما قيل من استهجان تخصيص (لا ضرر) لانه حكم امتناني، مع أن تفسيره بنفي الحكم الضرري موجب لتخصيصه لا محالة كما سبق التعرض له. و في المثال الثاني لا يجوز كون الحاكم عقليا لان

أسلوب الحكومة تعبير عن الشي ء بغير ما هو عليه لانه اعتبار أدبي، و الاعتبار الادبي أما إعطاء حد شي ء لشي ء آخر أو سلب حد الشي ء عن نفسه، و هذا يغاير كيفية ادراك العقل. و ربما يظهر من كلمات بعض الأعاظم في مبحث الاستصحاب نفي إمكان كون الحاكم عقلائيا أيضا لكن قد يقال في دفع ذلك إن الفكرة الذهنية للعقلاء كما يمكن أن تكون علي أمر حقيقي فكذلك يمكن أن تكون علي أمر اعتباري كما قد يقال بذلك في اعتبار الأمارات علما. و في المثال الثالث: يكون الدليل الحاكم بمقتضي مصححه البلاغي مقتضيا للنظر إلي فكرة مخالفة كما تقدم توضيحه سابقا. و يتفرع علي هذا الفرق بين الحاكم و المخصص توفر الحاكم علي مزية دلالية عامة، من حيث اقتضاء أسلوبه للنظر إلي الدليل المخالف و لو

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 258

بنحو غير مباشر و لأجل ذلك يتقدم أحد العامين من وجه علي الأخر إذا كان بأسلوب الحكومة من غير حاجة إلي مزية أخري، و هذا بخلاف المخصص فإنه لا يستتبع أسلوبه المباشر أية مزية دلالية و إنما يكون تقدمه رهين وجود مزايا خارجة عن مقتضاه الطبيعي توجب أظهريته علي العام فيتقدم بملاك الأظهرية.

الجهة الثامنة: في وجه تقدم الحاكم علي المحكوم
إن في وجه تقدم الحاكم علي المحكوم وجوها ثلاثة:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني و السيد الأستاذ (قدس سرهما) من أنه لا تعارض بين الحاكم و المحكوم أصلا

و ذلك بأحد تقريبين:

الأول: ما في كلمات المحقق النائيني و من وافقه «1» من عدم معقولية المعارضة بين الحاكم و المحكوم من جهة أن المحكوم يثبت حكما علي تقدير، غير متعرض لثبوت ذلك التقدير و نفيه، و أما الدليل الحاكم فهو ناظر إلي إثبات ذلك التقدير و نفيه. و توضيحه: إن التعارض بين الدليلين فرع تعرضهما لنقطة واحدة، و الحاكم و المحكوم ليسا كذلك إذ كل منهما يتعرض لما لا

يتعرض له الأخر، فإن الحاكم مثلا يتعرض لوجود الموضوع أو لنفيه و أما المحكوم فهو يتعرض لإثبات الحكم لموضوعه علي نحو القضية الحقيقية، و هذا المقدار لا تعرض فيه لوجود الموضوع في المورد و عدمه لان القضية الحقيقية في قوة القضية الشرطية، و كما أن القضية الشرطية لا تتعرض لوجود الشرط، و إنما تفيد ثبوت التالي عند ثبوت الشرط، فكذلك القضية الحقيقية لا تتعرض لوجود الموضوع و إنما مفادها ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع.

______________________________

(1) لاحظ أجود التقريرات 2: 505 506، و نظيره مصباح الأصول 2: 542 إلا أنه خصه بالحكومة علي عقد الوضع.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 259

و يرد عليه: إن التعارض بين الدليلين ليس بحسب المراد الاستعمالي فيهما قطعا، و إلا لم يقع التعارض بين القول المثبت لمعني مع القول النافي له بلسان المجاز أو الكناية، كما لو قيل (زيد بخيل) و (زيد كثير الرماد) أو (زيد جبان) و (زيد أسد) لأن كل منهما بحسب المراد الاستعمالي يتعرض لما لا يتعرض له الأخر. و إنما العبرة في التعارض بالمراد التفهيمي من الدليلين و هو مختلف في الحاكم و المحكوم، فإن الحاكم و إن كان ينفي ما هو موضوع للمحكوم استعمالا مثلا إلا إن المراد به تفهيما نفي نفس الحكم الذي يثبته المحكوم فهما متعارضان. يضاف إلي ذلك إن هذا لا يتم في قسم من قسمي الحكومة لدي هؤلاء و هو حيث يكون الحاكم متعرضا لعقد الحمل من المحكوم، فإنه حينئذ يتعرض لنفس ما يثبته المحكوم أو ينفيه كما هو واضح. الثاني: ما قد يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ (قده) من إن الدليل الحاكم شارح للمراد من المحكوم و مبين للمراد

منه و الشارح لا يعارض المشروح. و يرد عليه: أولا: إن مبني ادعاء الشارحية هو الاعتقاد بأن الحاكم ناظر إلي المحكوم و مسوق للتعرض له، و قد سبق عدم تمامية هذا الرأي بل أوضحنا إن الحاكم إنما ينظر إلي الارتكاز الثابت في ذهن المخاطب علي الارتباط بين الحكم و موضوعه بنحو عام، و هذا النظر هو مصحح لسانه التنزيلي دون النظر إلي إطلاق و عموم.

و ثانيا: إن الشارحية إنما هي سمة لأسلوب الدليل الحاكم و لسانه و أما واقعة و محتواه فهو كالمخصص واقع في المعارضة مع العام حيث إنهما جميعا يقتضيان كون مقام الإثبات في الدليل العام أوسع من مقام الثبوت

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 260

علي خلاف المراد التفهيمي للدليل المزبور. و بذلك يتضح أنه لا يتم تقديم الحاكم علي أساس عدم معارضته مع المحكوم و شرحه له. نعم: لو فسرنا التعارض بالتنافي في الحجية كما ذهب إليه المحقق الخراساني لم يكن هناك تعارض بين الحاكم و المحكوم كسائر موارد الجمع العرفي لكن حجية أحد الدليلين فيهما في طول حجية الأخر، لكن عدم التعارض بين الدليلين بهذا المعني لا يغني عن وجود نكتة دلالية مثلا تفرض تقديم أحد الدليلين علي الأخر، بل هو متفرع علي وجود مثل هذه النكتة.

الوجه الثاني: أن يقال إن الحاكم مسوق لتحديد المحكوم لكونه ناظرا إليه مباشرة

فهو قرينة شخصية قد نصبها المتكلم علي مراده بالمحكوم. و هذا الوجه مبني علي الرأي المعروف لدي الأصوليين من تقوم الحكومة بنظر الحاكم إلي الدليل المحكوم و قد سبق إنه غير تام.

الوجه الثالث: ما هو المختار

و هو إن أسلوب الحكومة و إن لم يكن مسوقا للنظر إلي أي دليل آخر بل هو ناظر بالأصالة إلي ارتكاز ذهني عام مخالف لمؤدي الدليل لكنه ناظر بنحو غير مباشر إلي نفي ما يكون حجة علي هذا الارتكاز المخالف، و بذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متي كانت عموما أو إطلاقا، و هذه مزية دلالية تستوجب تقديمه علي تلك الحجة و تحديدها به.

بقي هنا أمران:
الأمر الأول: إنه قد يوحي كلمات كثير من الأصوليين إن الدليل الحاكم بموجب نظره إلي المحكوم يوجب تقدمه عليه مطلقا

بلا استثناء و شذوذ، و هذا لا يخلو عن غلو و إفراط، فإن هناك جملة من الحالات تطرأ علي هذا الأسلوب كما تطرأ علي أسلوب التصريح لا يجوز فيها تقديمه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 261

علي معارضه أصلا: فمنها: ما إذا كان الدليل المتضمن لهذا الأسلوب مخالفا لحكم ثابت بالكتاب أو السنة و مثال ذلك ما روته الغلاة من إن الصلاة و الزكاة و الحج كلها رجل، و إن الفواحش رجل فإن ذلك ناظر إلي أدلة إيجاب العبادات و تحريم الفواحش و لو بنحو غير مباشر فيكون من قبيل أسلوب الحكومة لكنه مندرج في ما دل علي لزوم طرح ما خالف الكتاب فيجب طرحه و إلغاؤه رأسا. و منها: ما إذا كان تقديم الدليل المزبور علي معارضه موجبا لإلغاء موضوعية العنوان المأخوذ في ذاك الدليل و ذلك فيما إذا كانت النسبة بين المدلول التفهيمي للدليلين عموما من وجه فيمتنع تقديمه عليه دلالة و ذلك نظير امتناع تخصيص أحد العامين من وجه بالآخر في هذه الحالة. و منها: ما إذا كان تقديم الدليل المزبور موجبا لبقاء أفراد قليلة تحت الدليل الأخر بما يستهجن معه إلقاء العموم، فإن ذلك من قبيل التخصيص المستهجن و مثال ذلك ما لو ورد (أكرم العلماء). و

ورد أيضا (من كان علمه كسبيا لا بمعونة الإلهام القلبي فإنه ليس بعالم). فمن هذه الحالات و أمثالها يؤدي التعارض بين الدليل الكائن بأسلوب الحكومة و الدليل الأخر إلي إلغاء هذا الدليل رأسا، أو يؤدي إلي تأويله إذا كان صالحا لذلك كما يحمل قوله صلي الله عليه و آله (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) «1» مثلا علي نفي الكمال لمخالفة مفاده الاولي من نفي الحقيقة و الصحة في غير المسجد، للحكم القطعي الثابت بالكتاب و السنة لصحت صلاة جار المسجد في غير المسجد. و بذلك يظهر أن هذه المزية ليست إلا كسائر المزايا الدلالية التي هي مزايا نوعية تقبل الاستثناء.

______________________________

(1) الوسائل 5: 194 ح 6310 باب 2.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 262

الأمر الثاني: قد يظهر من كلمات الأصوليين أيضا إن المزية الدلالية للحاكم توجب تقديمه علي المحكوم بنحو التحكيم

، من غير أن يكون هناك احتمال آخر في البين. و المراد بالتحكيم هو رفع اليد عن الشمول الأفرادي للعام كالتخصيص، و لذلك لم يطرحوا فيه احتمال النسخ الذي ذكروه في تعارض العام و الخاص. و ربما كان مبني هذا الرأي تصورهم للحكومة علي إنها تفسير و شرح للمراد بالدليل المحكوم و لكنا أوضحنا فيما سبق إن التفسير و الشرح إنما هو سمة لأسلوب الحاكم و لسانه و أما واقعة فهو واقع المعارضة و المنافاة كالدليل المخصص. و الصحيح إن نفس الاحتمالات و الأبحاث الواردة بشأن الخاص و العام تأتي بالنسبة إلي الحاكم و المحكوم، لأنها لا ترتبط بأسلوب الخاص و إنما ترتبط بمحتواه المماثل لمحتوي الحاكم. ففيما إذا ورد الحاكم متأخرا عن وقت العمل بالمحكوم، يرد فيه احتمالات أخري غير التحكيم. منها: أن يحمل علي النسخ بملاحظة ورود الحاكم بعد وقت العمل بالعام، و الالتزام بالتحكيم يستلزم

تأخير البيان عن وقت الحاجة و تأخير البيان و إن لم يكن ممتنعا علي كل حال لكنه بحاجة إلي مصحح خاص. و منها: أن يحمل علي الحكم الولائي فيما كان الموضوع مناسبا مع ذلك. و منها: أن يتصرف في ظهور الحاكم و يؤخذ بالدليل المحكوم كأن يحمل قوله (الفاسق ليس بعالم) علي إن إكرام العالم الفاسق مرجوح في امتثال قوله (أكرم عالما) فيؤخذ بإطلاق هذا الدليل و إن كان ظاهر الدليل الأول هو عدم كفاية إكرام العالم الفاسق في الامتثال، إلا إنه كتمت القرينة علي إرادة المرجوحية لمصلحة مقتضية لذلك، و قد ذكرنا في مبحث تعارض الأدلة من علم الأصول المصالح المقتضية لكتمان القرائن كالتقية و السوق إلي الكمال و إلقاء الخلاف بين الشيعة و غير ذلك.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 263

و منها: أن يؤخذ بالعام و يلغي الخاص رأسا حملا له علي التقية و المداراة و نحوهما. و الالتزام بالتحكيم من بين سائر الاحتمالات غير متعين بل لا بد أن يكون علي أساس ضوابط النشر و الكتمان التي ذكرناها في محله، و هذه الضوابط كما قد تنتج التحكيم فكذلك قد تنتج غيره من الوجوه علي ما أوضحناه في مبحث تعارض الأدلة تفصيلا.

المقام الثاني: في إن (لا ضرر) بناء علي تفسيره بنفي الحكم الضرري هل هو حاكم علي أدلة الأحكام الأولية أو لا؟

اشارة

. قد اتضح مما سبق منا في البحث عن مفاد الحديث إن في توجيه تفسير الحديث بهذا المعني مسلكين:

المسلك الأول [المراد الاستعمالي بالحديث نفي تحقق الضرر خارجا لكن المراد التفهيمي به نفي جعل حكم يفضي إلي تحمل المكلف للضرر]

ما هو المختار وفاقا للمشهور من إن المراد الاستعمالي بالحديث نفي تحقق الضرر خارجا لكن المراد التفهيمي به نفي جعل حكم يفضي إلي تحمل المكلف للضرر، فيكون نفي الحكم مفادا بلسان التنزيل و الكناية حيث نفي المسبب و أريد به نفي سببه التشريعي. و علي هذا المسلك يكون حكومة (لا ضرر) علي سائر الأدلة واضحة لكونها بلسان التنزيل و المسالمة الذي هو القدر المتيقن من موارد الحكومة، بل هو المقوم له علي المختار في حقيقتها كما عرفت، فهو يندرج في المورد السادس من موارد النفي التنزيلي التي سبق ذكرها في الجهة الثانية.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني (قده) و من وافقه «1» من أن الضرر المنفي عنوان توليدي للحكم الضرري

فيكون المقصود بنفي الضرر نفي سببه التوليدي و هو الحكم.

______________________________

(1) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني: 214 215، أجود التقريرات 2: 161، و مصباح الأصول 2: 541.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 264

و قد ذهب هؤلاء إلي حكومة (لا ضرر) بهذا المعني علي أدلة الأحكام و ذلك لأن الحكومة علي قسمين:

الأول: ما يكون ناظرا إلي عقد الوضع منه ك (لا ربا بين الوالد و الولد) بالنسبة إلي دليل حرمة الربا و فساده.

الثاني: ما يكون ناظرا إلي عقد الحمل و هو الحكم ك (وجوب الإكرام لا يثبت لزيد العالم). و دليل (لا حرج) و (لا ضرر) بالنسبة إلي أدلة الأحكام المثبتة للتكاليف من قبيل القسم الثاني لأنها توجب تصرفا في الحكم و تقضي باختصاص الاحكام بغير الموارد الحرجية أو الضررية، لكن لا بلسان (إن المتضرر ليس بمكلف) أو (إن الوضوء الضرري مثلا ليس بوضوء) حتي يكون رفعا لموضوع تلك الاحكام، و لا بلسان إنه لا يجب الوضوء علي المتضرر حتي يرجع إلي التخصيص بل بلسان إن الاحكام الثابتة في الشريعة ليست

بضررية و لا حرجية. و هذا غير تام لان مبناه علي إن معيار الحكومة هو النظر إلي دليل آخر. و قد سبق أن أوضحنا أن عنصر النظر لا يصلح مناطا للحكومة لعدم اطراده في مواردها و عدم مقوميته لها. و إنما مناطه أن يكون لسان الدليل المحدد للعام لسان مسالمة مع العام بأن لا ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحا بل يفيد ذلك بأسلوب التنزيل و الكناية. و علي هذا المبني لا تصدق الحكومة مع تعرض الدليل المحدد لعقد الحمل في الدليل الأخر حقيقة كما في مثال (لا ضرر) علي هذا المسلك لأن النفي حينئذ منصب علي الحكم مباشرة فيكون لسانه حينئذ لسان المعارضة مع العام كما هو شأن التخصيص. نعم إذا كان نفي الحكم نفيا تنزيليا كما في (رفع ما لا يعلمون) كان ذلك من قبيل الحكومة الظاهرية كما مر ذلك في الجهة الثانية و هو غير مراد

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 265

هنا لان المراد في المقام النفي الواقعي.

التنبيه الرابع: في وجه تحديد انتفاء الحكم الضرري بحالة العلم أو الجهل في بعض الفروع الفقهية

اشارة

مع إن الضرر المنفي بالحديث غير محدد بذلك. لا إشكال في إن الضرر المنفي في هذا الحديث إنما يراد به نفس هذه الماهية من دون دخالة العلم أو الجهل به، لان ذلك هو معناه الموضوع له كما في سائر الألفاظ حيث إنها موضوعة لذوات المعاني لا مقيدة بالعلم و لا بالجهل. و ليس هناك أية قرينة خاصة تدل علي هذا التحديد، و عليه فلا فرق في نفي الحديث للحكم الضرري بين أن يكون الضرر معلوما أو مجهولا. لكن ربما يظن أن المشهور خالفوا مقتضي ذلك في بعض الفروع الفقهية فحددوا نفي الحكم الضرري تارة بصورة الجهل بالضرر كما في

نفي اللزوم في موارد الغبن حيث التزموا بثبوته إذا كان الضرر معلوما، و أخري بصورة العلم كما في نفي الوجوب الضرري حيث حكموا ببطلان الوضوء حيث يعلم بكونه مضرا دون ما إذا كان جاهلا.

فلا بد من تحقيق الأمر في هذين الفرعين:

الفرع الأول: تحديد خيار الغبن بالجهل بالضرر
اشارة

. ان المشهور بين فقهائنا ثبوت الغبن في المعاملة الغبنية خلافا لأكثر فقهاء العامة كالحنفية و الشافعية و الحنابلة، و خلافا لما اشتهر في القوانين المدنية الموضوعة. قال في مصادر الحق (الفقه الإسلامي لا يعرض للغلط في القيمة إلا عن طريق الغبن ثم هو في أكثر مذاهبه لا يعتد بالغبن و لو كان فاحشا إلا إذا صحبه تغرير أو تدليس و هو في ذلك يضحي باحترام الإرادة في سبيل استقرار التعامل، و هذا هو شأن أكثر الشرائع الغربية فقل إن تجد

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 266

شريعة تعتد بالغبن إلا في حالات نادرة) «1». و قد ذهب إلي عدم ثبوته بعض قدماء أصحابنا كابن الجنيد كما قيل إن جمعا منهم لم يتعرضوا له أصلا و تردد في ثبوته بعض المتأخرين كصاحبي الكفاية و الذخيرة. و قد استند المشهور إلي وجوه عمدتها قاعدة (لا ضرر) بدعوي إن اللزوم مع الغبن ضرري فيكون منفيا. و قد عد الشيخ الأنصاري هذا الوجه أقوي ما استدل به لثبوت هذا الخيار، و ذكر إنه يشترط في ثبوته عدم علم المغبون بالقيمة فلو علم بالقيمة فلا خيار بل لا غبن بلا خلاف و لا إشكال لأنه أقدم علي الضرر «2». و حيث إن العلم بالقيمة مساوق مع العلم بالضرر فيرجع ذلك إلي القول بعدم شمول (لا ضرر) لما إذا كان ترتب الضرر علي اللزوم معلوما فيتجه بذلك الاعتراض السابق من إن الضرر النفي غير مقيد

بالجهل «3». لكن التحقيق إنه لا مجال للاعتراض أصلا لأن مفاد قول المشهور بالدقة ليس هو تحديد نفي اللزوم بالعلم، و إنما يرجع إلي تحديده بالاقدام علي الضرر لأنهم و إن ذكروا أولا إنه يشترط في ثبوت الخيار عدم علم المغبون بالضرر، لكنهم عللوا ذلك بكون شرائه حينئذ إقداما علي الضرر، مما يدل علي أنهم يرون عدم شمول الحديث لمورد الاقدام علي الضرر لا لمورد العلم به كما هو واضح. و الإقدام علي الضرر أعم من العلم به لانه كما يصدق مع علم المغبون بكون المعاملة ضررية بأن يطلع علي القيمة السوقية للمتاع و هي

______________________________

(1) المصدر 2: 132.

(2) المكاسب المحرمة: 235.

(3) لاحظ تقريرات المحقق النائيني: 215، و مصباح الأصول 2: 543 544.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 267

أقل من الثمن الذي دفعه إلي البائع، كذلك يصدق فيما إذا كان ظانا بالضرر أو محتملا، و لكن أوقع المعاملة بما يحتوي عليه مع إطلاق الملكية حتي لما بعد إنشاء الفسخ و حصول الندامة، ففي هذه الحالة أيضا يصدق أنه أقدم علي البيع اللازم حتي و إن كان ضرريّاً. و الدواعي إلي الإقدام علي الضرر لا تختص بصورة العلم بالضرر بل قد تكون آكد في صورة عدم العلم به مع الالتفات إليه و الظن به أو احتماله، فمن الدواعي مثلا المزاحمة مع الغير كما قد يقع في شراء المتاع في المزاد العلني. و منها: مشاكلة المبيع مع ما عنده بحيث يكون مكملا له كما إذا كان عنده بعض أجزاء كتاب ما كالبحار و الوسائل دون بعضها الأخر و لا يباع ذلك بمفرده في الأسواق عادة فوجده عند شخص فاشتراه بقيمة يقطع أو يظن أنه أزيد من

القيمة السوقية. و منها: الحاجة الفعلية إلي المتاع كما لو شرع في بحث يحتاج إلي بعض المصادر التي لا تتوفر في الأسواق فيجده عند شخص فيشتريه من غير أن يراعي عدم كون شرائه له بأزيد من القيمة السوقية. و منها: قصد انتفاع صاحب المتاع و خدمته لأسباب إنسانية أو دينية كما لو بيع أمتعة شخص يحبه في المزاد العلني فيزيد في الثمن غير مبال بالتساوي معه في القيمة السوقية لكي تكون أمتعته مبيعة بأعلي الثمن، إلي غير ذلك من الدواعي و الأغراض. و بذلك يظهر إنه لا حاجة في دفع الاعتراض المزبور عن المشهور إلي تصحيح ثبوت الخيار مع الإقدام إذ لا وجه للاعتراف باشتراطهم للجهل بالضرر بعد تعليله بالاقدام، بل ثبوت الخيار في ذلك إنما يصحح اشتراطه بعدم الاقدام لا بعدم العلم كما هو ظاهر.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 268

لكن قد يشكل كلام المشهور في هذا التحديد من جهتين:

الاولي: ما ذكره المحقق الايرواني (قده) من منع تحقق الاقدام علي الضرر الحاصل بلزوم البيع مطلقا و إنما يكون الإقدام بالنسبة إلي أصل المعاملة و هو ليس إقداما علي الضرر الحاصل باعتبار اللزوم من قبل الشارع «1».

و الجهة الثانية: ما ذكره جمع من المحققين كالمحقق المذكور و المحقق الأصفهاني من إن تحديد القاعدة بعدم الاقدام تخصيص بلا مخصص كتحديده بعدم العلم لان جعل اللزوم و لو في حالة الاقدام جعل لحكم ضرري «2» و لكن الصحيح عدم تمامية الاعتراض علي المشهور في شي ء من الجهتين وفاقا لجمع آخر من المحققين «3».

لتوضيح الحال لا بد من البحث عن كل من صورتي الإقدام علي الضرر و عدمه
اشارة

، فهنا أمران

الأمر الأول: في صورة الإقدام

و الكلام فيها يقع تارة في تنقيح الصغري من تحقق الاقدام علي الضرر في حالة العلم به و نحوها و أخري في تحقيق الكبري من (نفي قاعدة لا ضرر للضرر المقدم عليه) فهنا نقطتان:

إما النقطة الاولي:

فتوضيح القول فيها إن مبني منع تحقق الإقدام في ذلك هو إن الشخص في حالة الغبن إنما يقدم بإنشائه علي أصل المعاملة، و لكن الشارع يحكم عليها بحكمين حكم إمضائي يرتبط بأصل المعاملة و هو الصحة، و حكم تأسيسي فيما يتعلق ببقائها و هو اللزوم و عدم حق الفسخ،

______________________________

(1) لاحظ تعليقة المحقق الايرواني علي المكاسب 2: 28 و 30.

(2) لاحظ المصدر السابق و تعليقة المحقق الأصفهاني علي المكاسب 2: 31.

(3) لاحظ حاشية السيد الطباطبائي علي المكاسب 2: 38 و تقريرات المحقق النائيني علي المكاسب للعلامة الخونساري 2: 60 و في (لا ضرر): 218.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 269

فاللزوم حكم ابتدائي مجعول من قبل الشارع و ليس منشأ بالمعاملة حتي يكون الضرر اللازم من جهته مقدما عليه. و لكن هذا ليس تاما فإن اللزوم أيضا يرجع إلي إنشاء المكلف في مورد البحت حيث يكون المنشأ مطلقا بالإطلاق اللحاظي من جهة كون ما انتقل إليه أقل مما انتقل عنه بحسب القيمة السوقية و عدم كونه كذلك، و ذلك لان مفاد بيع المغبون و شرائه في هذه الصورة هو إنشاء قطع العلقة الثابتة بينه و بين ماله و انتقالها إلي الطرف الأخر مطلقا بالنسبة إلي الأزمنة الاتية بما فيها زمان صدور إنشاء الفسخ منه الحاصل من الندامة. و عليه فهو بإنشائه هذا المعني علي سعته قد سد علي نفسه باب التخلص من الضرر في صورة الندامة و

لم يبق لنفسه خطا للرجوع فيكون وزان ذلك وزان البيع و الصلح المحاباتيين و الوقف و نحوها من المعاملات الضررية اللازمة.

و علي هذا: فليس حكم الشارع باللزوم إلا كحكمه بالصحة حكما إمضائيا إقرارا للمكلف علي جميع ما يحتوي عليه إنشاؤه.

و أما الجهة الثانية: و هي نفي قاعدة (لا ضرر) للضرر المقدم عليه فيمكن تقريرها بأحد وجهين. الوجه الأول: إن المفاد التفهيمي للحديث إنما هو نفي تسبيب الشارع إلي تحقق الضرر كما سبق دون اعمال الولاية علي المكلف عليه في كل تصرف يوجب ضررا عليه كالوقف و الإبراء و الصلح المحاباتي و لبيع في المقام و نحو ذلك. و بين الأمرين فرق واضح. و عدم إمضاء ما التزمه المكلف علي نفسه من الضرر و سبب إليه عرفا إنما هو من قبيل الثاني دون الأول لأن الثاني تحديد لما يحكم به العقلاء من إن كل أحد مسلط علي ماله و له أن يتنازل عنه مجانا و بلا عوض، فضلا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 270

عن أن يتنازل عنه بعوض يعلم بأنه أقل قيمة منه مثلا فالحكم الإمضائي في ذلك احترام لإرادة المكلف و سلطنته علي ماله و ليس تسبيبا إلي الضرر عليه. و لو أن (لا ضرر) اقتضي نفي الأحكام الإمضائية التي هي من هذا القبيل اقتضي ذلك أن ينفي صحة المعاملة الغبنية من أصلها مع أن المتسالم عليه بين فقهائنا بل جميع فقهاء المذاهب الإسلامية بل في جميع القوانين الوضعية صحة ذلك، و هكذا في أمثالها.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني من إن مفاد الحديث حكم امتناني و لا منة في رفع اللزوم في حالة العلم بالضرر و نحوها «1». و أجيب عنه في

كلمات المحقق الايرواني بمنع ذلك بدعوي أن المنة مقتضية لحفظ العباد عن المضار و إن هم أقدموا عليه، فلربما يندمون و يريدون الفسخ فيكون لهم مخلص عنه «2». و هذا الوجه و إن لم يكن يخلو عن تأمل إلا إن الجواب عنه بما ذكر ضعيف لان صدق (الضرر) علي مثل هذه المعاملة إنما هو بلحاظ قصر النظر إلي مرحلة المعاوضة و لحاظ القيمة السوقية و أما إذا لوحظ مجموع الأغراض و الدواعي فلا يصدق عليه هذا العنوان كثيرا، لان هذه المعاملة قد تستوجب له نفعا أزيد كما إذا كان داعيه علي اشترائه بثمن أزيد من القيمة السوقية تكميل المال الناقص الموجود عنده، فما اشتراه بلحاظ كونه مكملا للناقص تكون قيمته له أزيد من الثمن الذي اشتراه به بكثير، و هكذا قد يكون في شرائه كذلك دفعا لضرر أكثر كما لو اشتراه من جهة صيانة بعض أجهزته عن الشغل و الوقوف الذي يترتب عليه ضرر كثير، أو اشتراه لمعالجة نفسه مع ندرة

______________________________

(1) لاحظ تعليقة المكاسب له 2: 54.

(2) تعليقة المكاسب للمحقق المذكور 2: 30.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 271

وجوده في السوق أو عدم إمكان تحصيله إلا بالمسافرة إلي بلد آخر يحتاج إلي مئونة كثيرة، فبملاحظة مثل هذه الجهات لا يصدق إنه جلب الضرر علي نفسه الاقدام علي هذه المعاملة فلا معني للمنة عليه برفع لزوم العقد في مثل ذلك. و بذلك كله يظهر صحة قول المشهور من عدم ثبوت الخيار مع الغبن.

الأمر الثاني: في صورة عدم الاقدام
اشارة

. و المقصود من التعرض لهذه الصورة بيان سر التفريق بينها و بين صورة الإقدام حيث يقال أن حكم الشارع فيها غير منفي ب (لا ضرر) بخلاف هذه الصورة، و ذلك

لانه ربما يتوهم بأن البيان الذي ذكرناه في عدم اقتضاء (لا ضرر) لنفي اللزوم في حالة الاقدام من كون اللزوم مدلولا لإطلاق المنشأ، فيكون الحكم به حكما إمضائيا و (لا ضرر) لا ينفي مثل ذلك و هذا البيان ينسحب إلي صورة عدم صدق الاقدام كما إذا كان المشتري غافلا عن القيمة السوقية أو معتقدا بالتساوي أو بأن قيمة ما انتقل إليه أزيد مما يبذله من الثمن أو كان مسترسلا و معتمدا علي أخبار البائع بالقيمة السوقية، فإن إطلاق المنشأ يتحقق في هذه الصورة أيضا، فلا يمكن نفي اللزوم فيها لهذه القاعدة و نتيجة ذلك بطلان تمسك المشهور بهذه القاعدة لإثباتها لخيار الغبن مطلقا.

و تحقيق الحال في ذلك: إنه لا يتحقق للمنشإ في شي ء من موارد هذه الصورة إطلاق لحاظي
اشارة

بالنسبة إلي تساوي الثمن و المثمن في القيمة السوقية و عدمها بل هي علي ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يكون المنشأ فيه مقيدا بالتقييد اللحاظي

و ذلك كما إذا كان المشتري مسترسلا معتمدا علي أخبار البائع بتساوي الثمن و المثمن في القيمة السوقية، فإن الشراء حينئذ يكون مشروطا بشرط مقدروها التساوي

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 272

في القيمة. و حينئذ يحكم بالخيار من جهة تخلف الشرط و مرجع الشرط إلي أن التزامي مشروط بالتزامك بأن المبيع تساوي قيمته هذا المقدار الخاص، و لازمه تقييد التزامه بتطابق قول البائع مع الواقع و لا حاجة في ثبوت الخيار حينئذ إلي قاعدة (لا ضرر).

القسم الثاني: ما يكون المنشأ فيه مقيدا تقيدا ذاتيا

كما في الغافل و الجاهل المركب و نحوهما. و المراد بالتقييد الذاتي: أن يكون القيد غير ملحوظ حال الإنشاء و لكن يكون ثابتا في نفس المنشأ في مرحلة الارتكاز و اللاشعور الذهني. و وجه التقييد الذاتي في الغافل و نحوه هو إن المرتكز في ذهن كل معامل بلحاظ الغرض النوعي العقلائي في المعاملات و المعاوضات التي لا تبتني علي جهة المحاباة عدم كون ما انتقل إليه أقل مالية بمقدار لا يتسامح به مما انتقل عنه، فهذا الارتكاز الذهني يوجب تضيقا ذاتيا للمنشإ و إن كان في مرحلة اللاشعور بعد محدودية الرضا الباطني بذلك و حيث إن المتخلف ليس هو الصورة النوعية، فيحكم بالخيار. و لذا احتج العلامة لخيار الغبن بقوله تعالي (إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ) «1» و ذكر بعض علماء القانون في الإشارة إلي موقف النافين لخيار الغبن بأنهم يضحون باحترام الإرادة في سبيل استقرار التعامل «2» مما يدل علي انتفاء الرضا الباطني في صورة الغبن. و علي ضوء ذلك يثبت الخيار في هذه الصورة من غير حاجة إلي قاعدة

______________________________

(1) النساء 4/ 29.

(2) مصادر الحق 2: 133.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 273

(لا

ضرر).

و قد ذهب إلي هذا المسلك جماعة من محققي فقهائنا كالمحققين النائيني و الاصفهاني و الإيرواني و غيرهم. إلا إن هذا الوجه إنما يصح إذا لم يكن هناك ارتكاز ثانوي بملاحظة الجو و المحيط أو التأثر من فتوي الفقهاء أو القانون الوضعي يوجب اضمحلال الارتكاز الأول.

و لذا ذكرنا في محله: أنه لو فرض عرف خاص في بعض أنحاء المعاملات أو مطلقا يتضمن اشتراط حق استرداد ما يساوي مقدار الزيادة علي تقدير عدم ثبوت الخيار، فإنه يكون هذا المرتكز الخاص هو المحتكم و المتبع في مورده.

القسم الثالث: ما يكون المنشأ فيه مطلقا بالإطلاق الذاتي

. و الإطلاق الذاتي هو الشمول الذي يتحقق في الكلام في حالة عدم التقييد اللحاظي و الذاتي من غير ملاحظة الخصوصية و رفضها كما هو الحال في الإطلاق اللحاظي. و يكون ذلك في موارد: منها: عدم مسبوقية ذهن المنشئ بانقسام الماهية إلي قسمين كما لو وقف دارا علي العلماء من غير علم بانقسامهم إلي أصولي و أخباري، و هكذا لو كان مسبوقا لكن لم يلتفت إلي هذا التقسيم حال الإنشاء مع عدم تحديده بأحد الأقسام ارتكازا إذ لو حدده كان تقييدا ذاتيا و هذا كثيرا ما يتفق في. جملة من المعاملات كالوقوف و النذور و الوصايا و نحوها، و في هذه الحالة يتحير المنشئ أيضا في حدود إنشائه لعدم ملاحظة القيد و رفضه كما في موارد الإطلاق اللحاظي، و لذا يستفتي فيها الفقيه. و هذا الإطلاق لا يعتبر فعلا للمنشإ لأنه أمر قهري و لذا لا يستحسن و لا يستقبح بخلاف الإطلاق اللحاظي كما أن التقابل بينه و بين التقييد اللحاظي تقابل السلب و الإيجاب بينما التقابل بين الإطلاق و التقييد اللحاظيين من

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص:

274

قبيل تقابل العدم و الملكة. ثم أن الحاكم بالشمول في موارد الإطلاق الذاتي إنما هو القانون فإن لم يكن هناك مانع منه فيحكم القانون بالشمول و إلا فلا يحكم بذلك. و هذا الإطلاق في المقام ملغي بحكم قاعدة (لا ضرر) لان الحكم باللزوم من قبل الشارع حينئذ يكون حكما ابتدائيا من غير صدق إقدام للمنشئ بالنسبة إليه، فهنا يصح التمسك بالقاعدة.

و هنا جهتان تحسن الإشارة إليهما:
الجهة الاولي: إن وجه تمسك جماعة من الفقهاء السابقين بقاعدة (لا ضرر) من دون إشارة إلي الشرط الضمني

كالشيخ في الخلاف أو عدم الاكتفاء ببيان محدودية التراضي (المشير إلي الشرط الضمني) كالعلامة في التذكرة هو أن في الشرط الضمني المذكور نوع خفاء خصوصا فيمن عاش في مجتمع لا يري البيع إلا نوع مغالبة متأثرا بفتاوي من لا يري خيار الغبن كأكثر فقهاء العامة لا سيما إن بعض المسلمين ربما تأثروا بالقوانين البشرية السابقة فزال بذلك ارتكازه الأول. و قد قيل إن بعض فقهاء الشام قد تأثروا بالفقه و العادات الرومية و بعض فقهاء الشرق تأثروا بالتشريع و التقاليد الايرانية و لذلك كان الاولي الاستدلال بقاعدة (لا ضرر) التي هي نص تشريعي لا بتخلف الشرط الضمني.

الجهة الثانية: إنه قد ادعي بعض الأعاظم ثبوت حكم عقلائي علي ثبوت الخيار في حالة الغبن

بدلا عن التمسك بالارتكاز الموجب للتقييد فيكون ذلك هو الدليل علي الخيار من جهة عدم الردع عنه. لكن الحق إنه لم يثبت حكم عقلائي كذلك أصلا.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 275

الفرع الثاني: تحديد الوضوء الضرري بالعلم بكونه ضرريّاً
اشارة

. نقل بعض المحققين عن الشيخ الأنصاري أنه يشترط في جريان أدلة نفي الضرر علم المكلف بكون الوضوء ضرريّاً «1» و قد ذكر السيد الأستاذ تسالم الفقهاء علي صحة الوضوء في حالة الجهل «2» و حينئذ يتجه الاعتراض السابق من أن دليل نفي الضرر ينفي جعل الحكم الضرري مطلقا سواء كان الضرر معلوما أو مجهولا. كما أن دعوي تسالم الفقهاء علي ذلك غير تامة لأن المسألة غير معنونة في الكتب الفقهية للقدماء و الطبقة الوسطي، و أما المتأخرون الذين طرحت المسألة في كلماتهم فلهم فيها أقوال ثلاثة: بطلان الوضوء مطلقا و صحته مطلقا و التفصيل بين ما إذا كان الضرر معلوما فيبطل الوضوء و بين ما إذا كان مجهولا فيصح. و يلاحظ أن استيعاب البحث في هذه المسألة و جهاتها يوجب تفصيلا بالغا في الكلام و هو خارج عن حدود هذا البحث و إنما محله موضعها من علم الفقه و لكنا نتعرض لبعض ما يرتبط بالمقام في ضمن أمور ثلاثة:

أحدها: إنه هل هناك إطلاق يقضي بصحة الوضوء أو الغسل الضرريين حتي نحتاج لإثبات بطلانه في حالة العلم أو مطلقا إلي التمسك بحديث (لا ضرر) ليقع البحث في حدود مقتضاه، أو إنه لا إطلاق في الأدلة أصلا فيبطلان من هذه الجهة؟ ثانيها: إن (لا ضرر) هل يقتضي بطلانهما في حالة العلم أو مطلقا أو لا يقتضي ذلك أصلا؟ ثالثها: إن حرمة الإضرار بالنفس في مورد الضرر المحرم هل تمنع عن

______________________________

(1) رسالة لا

ضرر تقريرات المحقق النائيني: 215.

(2) مصباح الأصول 2: 544.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 276

الحكم بصحتهما مطلقا أو في صورة العلم أم لا؟ و ذلك مع فرض وجود إطلاق قاض بالصحة،

فهنا أبحاث ثلاثة:
أما البحث الأول: فعمدة الأدلة الواردة في الوضوء و الغسل هي الآية الواردة في تشريعهما في سورة المائدة
اشارة

و هي قوله تعالي (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَي الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَي الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) «1».

و الظاهر أنه لا إطلاق في الآية يقتضي صحة الوضوء و الغسل في حالة الضرر بل الظاهر منها بطلانهما في هذه الحالة، و لا بد في توضيح ذلك من تفسير الآية فإنها من مشكلات آيات القرآن الكريم و قد اختلفت في تفسيرها الانظار، و يتضح معناها علي ضوء جهتين: الاولي: إن الآية كما تنبه له صاحب الجواهر (قده) «2» ناظرة إلي تقسيم المكلف المحدث إلي قسمين:

الأول: من قام من النوم إلي الصلاة.

الثاني: من صدر منه الحدث الأصغر أو الأكبر في حالة اليقظة.

و قد تعرض للقسم الأول بقوله (إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ) «3» فإن المراد

______________________________

(1) المائدة 5/ 6.

(2) الجواهر ج 1: 51 ط النجف.

(3) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 277

بذلك القيام من النوم كما جاء في موثقة ابن بكير «1» فأمر تعالي بالوضوء من لم يكن جنبا بالاحتلام كما أمر بالغسل من كان جنبا و إنما ذكر الوضوء و التيمم مفصلا دون الغسل لانه

كان معروفا عندهم فإنهم كانوا يغتسلون من الجنابة و ذلك بخلاف الوضوء و التيمم. ثم ذكر حالة المرض و السفر و أمر فيهما بالتيمم. و قد تعرض للقسم الثاني بقوله (أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ) «2» مشيرا إلي الحدث الأصغر بالجملة الأولي، فإن الغائط هو المكان المنخفض، و التعبير المذكور كناية عن التخلي حيث كان المتعارف لدي العرب إن يرتادوا المكان المنخفض عند ذلك، و إلي الحدث الأكبر بالجملة الثانية فإنه المقصود بملامسة النساء. و بملاحظة نظر الآية إلي هذا التقسيم يندفع التكرار الذي قد يتوهم فيها بتصور إن الآية إنما تتعرض إلي تقسيم المحدث إلي من لا عذر له في عدم استعمال الماء و من له عذر. و قد تعرض للأول بقوله (إِذٰا قُمْتُمْ إلي قوله فَاطَّهَّرُوا) و قد أشير في هذا القسم إلي المحدث بالحدث الأصغر مطلقا بقوله (إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ) «3» و إلي المحدث بالحدث الأكبر بقوله (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) «4». و قد تعرض للقسم الثاني بقوله (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ) «5» و ذكر إن الحكم حينئذ هو التيمم.

______________________________

(1) جامع الأحاديث كتاب الطهارة الباب 1 الحديث 28 ط 1 ج 2: 349.

(2) المائدة 5/ 6.

(3) المائدة 5/ 6.

(4) المائدة 5/ 6.

(5) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 278

فعلي هذا التصور يشكل:

أولا: بأنه لا وجه لذكر (عَليٰ سَفَرٍ)، لان ذكر السفر باعتبار إنه حالة فقدان للماء فيغني عنه قوله (فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً) «1» بل مقتضي ذكر السفر في مقابل عدم وجدان الماء هو كونه موضوعا لجواز التيمم بنفسه و لا ينبغي الشك في عدم كونه كذلك، إلا أن يجعل ذكر السفر تمهيدا و توطئة لذكر عدم

الوجدان علي أن يكون عدم الوجدان نتيجة له و هو خلاف الظاهر.

و ثانيا: إنه لا وجه لذكر بعض حالات الحدث الأصغر من التخلي و ملامسة النساء في القسم الثاني من الآية لان ذلك مذكور بنحو أعم في القسم الأول منها، فإن التخلي يندرج تحت (القيام إلي الصلاة) لأنه مشير إلي الحدث الأصغر و ملامسة النساء يندرج تحت (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) «2» فلا موجب لذكرهما في هذا القسم بالخصوص، بل يكفي ذكر الأعذار التي هي نقطة تميز بين القسمين، فكان المناسب أن يقال في الشق الثاني (و إن كنتم مرضي أو لم تجدوا ماء فتيمموا). لكن لا يتجه الإشكال في شي ء من الجهتين لما أوضحناه من الآية إنما تتعرض للتقسيم بنحو آخر دون النحو المذكور، و علي ذاك النحو لا يرد شي ء من الإشكالين.

أما الأول: فلان (عَليٰ سَفَرٍ) إنما يرتبط بالقسم الأول و هو من قام من النوم للصلاة و عدم وجدان الماء إنما يرتبط بالقسم الثاني المذكور بقوله (أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) «3» فإن (فَلَمْ تَجِدُوا) «4» عطف علي مدخول (أو) في هذه

______________________________

(1) المائدة 5/ 6.

(2) المائدة 5/ 6.

(3) المائدة 5/ 6.

(4) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 279

الجملة لا علي الجملة الشرطية الاولي في قوله (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ) «1» فلا تكرار.

و أما الثاني: فلان المراد بالقيام إلي الصلاة هو القيام من النوم، كما إن المراد بكونهم جنبا هو الاحتلام فلا يشمل ذلك حدث التخلي أو ملامسة النساء. و نظير هذه الآية في تأليفها و معناها قوله تعالي (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ حَتّٰي تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّيٰ

تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «2». فإن القسم الأول منها ناظر إلي النوم أيضا لأن المراد بقوله (وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ) «3» هو السكر من النوم كما في بعض الروايات الصحيحة «4».

الجهة الثانية: إن مفاد الآية من القسم الأول تحديد توجه الأمر بالوضوء و الغسل بشرطين هما عدم التضرر من استعمال الماء، و وجدان الماء فينتج ذلك فسادهما في حالة الضرر، و يظهر ذلك بملاحظة أمور:

الأول: إن ما جاء في نهاية هذا القسم منها من الأمر بالتيمم لمن كان مريضا أو علي سفر لا يقصد به موضوعية هذين العنوانين لجواز التيمم، بأن يكون مجرد المرض و السفر موضوعا لكفاية التيمم و لو كان مرضا لا يضره استعمال الماء أو ينفعه ذلك، أو سفرا يتوفر فيه الماء بكثرة. بل ذكر المرض

______________________________

(1) المائدة 5/ 6.

(2) النساء 4/ 43.

(3) النساء 4/ 43.

(4) كصحيحة زرارة لاحظ تفسير البرهان 1/ 370.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 280

إنما هو لكونه عادة حالة تضرر باستعمال الماء فيكون كناية عن التضرر بالاستعمال. كما إن ذكر السفر إنما هو باعتبار إن السفر في تلك الأزمنة في مثل الجزيرة العربية كان حالة فقدان للماء عادة فهو كناية عن هذا المعني و لا موضوعية له كما توهم بعض المفسرين «1».

الثاني: إن ظاهر الآية بحسب صدرها و إن كان يقتضي عموم الأمر بالوضوء و الغسل لحالة التضرر باستعمال الماء، إلا إنه يتحدد بمقتضي قوله في نهاية القسم الأول منها (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ) «2» لان التفصيل قاطع للشركة و بذلك يكون عدم الضرر قيدا مأخوذا

في موضوع الأمر بالوضوء و الغسل.

الثالث: إن الأمر بالوضوء و الغسل في الآية ليس أمرا نفسيا بل هو أمر مقدمي لتحقق المأمور به الذي هو الصلاة مع الطهارة، أما علي أنهما بأنفسهما طهور أو لكونهما محصلين للطهارة كما هو الأظهر علي ما يشير إليه التعبير عن الغسل بقوله (فَاطَّهَّرُوا) «3» و ما جاء في ذيلها (وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) «4». و علي ضوء هذا فتحديد الأمر بالوضوء و الغسل بحالة عدم الضرر يعني فسادهما في هذه الحالة لأنه يقتضي عدم وفائهما بتحقق المأمور به و هو الصلاة مع الطهارة أو قل عدم وفاتهما بتحقق شرطه و هو الطهارة. و يلاحظ إن الغسل المذكور في الآية و إن كان هو غسل الجنابة لكن يجري ذلك في سائر الأغسال بلحاظ اتحاد هذا الغسل و غيره في الحكم،

______________________________

(1) كصاحب المنار في تفسير المنار 5: 118 و 128 و 129.

(2) النساء 4/ 43.

(3) المائدة 5/ 6.

(4) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 281

و لذا ورد إن غسل الحيض و الجنابة واحد. و هكذا يظهر أن مقتضي الآية فساد الوضوء و الغسل في حالة كونهما ضرريين. و هناك تقرير آخر لدلالة الآية علي هذا المعني مبناه علي القول بأن المراد بعدم وجدان الماء في الآية هو ما يعم كونه مضرا أو غير ميسر فيقال: إن التعبير بعدم وجدان الماء في حالة الضرر يدل علي إن وجود الماء كأن لم يكن في هذه الحالة شرعا، و مقتضي ذلك عدم صحة الوضوء و الغسل به فيها. لكن المبني المذكور ضعيف لأن إطلاق عدم الوجدان في مورد المرض غير مناسب عرفا فلا يقال مثلا لمريض يضره استعمال الماء و

هو علي ضفة النهر إنه غير واجد للماء كما هو واضح.

هذا و قد يعترض علي التقرير الذي ذكرناه بوجوه:
الوجه الأول: إن ظاهر الآية إن قوله [«وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ. صَعِيداً طَيِّباً» جملة واحدة مستقلة عما قبلها]:

(وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضيٰ أَوْ عَليٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «1» جملة واحدة مستقلة عما قبلها، و عليه يكون مفادها اشتراط الأمر بالتيمم في المريض و المسافر أيضا بعدم وجدان الماء. فلو كان المريض واجدا للماء يجب عليه الوضوء و الغسل. و قد ذهب إلي ذلك بعض علماء العامة، ففي الخلاف (المجدور و المجروح و ما أشبههما ممن به مرض مخوف يجوز له التيمم مع وجود الماء و هو قول جميع الفقهاء إلا طاووسا و مالكا فإنهما قالا يجب عليهما استعمال

______________________________

(1) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 282

الماء) «1». و في بداية المجتهد لابن رشد نقل عن عطاء إنه لا يتيمم المريض و لا غير المريض إذا وجد الماء «2». و قد ذكر في وجهه إن الضمير في (فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً) «3» يعود إلي المريض و المسافر أيضا. و يؤيد ذلك عدة روايات من طرقنا تدل علي تعين الغسل علي المريض و إن أصابه ما أصابه. منها: ما رواه سليمان بن خالد و أبو بصير و عبد الله بن سليمان جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام (إنه سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال: يغتسل و إن أصابه ما أصابه. قال: و ذكر أنه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة و هو في مكان بارد، و كانت ليلة شديدة الريح باردة، فدعوت الغلمة فقلت: لهم احملوني فاغسلوني، فقالوا: نخاف عليك. فقلت ليس بد، فحملوني و

وضعوني علي خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني) «4». و نحوها صحيحة محمد بن مسلم «5». لكن يرد علي هذا الاعتراض: إنه لا يمكن الالتزام بالوجه المذكور. أما أولا: فلأنه مخالف لإجماع المسلمين و لا يعتد بخلاف من ذكرنا، كما هو مخالف للروايات الكثيرة التي دلت علي عدم تعين الوضوء و الغسل

______________________________

(1) الخلاف 1: 151 مسألة 100.

(2) بداية المجتهد 1: 66 ط 1401 ه.

(3) المائدة 5/ 6.

(4) لاحظ جامع الأحاديث كتاب الطهارة أبواب التيمم الباب 7 ج 3/ ح 18/ 3262 ص 50.

(5) لاحظ جامع الأحاديث كتاب الطهارة أبواب التيمم الباب 7 ج 3/ ح 19/ 3263 ص 51.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 283

في حال المرض، و هي مقدمة علي تلك الروايات من جهتين:

إحداهما: تواتر هذه الروايات. و الجهة الأخري: إنه قد روي بعضها المتأخرون من رواة أصحابنا عمن بعد الصادق عليه السلام من الأئمة، كما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا عليه السلام في الرجل تصيبه الجنابة و به قروح و جروح أو يكون يخاف علي نفسه من البرد. قال: (لا يغتسل يتيمم) «1» و قد أوضحنا في بحث تعارض الأدلة و غيره أن المتأخرين من رواتنا من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السلام ممن ألفوا جوامع حديثية كانوا ينظرون في أسئلتهم للإمام المتأخر إلي ما روي عن الامام الباقر و الصادق عليهما السلام فهي حاكمة علي تلك الروايات، و مقامنا من هذا القبيل.

و أما أولا:

فلان هذا المعني ليس ظاهرا من الآية أيضا إذ لو أراد ذلك لم تكن حاجة بل لم يكن وجه لذكر المرض و السفر و ما بعدهما حيث كان يكفي أن يقول (فَلَمْ

تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) «2».

الوجه الثاني: إن الأمر بالتيمم في حالة المرض و السفر بعد الأمر بالوضوء و الغسل

أولا بنحو عام ليس مفاده عرفا إلا عدم لزوم الوضوء و الغسل في حصول الطهارة لا عدم كفايتهما في ذلك، و السر فيه إنه متي حدد الحكم الإلزامي بعذر من الاعذار كالاضطرار و الحرج و نحوهما سواء أ كان التحديد تحديدا مباشرا أو تحديدا غير مباشر كما إذا كان بنكتة كون التفصيل قاطعا للشركة كما في المقام فإن المنساق عرفا انتفاء الإلزام في حالة العذر لا عدم مطلوبية الشي ء في هذه الحالة، فيقتضي عدم صحته و اجزائه أصلا،

______________________________

(1) المصدر السابق نفس الموضع ح 13 عن أبي عبد الله 13/ 3257، عن أبي الحسن الرضا 14/ 3258 ص 49.

(2) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 284

فلو قيل مثلا (احفظ خطبة من نهج البلاغة و إن كان عسرا فاقرأ صحيفة من القرآن) فإنه لا يستفاد منه إلا عدم الإلزام بحفظ الخطبة في صورة تعسره لا عدم أجزائه كما هو واضح. و المقام من هذا القبيل لان المرض و عدم الوجدان اللذين أخذا موضوعين للحكم الثاني و هو الأمر بالتيمم إنما هما من الاعذار لعدم الإتيان بمتعلق الأمر الأول من الوضوء و الغسل و عليه فيستفاد من الآية إجزاء الطهارة المائية لمن يضره الماء. و يرد علي ذلك: إن ما ذكر إنما يتم فيما إذا كان موضوع الحكم الثاني عنوان الحرج و العسر و نحوهما فيستظهر من الكلام إن متعلق الأمر الأول يؤثر أثره المطلوب في حالة العذر، و عنوان الضرر ليس من هذا القبيل عرفا، و لذا لو قال الطبيب للمريض (يجب عليك لاستعادة نشاطك أن تمشي كل يوم مقدار كيلومتر، و إن كان يضرك ذلك فاستعمل

العلاج الخاص) فإنه لا يقتضي إن المشي ينفعه في استعادة نشاطه من حالة تضرره به. و كذا في المقام فمن الجائز أن يكون الأثر النفسي المطلوب من الطهارة المائية لا يحصل بها في حالة المرض و التضرر أصلا.

الوجه الثالث: إنه لا يبعد أن يكون ذكر المريض في الآية بملاحظة أن استعماله للماء حرج عليه لا مضر به

، و كذلك يكون ذكر المسافر باعتبار كون تحصيل الماء بالنسبة إليه حرجيا، و عليه فالمقصود بذلك إخراج حالة الحرج في استعمال الماء أو في الوصول إليه. و يشهد لذلك تعليل الترخيص في التيمم بقوله (مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) «1».

______________________________

(1) المائدة 5/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 285

و علي هذا فلا ترتبط الآية بمحل البحث، مضافا إلي أن تحديد الأمر بالوضوء و الغسل بعدم الحرج لا يعني عدم صحتهما حينئذ لأن تحديد الحكم بمثلهما لا يعني إلا محدودية الإلزام دون عدم صحة العمل كما تقدم. و يرد عليه:

أولا: إن كون المرض كناية عن الحرج في استعمال الماء خلاف المتعارف في الاستعمالات، فإن المعهود فيها أن يكني به عن الضرر.

و ثانيا: إنه لا وجه للاستشهاد علي ذلك بذيل الآية، لان ذلك مرتبط بأصل جعل الطهارات الثلاث لا بخصوص التيمم كما تنبه له بعض المفسرين فالمقصود به إن الله تعالي لم يأمر بها لكي يحرج عباده و يشق عليهم و إنما أمر بها لتطهيرهم.

الوجه الرابع: أن يقال إنه لو سلمنا إن الآية الشريفة تدل علي عدم وجوب الوضوء و الغسل في حال المرض

إلا إنه يكفي في مشروعيتهما إطلاق أدلة استحبابهما و حينئذ يترتب عليهما أثرهما و هو الطهارة من الحدث «1».

و يرد عليه: أولا: إنه لم يقم دليل علي الاستحباب النفسي للوضوء و الغسل فيما عدا الوضوء التجديدي و الوضوء المشروع للحائض. علي ما أوضحناه في علم الفقه.

و ثانيا: إنه لو فرض وجود الدليل علي استحبابهما النفسي فلا إطلاق له بالنسبة إلي من يضره الماء فإن الأمر الاستحبابي بهما إنما هو في الحصة التي يكون واجدا فيها لشرط الوجوب لا مطلقا.

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2: 552.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار

(للسيستاني)، ص: 286

و ثالثا: إن ما ذكر إنما يتم فيما لو كان المستفاد من الآية مجرد تحديد وجوبهما بعدم الضرر. و أما لو كان المستفاد منها تحديدهما بما أنهما شرطان للصلاة أو محصلان لما هو شرطها من الطهارة فإنها حينئذ تكون دليلا علي الفساد عند فقدان الحد المذكور. و بذلك ظهر إنه لا إطلاق لدليل مشروعية الوضوء و الغسل بالنسبة إلي من يضره الماء. فلا محل للبحث عن اجراء (لا ضرر فيهما) حتي يبحث عن أن المستفاد منها عام للجاهل بالضرر أو مختص بالعالم به.

البحث الثاني: في أنه لو فرض إطلاق أدلة مشروعية الوضوء و الغسل بالنسبة إلي من كان يضره استعمال الماء

فهل يقتضي (لا ضرر) فسادهما مطلقا أو بالنسبة إلي العالم بكونهما ضرريين فحسب أو لا يقتضي ذلك أصلا؟ و الصحيح هو الوجه الأخير.

و توضيح ذلك: إن الوضوء و الغسل علي الصحيح من موضوعات الاحكام، حيث إن كلا منهما جعل في مورده موضوعا لترتب الطهارة الحدثية كما قد جعل غسل البدن بالماء موضوعا للحكم بالطهارة الخبثية. و عليه فلا يمكن نفي صحتهما بقاعدة (لا ضرر) لان مجرد الحكم بترتب الطهارة الحدثية عليهما ليس تسبيبا إلي الضرر، كما لم يكن الحكم بترتب الطهارة الخبثية علي غسل الماء بالبدن تسبيبا إلي الضرر و إن كان استعمال الماء مضرا، فإن المقامين من واد واحد. نعم بينهما فرق من جهة إن ترتب الطهارة الخبثية علي استعمال الماء لا يتوقف علي قصد القربة، و ترتب الطهارة علي استعماله في الوضوء و الغسل مشروط بقصد القربة. لكن هذا الفرق ليس بفارق لان تحقق قصد القربة بالوضوء و الغسل لا يتوقف علي وجود أمر مولوي بهما من الأمر الاستحبابي أو الأمر الغيري

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 287

بناء علي الصحيح من إمكان التقرب بامتثال الأمر الغيري

خلافا لما هو المشهور بين المتأخرين حتي يكون انتفاء الأمر النفسي بهذه القاعدة موجبا لفقدان قصد القربة. إذ قوام عبادية العمل بإضافتها إضافة تذللية إلي الله تبارك و تعالي، و يكفي في تحقق هذا المعني قصد التوصل بالوضوء و الغسل إلي الغاية المترتبة عليهما التي هي محبوبة لدي الشارع المقدس و هي علي المختار نفس الطهارة، و أما بقية الغايات فهي في طولها، كما يكفي أيضا أن يقصد التوصل إلي تلك الغايات الطولية كإباحة الدخول في الصلاة و الطواف. يضاف إلي ذلك إن في اقتضاء (لا ضرر) لسقوط الاستحباب النفسي في مورد ثبوته تأملا. نعم مقتضاه انتفاء وجوبهما الغيري علي نحو غير مباشر بمعني أنه يوجب أولا ارتفاع وجوب ذي المقدمة و هي الصلاة مع الطهارة المائية فيما لم يكن الشخص متطهرا و كان استعمال الماء مضرا له، فبذلك ينتفي الوجوب المقدمي الغيري، إذ علي المشهور لا يمكن انتفاء وجوب المقدمة مع بقاء وجوب ذيها، و نتيجة ذلك عدم وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ما لم يتوضأ المكلف و لكن إذا توضأ فحيث إنه قد حصلت الطهارة المائية فيجب عليه الصلاة مع الطهارة المائية، إذ ليس إيجابها حينئذ تسبيبا إلي الضرر. و بما ذكرنا يمكن أن يوجه بعض كلمات السيد الأستاذ (قده) في المقام مع غض النظر عن بعض المناقشات في عبارته- «1».

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2: 552 ففيه (فالوضوء الضرري و إن كان وجوبه مرفوعا بأدلة نفي الضرر إلا إن استحبابه باق بحاله فصح الإتيان بالوضوء الضرري بداعي استحبابه النفسي أو لغاية مستحبة و تحصل له الطهارة من الحدث و بعد حصولها لا مانع من الصلاة معها لحصول شرطها و هي الطهارة بلا حاجة

إلي الإعادة. و كذا الحال في الغسل الضرري. إلخ.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 288

و علي ما ذكرناه من عدم اقتضاء (لا ضرر) لفساد الوضوء و الغسل الضرري مطلقا لا يتجه ما قيل في توجيه قصور (لا ضرر) عن إثبات فسادهما في صورة الجهل كما ذكره جمع «1» من أن دليل (لا ضرر) وارد في مقام الامتنان علي الأمة الإسلامية، فلا يكون (لا ضرر) شاملا لمورد يكون نفي الحكم فيه منافيا للامتنان، و الحكم ببطلان الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل من هذا القبيل، فإن الأمر بالتيمم و إعادة العبادات الواقعة معها مخالف للامتنان. إذ لا حاجة إلي ذلك إلا علي سبيل التنزل عما ذكرناه. مع إمكان المناقشة في ورود الحديث في مقام الامتنان فتأمل.

البحث الثالث: في إن حرمة الإضرار بالنفس هل توجب الحكم بفساد الوضوء و الغسل
اشارة

المضرين في حال الجهل و العلم أو لا؟

و يلاحظ أولا: إنه لم تثبت حرمة الإضرار بالنفس مطلقا و إنما الثابت حرمته فيما يكون من قبيل هلاك النفس أو ما يلحق به كما أوضحنا ذلك في بحث الوضوء من شرح العروة و عليه فالكلام في هذا البحث فيما إذا كان الضرر اللازم من الوضوء و الغسل كذلك. و

لتوضيح المقام لا بد من إيضاح أمرين:
الأمر الأول: إن نسبة (الإضرار المحرم) إلي الوضوء و الغسل الضرري نسبة الأسباب و المسببات التوليدية
اشارة

كالإلقاء و الإحراق و الرمي و القتل و نحو ذلك.

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول ج 2: 545 و غيرها.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 289

و في متعلق الحرمة في الأسباب و المسببات التوليدية احتمالات ثلاثة
اشارة

كما تعرضنا له في مبحث مقدمة الحرام-

الاحتمال الأول: أن يكون مصب الحرمة إيجاد المسبب التوليدي

كالحرق و الضرر. و حيث إن وجود المسبب التوليدي مغاير مع وجود سببه كالإلقاء للإحراق و الوضوء للإضرار، فيكون إيجاده أيضا مغايرا معه لان الفرق بين الإيجاد و الوجود إنما هو بمجرد الاعتبار. و عليه فيكون المحرم مغايرا وجودا مع ما هو سبب له. لا يقال: إن الاحكام التكليفية تتعلق بأفعال المكلفين و المسبب التوليدي كالإحراق و الإضرار ليس بفعل للمكلف بل الإحراق أثر النار بشرط المماسة مع الجسم، و الضرر أثر الماء بشرط المماسة مع البدن. فإنه يقال: إن هذا أمر غالبي و ليس شرطا إذ يكفي في صحة تعلق الحكم التكليفي بأمر كونه مقدورا للمكلف مع الواسطة.

الاحتمال الثاني: أن يكون مصب الحرمة السبب التوليدي

و إنما أخذ العنوان المسبب عنه مرآة للسبب الذي يترتب عليه، فيكون الإلقاء و الوضوء بأنفسهما متعلقين للحرمة.

الاحتمال الثالث: أن يكون مصب الحرمة العنوان الثانوي المسمي بالمسبب التوليدي

مأخوذا علي نحو الموضوعية لكن مع عده من قبيل الاعتبارات المتأصلة، فإن تأصل الأمر الاعتباري كما يكون في الأحكام التكليفية و الوضعية فكذلك يتحقق في جملة من الماهيات التي هي من قبيل موضوعات الاحكام و متعلقاتها كالغصب. و الأظهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول كما بيناه في محله.

الأمر الثاني: في حكم الوضوء و الغسل حيث يترتب عليهما الضرر المحرم
اشارة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 290

و ذلك يختلف بحسب الاحتمالات السابقة في مصب الحرمة:
أما علي الاحتمال الأول: فيكون متعلق الحرمة أمرا لا اتحاد له بوجه معهما

، فإن كان مضرا بصحتهما فإنما هو من جهة الإخلال بقصد القربة المعتبرة فيهما، و هذا الإخلال لا يتصور في صورة الجهل بكونه مضرا علي نحو الجهل المركب أو الاطمئنان لعدمه أو الغفلة عنه أو نسيانه. و أما مع العلم به أو ما في حكمه ففيه جهتان: جهة ترتب أمر محبوب عليه و هو الطهارة. و جهة ترتب أمر مبغوض عليه و هو الإضرار المحرم، و لا يبعد تمشي قصد القربة إذا أتي بها بداعي التسبيب إلي الجهة الأولي.

و أما علي الاحتمال الثاني: فالمحرم يكون نفس الوضوء و الغسل فيدخل تحت عنوان النهي عن العبادة

فيحكم بالفساد علي المشهور لانه لا أثر للتقرب بما هو مبغوض ذاتا.

و أما علي الاحتمال الثالث: فإن قلنا بأن الوضوء و الغسل من قبيل موضوعات الاحكام

فقط فيلحق بالاحتمال الأول حكما، و علي القول بأنهما من قبيل متعلقات الاحكام يدخل في بحث اجتماع الأمر و النهي، فإن قلنا بالامتناع و تغليب جانب النهي فلا بد من الحكم بالفساد في صورة العلم و أما في صورة الجهل فمبني علي القول باقتضاء القول بالامتناع الفساد مطلقا، و المختار هو عدم الامتناع، و علي القول به فيفصل بين صورتي العلم و الجهل كما سبق في الاحتمال الأول.

التنبيه الخامس: في إنه هل يستفاد من (لا ضرر) جعل الحكم

اشارة

، إذا كان يلزم الضرر لولا وجوده كما يستفاد منه نفي الحكم إذا كان يلزم الضرر بوجوده أم لا؟. و علي التقدير الأول فهل هناك أمثلة فقهية تكون من هذا القبيل أم لا؟

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 291

و قد أنكر المحقق النائيني (قده) الكبري و الصغري معا «1» و أقر السيد الأستاذ (قده) بالكبري و لكنه أنكر الصغري قائلا: (بأن الصغري لهذه الكبري غير متحققة فإنا لم نجد موردا كان فيه عدم الحكم ضررا حتي يحكم برفعه و ثبوت الحكم بقاعدة لا ضرر) «2» و يظهر من بعض الفقهاء منهم السيد الطباطبائي في ملحقات العروة الالتزام بهما معا كما سيجي ء نقل كلامه. و

الكلام تارة في الكبري و أخري في الصغري

اشارة

، فهنا مقامان

أما في المقام الأول: فتقريب إنكار الكبري إن حديث (لا ضرر) ناظر إلي الأحكام المجعولة في الشريعة

المقدسة و مقيد لها بعدم أدائها إلي الضرر علي المكلف، و عدم الحكم ليس حكما مجعولا فلا يشمله الحديث. و ليس المدعي إنه لا يمكن جعل الحكم العدمي فإن الإباحة التكليفية حكم عدمي و ليس عدم الحكم بحسب الدقة لأنها تنشأ من قبل الشارع بعنوان إرخاء العنان بالنسبة إلي كل من الفعل و الترك للمكلف، و كذلك الحلية فإنها بمعني حل عقدة الحظر و مرجعها إلي هدم الحكم التحريمي المجعول، كما إنه ليس المدعي أنه لا يمكن إنشاء عدم الحكم بل هو أمر ممكن كما في الحكم بعدم اشتغال الذمة، و إنما المقصود إن مجرد عدم جعل الحكم في مورد قابل لا يمكن عده حكما حتي يكون مرفوعا بحديث (لا ضرر). و الجواب عن ذلك: إن ما ذكر من نظر الحديث إلي الأحكام المجعولة في الشريعة محل منع لان مفاد الحديث هو عدم التسبيب إلي تحمل الضرر أي نفي وجود ضرر منتسب إلي الشارع المقدس بما هو

______________________________

(1) تقريرات المحقق النائيني: 119 و ما بعده.

(2) لاحظ جامع الأحاديث. الباب 3.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 292

مشرع و مقنن و هذا المعني كما يصدق في موارد جعل الحكم الذي يلزم منه الضرر سواء كان وضعيا أو تكليفيا، و سواء كان إلزاميا أو غير إلزامي كالترخيص في الدخول لمن له حق الاستطراق بغير استئذان علي نحو يوجب ذهاب حق التعيش الحر بالنسبة إلي صاحب الدار، كما في قضية سمرة بن جندب فكذلك يصدق في حالة عدم جعل الحكم أحيانا فيعد نفس عدم جعل الحكم ممن بيده التشريع تسبيبا منه إلي الضرر. مثلا: إذا فرض أن الشارع منع الزوجة المعدمة من الاكتساب إذا كان

علي نحو ينافي حقوق زوجها و فرض عدم جعل وجوب الإنفاق عليها، فيعد نفس هذا تسبيبا منه إلي تضررها، أو سلب حق التعيش مع الكرامة بالنسبة إليها. و كذلك لو فرض أنه حرم إضرار بعض الناس ببعض تكليفا و لم يجعل حكما إجرائيا يخول للسلطة مكافحة الإضرار و المنع عنه خارجا. و الحاصل: إن عدم جعل الحكم المانع عن الضرر يعد تسبيبا منه إليه بعد فرض كمال الشريعة كما يدل عليه قوله تعالي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) «1» و يؤكده الروايات الدالة علي إنه ما من واقعة إلا و لها حكم «2» و قوله صلي الله عليه و آله (يا أيها الناس ما من شي ء يقربكم من الجنة و يباعدكم من النار إلا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم من النار و يباعدكم من الجنة إلا و قد نهيتكم عنه) «3» مضافا إلي سلب حق التشريع عن غير الله تعالي. و عليه فلا يقدح عدم صدق الحكم علي مجرد عدم جعل الحكم بعد صدق التسبيب إلي تحمل الضرر.

______________________________

(1) المائدة 5/ 3.

(2) جامع أحاديث الشيعة 1: 133 143/ 30 32.

(3) ورد ذلك في صحيحة أبي حمزة الثمالي المذكورة في الوسائل كتاب التجارة أبواب مقدماتها الباب 12 ج 17: 45/ 21939.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 293

بل يمكن أن يقال: بأن عدم الحكم في ذلك يعد حكما كما يعد عدم القيام لأحد الشخصين مع القيام للاخر مع تساويهما في الرتبة توهينا للأول، و كذلك يعد عدم التقييد في الموضع القابل له إطلاقا. و يلاحظ: أن هذه الكبري منتجة و إن أنكرنا وجود صغري لها، بمعني أنه لم يوجد هناك مورد يكون (لا

ضرر) فيه دليلا علي ثبوت الحكم و ذلك لأن نتيجة كون الكبري مثبتة للحكم هي عدم حكومتها أي (لا ضرر) علي أدلة حرمة الإضرار بالغير إذا كان عدم الإضرار بالغير ضررا علي المالك كما إذا تصرف المالك في ملكه بما أوجب الإضرار بجاره، لان مقتضاه علي هذا التقدير نفي كل من حرمة الإضرار بالغير و جواز التصرف في الملك لكون الاولي تسبيبا للضرر بالنسبة إلي المالك و الثاني تسبيبا للضرر بالنسبة إلي الجار فيتعارض (لا ضرر) فيهما و يسقط. و تصل النوبة إلي أدلة حرمة الإضرار بالغير فيحرم بمقتضاها تصرف المالك في ملكه بما يضر بجاره، فهذا مقدار من الإنتاج للكبري المذكورة، و لو لم تثبت هذه الكبري لكان (لا ضرر) نافيا لحرمة الإضرار بالغير دون جواز التصرف في الملك فتكون حاكمة علي أدلة حرمة الإضرار كما يأتي توضيح ذلك في التنبيه الاتي.

و أما في المقام الثاني: و هو وجود صغري لهذه الكبري
اشارة

فقد ذكر لها موردان

المورد الأول: الحكم بضمان التالف في غير الموارد التي يكون هناك سبب للضمان فيها

، كالإتلاف و اليد العادية فإن دليل الضمان فيها نفس أدلته دون قاعدة (لا ضرر). و قد عد «1» من موارد انحصار الدليل للضمان

______________________________

(1) لاحظ تقريرات المحقق النائيني: 220 و 221.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 294

بقاعدة (لا ضرر) ما إذا حبس الإنسان حتي فات عمله، أو حبسه حتي أبق عبده أو فتح شخص قفص طائر فطار، بدعوي إنه لولا الحكم بالضمان في مثل ذلك للزم الضرر علي الشخص. و قد أنكر المحقق النائيني الحكم بالضمان فيها معللا بعدم دلالة (لا ضرر) عليه فإن دلالته عليه تبتني علي القول بأن المستفاد منه نفي الضرر غير المتدارك فيدل علي الحكم بتدارك الضرر الواقع إما من قبل من سبب إليه إن كان هناك إنسان صار سببا لوقوع الضرر أو من بيت المال إن لم يكن كذلك «1» و يظهر من السيد الأستاذ (قده) موافقته معه في ذلك «2». لكن الظاهر إنه لا وجه لإنكار الضمان في ذلك فإن ثبوته لا يبتني علي مسلك الفاضل التوني في مفاد الحديث من نفي الضرر غير المتدارك الذي قد سبق إبطاله بل يكفي فيه نفس ما دل علي قاعدة الإتلاف لاندراجه تحتها، فإن حبس الحر إذا كان كسوبا يكون كحبس العبد و الدابة و نحوهما، تفويتا لمنافعه المقدر وجودها لدي العقلاء فيكون ضامنا لعمله، كما إن حبس الإنسان إذا أدي إلي أن تشرد دابته أو يأبق غلامه أو يسيل الماء المفتوح لجهة مما يوجب خراب الدار و البستان، أو يحترق ما في القدر أو ما في الدار بنار كان قد أشعلها تحت القدر و كان قادرا عليها كل ذلك و نحوه يكون إتلافا للمال عقلاء.

و لا حاجة إلي قاعدة (لا ضرر) في ذلك بل يفي بجعل الضمان قاعدة (لا ضرار) بالمعني الوسيع الذي ذكرناه الذي هو إمضاء للقاعدة العقلائية لأنها تستبطن تشريع أحكام رادعة عن تحقيق الإضرار بالنسبة إلي الغير، فالحكم بالضمان علي من أضر، من أوضح أسباب الردع عن الإضرار

______________________________

(1) لاحظ المصدر السابق.

(2) لاحظ مصباح الأصول 2: 560.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 295

الصادر من الحابس و نحوه و بذلك يتضح إنه لا يرد علي إثبات الضمان بقاعدة (لا ضرر) في المقام ما ذكره السيد الأستاذ (قده) من إن الضرر اللازم علي المتضرر المقتضي لجعل الضمان معارض بالضرر المترتب علي الحكم بالضمان علي الحابس «1» لان (لا ضرر) من جهة مقابلته ب (لا ضرار) لا إطلاق لها بالنسبة إلي نفي الضرر الذي يشرعه القانون من باب مكافحة الإضرار كما سبق توضيحه في التنبيه الثاني.

المورد الثاني: إثبات حق الطلاق للحاكم الشرعي بقاعدة (لا ضرر) و (لا حرج)
اشارة

فيما إذا صارت الزوجة محرومة عن حقوق الزوجية خارجا، مع مطالبتها لها و عدم طريق لاستيفائها، بأن لم يمكن إجبار الزوج علي الوفاء بها و لو بتعزيره إن تخلف عن أدائها و ذلك كما لو كان الزوج مفقودا أو غائبا و لم يكن طريق لاجبار الزوج علي طلاقها. فيقال حينئذ بأن لها أن تطالب الحاكم الشرعي بأن يطلقها و علي الحاكم الاستجابة لطلبها و طلاقه نافذ. و عمدة النظر في المقام إلي خصوص حق الإنفاق. و قد التزم بحق طلاق الحاكم في الموضوع السيد الطباطبائي في ملحقات العروة تمسكا بقاعدتي (لا ضرر) و (لا حرج) مضافا إلي الروايات الخاصة. و قد ناقش المحقق النائيني في التمسك بهما فإنهما لا يثبتان حكما وجوديا كما ناقش في الروايات التي استدل بها بأنها غير معمول

بها و هي معارضة بغيرها و سيجي ء تفصيل ذلك كما استبعد كلامه جمع آخر من المتأخرين. و نحن نجعل محل الكلام بعض فروض المسألة و هو ما لو امتنع الزوج

______________________________

(1) المصدر السابق: 561.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 296

عن أداء النفقة لزوجته، و نبحث. تارة: في إنه هل يمكن الحكم بثبوت حق الفسخ للزوجة بملاحظة طبيعة عقد النكاح في نفسه؟ و أخري: في ثبوت حق الفسخ أو الطلاق للحاكم بملاحظة (لا ضرر، و لا ضرار). و ثالثة: في ثبوت ذلك بملاحظة الأدلة الخاصة،

فهنا أبحاث ثلاثة:
البحث الأول: في إنه هل يثبت حق الفسخ للزوجة عند عدم إنفاق الزوج عليها بمقتضي تخلف الشرط الارتكازي الضمني
اشارة

كما ذكره جمع في وجه ثبوت خيار الغبن أم لا؟ و تقريب ثبوته: إن ما تنشئه المرأة في عقد النكاح و إن كان هو الزوجية الدائمة إلا إنها مقيدة بسبب الشرط الارتكازي، بأن يبذل لها الزوج النفقة بحدودها الشرعية، و ليس للمنشإ إطلاق بالنسبة إلي الزوجية بعد فسخها من ناحية إخلال الزوج بالنفقة. فإن الزوجية المنشأة بحسب طبعها إحداث علقة خاصة بين الرجل و المرأة، حقيقتها المشاركة في الحياة علي نحو خاص يشتمل علي نحو قيمومة للزوج بالنسبة إلي الزوجة و تكفل مئونتها اللازمة مضافا إلي الاستمتاع الجنسي قال الله تعالي (الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَي النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَليٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ). و قد جاء في تفسير القرطبي «1» إنه فهم العلماء من هذه الآية إنه متي عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها و إذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المقصود الذي لأجله شرع النكاح. ثم نقل قول الشافعي و مالك بذلك و مخالفة أبي حنيفة. و قد ورد في رواية ضعيفة عن سفيان بن عيينة عن

______________________________

(1) القرطبي 5: 169.

قاعدة لا

ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 297

أبي عبد الله عليه السلام في حديث إنه قال (فالرجل ليست له علي نفسه ولاية إذا لم يكن له مال و ليس له علي عياله أمر و لا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة) «1». و ليس المقصود الاستدلال بالآية و الرواية، بل المقصود إن المرتكز الذهني للزوجة إنشاء الزوجية الدائمة بشرطها و شروطها و النفقة منها.

و يمكن الإيراد عليه مع غض النظر عن مخالفة الروايات الاتية لثبوت خيار الفسخ للزوجة
اشارة

في صورة الإخلال بالنفقة بوجهين يمكن دفعهما

الوجه الأول: إن بين البيع و النكاح فرقا

، فإن قوام البيع بالمالين و قوام النكاح بالشخصين حتي أن المهر ليس من أركانه، و لذا لو أخل به يصح العقد و يثبت مهر المثل ففي البيع حيث إن النظر إلي المالين فيقتضي بحسب الشرط الارتكازي العقلائي عدم نقصان ما انتقل إليه عما انتقل عنه بحسب المالية فيكون منشأ لخيار الغبن كما يقتضي عدم كونهما معيبين فيكون منشأ لخيار العيب و هكذا بالنسبة إلي سائر الشؤون الراجعة إلي المالين. و يمكن ادعاء مثل هذا الشرط الارتكازي في ما يرجع إلي الزوجين في النكاح، بالنسبة إلي فقدان العيوب التي تختل بها الحياة الزوجية، و قد حددها الشارع بعيوب خاصة، و كذا يأتي فيها خيار التدليس فيما يتعلق بذلك. و أما ما لا يرجع إلي وصف الزوجين بل كان من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، كوجوب إنفاق الزوج علي الزوجة فلا يمكن عده من الشروط الارتكازية العقلائية.

______________________________

(1) كتاب الكافي الأصول كتاب الحجة الباب 103 (باب ما يجب من حق الامام علي الرعية.) 1: 335 و 336/ 6.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 298

كيف و في بعض المجتمعات البدوية يشترك الزوجان في تحصيل النفقة كما هو الغالب في أهل الريف الذين يكون شغلهم الزراعة و الفلاحة و تربية المواشي، و كذا في بعض المجتمعات المتحضرة كما يقال التي يكون لكل من الزوجين فيها شغل كالطبابة و التعليم و نحوهما. بل نقل عن بعض المجتمعات البدوية إن الزوجة هي التي تتكفل النفقة. و علي هذا فلا يمكن عد الإنفاق من الشروط الارتكازية للنكاح.

الوجه الثاني: إن الشرط الارتكازي إنما يؤثر في تحقق الخيار عند التخلف

في صورة نفوذه عند التصريح به فإن مرجع اشتراط الإنفاق علي النحو الذي يقتضيه هذا التقريب هو جعل الخيار عند التخلف، و مقتضي

ما عللوا به عدم صحة شرط الخيار في النكاح عدم صحة جعل الخيار و لو بتخلف الوصف أو الشرط إلا ما دل عليه النص قال الشيخ الأنصاري (في بحث خيار الشرط بعد ذكر عدم دخوله في النكاح اتفاقا) «1». و لعله لتوقف ارتفاعه شرعا علي الطلاق و عدم مشروعية التعامل فيه. و قد يحكم ببطلان أصل النكاح الذي جعل فيه شرط الخيار، و قد علل ذلك السيد الأستاذ (قده) بأن شرط الخيار يرجع إلي تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة، و هو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل إلي أجل معلوم، و هذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة فإنها بحسب الارتكاز العرفي لا ترجع في خصوص النكاح إلي جعل الخيار علي تقدير التخلف، و إنما ترجع إلي تعليق الالتزام بترتب الآثار علي وجود الشرط و فسادها لا يسري إلي العقد «2».

______________________________

(1) لاحظ المكاسب: 233.

(2) العروة الوثقي مع تعليقة الخوئي (ره) 2: 638 مسألة 3855.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 299

و يمكن الجواب عن الوجه الأول: بأنه لا يعتبر في تأثير الشرط الارتكازي أن يكون شرطا ارتكازيا لدي جميع المجتمعات

و الملل و النحل، و لا إشكال في أن الإنفاق كان أمرا ملحوظا في عقد النكاح في المجتمع الإسلامي و المجتمع العربي قبل الإسلام، بل قد اختلف فقهاء الخاصة و العامة في كون اليسار من الأمور الدخيلة في الكفاءة و عدمه علي قولين مشهورين «1» و سوف يظهر ارتكازية هذا الشرط مما يأتي في جواب الوجه الثاني.

و عن الوجه الثاني: بأنه لا إجماع علي عدم ثبوت خيار تخلف الوصف و الشرط في النكاح

و إنما قام الإجماع علي عدم صحة اشتراط الخيار فيه، كيف و قد التزم بثبوت خيار الفسخ للزوجة عند الإعسار أو انكشافه جمع من فقهاء الفريقين، و لذلك لو قدر قيام الإجماع المذكور أيضا فلا ينبغي الشك في عدم شموله للمقام. أما فقهاؤنا فقال المحقق في الشرائع: لو تجدد عجز الزوج عن النفقة هل تتسلط الزوجة علي الفسخ فيه روايتان أشهرهما إنه ليس لها ذلك، و عقبه في الجواهر «2» بقوله (لا بنفسه و لا بالحاكم و في المسالك إنه المشهور). و نقل العلامة في المختلف «3» في بحث اعتبار اليسار في الكفاءة عن ابن إدريس إنه قال: (و الأولي أن يقال إن اليسار ليس بشرط في صحة العقد، و إنما للمرأة الخيار إذا لم يكن موسرا بنفقتها و ليس العقد باطلا بل الخيار لها.) ثم

______________________________

(1) لاحظ اختلاف فقهائنا في الجواهر 30: 103 و الحدائق ط الاولي 6: 144. و اختلاف فقهاء العامة في المغني لابن قدامة 7: 376 و 377 و الخلاف للشيخ الطوسي 4: 271 و 272.

(2) الشرائع 2: 300، جواهر الكلام 30: 105.

(3) كتاب النكاح: 576.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 300

قال العلامة (و هو الوجه عندي. و أما اعتبار اليسار فلو نكحت المرأة ابتداء لفقير عالمة بذلك صح نكاحها إجماعا و لو

كانت الكفاءة شرطا لم يصح) إلي أن قال- (نعم أثبتنا لها الخيار دفعا للضرر عنها و دفعا للمشقة اللاحقة بها بسبب احتياجها مع فقره إلي مئونة يعجز عنها، و لا يمكنها التزوج بغيره، فلو لم يجعل لها الخيار كان ذلك من أعظم الضرر عليها و هو منفي إجماعا). و ذكر في مسألة الإعسار المتأخر «1» بعد نقل قول المشهور من عدم خيار للزوجة في الفسخ- (قال ابن الجنيد بالخيار لرواية عن الصادق و لاشتماله علي الضرر إذ لا يمكنها الإنفاق فلو لم يجعل لها الخيار لزم الحرج المنفي بالإجماع) و قد توقف العلامة نفسه في هذه المسألة و قد نقل في الحدائق «2» إن السيد السند في شرح النافع مال إلي قول ابن الجنيد من ثبوت حق الفسخ كما نقل عن ظاهر المسالك التوقف. و الغرض: إنه لا إجماع في المقام بين الخاصة علي عدم الخيار للزوجة. و أما العامة ففي المغني لابن قدامة «3» (إن الرجل إذا منع امرأته النفقة لعسرته و عدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه و بين فراقه، و روي نحو ذلك عن عمر و علي و أبي هريرة و به قال سعيد بن المسيب و الحسن، و عمر ابن عبد العزيز و ربيعة و حماد، و مالك، و يحيي القطان، و عبد الرحمن بن مهدي، و الشافعي، لإسحاق، و أبو عبيد، و أبو ثور، و ذهب عطاء و الزهري، و ابن شبرمة، و أبو حنيفة، و صاحباه إلي إنها لا تملك فراقه بذلك و لكن يرفع يده عنها لتكتسب.).

______________________________

(1) المصدر السابق 582.

(2) الحدائق 24: 77 78.

(3) المغني 9: 244.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 301

و في

نيل الأوطار «1»: (إن الزوج إذا أعسر عن نفقة امرأته و اختارت فراقه فرق بينهما و إليه ذهب جمهور العلماء علي ما حكاه في فتح الباري، و حكاه صاحب البحر عن الامام علي عليه السلام، و عمر، و أبي هريرة، و الحسن البصري، و سعيد بن المسيب، و حماد و ربيعة، و مالك، و أحمد بن حنبل، و الشافعي، و الإمام يحيي، و حكي صاحب الفتح عن الكوفيين أنه يلزم المرأة الصبر و حكاه في البحر عن عطاء، و الزهري، و الثوري، و القاسمية، و أبي حنيفة و أصحابه و أحد قولي الشافعي). و تعرض لنقل أقوال الصحابة و التابعين و فقهاء العامة ابن حزم أيضا في كتاب المحلي «2» ثم إن القائلين بهذا القول اختلفوا في إنه هل للزوجة طلب الفسخ أو الطلاق أو هي مخيرة بينهما؟ ففي نيل الأوطار «3» نقل للعامة في ذلك أقوالا ثلاثة و في المغني «4» (كل موضع يثبت لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز إلا بحكم الحاكم. فإذا فرق بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه و بهذا قال الشافعي و ابن المنذر، و قال مالك: هو تطليقة و هو أحق بها إن أيسر في عدتها.). فظهر بذلك إنه لا إجماع هناك في عدم خيار تخلف الشرط الضمني الارتكازي و الصريح في عقد النكاح، لكنه مخالف للروايات الاتية، و مع ذلك يمكن القول بأن الشرط المرتكز هو أن يكون الخيار لها بالرجوع إلي الحاكم و فسخه، و إن لم يتيسر فبنفس الزوج، فلا مخالفة لمفاد الروايات

______________________________

(1) نيل الأوطار 7: 133 134.

(2) ج 10/ 94 95.

(3) نيل الأوطار 7: 135.

(4) المغني 9: 248 249.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار

(للسيستاني)، ص: 302

المشار إليها. و علي تقدير منع ذلك، فالوجه في عدم إلحاق النكاح عند الإعسار بخيار الغبن في استحقاق الفسخ إنما هو الروايات الواردة في الموضوع.

البحث الثاني: في إنه هل يثبت حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة (لا ضرر و لا ضرار)؟
اشارة

أما (قاعدة لا ضرر) فلإثبات ذلك بها تقريبان

التقريب الأول: ما يماثل التقريب الذي يذكر لإثبات خيار الغبن في صورة عدم اقدام المغبون علي الضرر

و هو أن يقال: إن حكم الشارع باستمرار الزوجية حتي بعد فسخ الزوجة لها من جهة حرمانها من حقها المعبر عن هذا الحكم باللزوم ضرر علي الزوجة فهو منفي. و علي هذا التقريب يكون التمسك ب (لا ضرر) تمسكا به لنفي الحكم لا لإثباته، كما إنه إنما يتجه في فرض إنكار ارتكازية الشرط أو تأثير الشرط الارتكازي و نحو ذلك كما يظهر مما سبق في التنبيه السابق. و قد يعترض علي هذا التقريب بما عن شيخنا الحلي (قده) من إن الضرر المتوجه علي الزوجة في حال عدم قيام الزوج بحقوقها ليس مسببا توليديا عن نفس لزوم النكاح لينتفي بالحديث المذكور إذ من المعلوم إن اختيار الزوج دخيل في البين «1». و هذا الاعتراض مبني علي ما ذهب إليه (قده) وفاقا لشيخه المحقق النائيني من أن الضرر المنفي عنوان توليدي لنفس الحكم الشرعي، كالاضرار فيكون الحكم الشرعي منفيا حيث ينطبق عليه الإضرار. و قد مرت مناقشة هذا المبني في محله و ذكرنا إن الصحيح في تخريج ما ذهب إليه

______________________________

(1) بحوث فقهية: 207.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 303

المشهور من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري هو إن مفاده نفي التسبيب الشرعي إلي تحمل ضرر من الغير. و علي هذا فيمكن التمسك به في المقام حيث يفرض سقوط الحكم بالإنفاق لعدم قدرة الزوج أو ثبوته في حقه مع عدم عمله علي وفقه و لو إجبارا، إذ يصدق علي جعل لزوم الزوجية و بقائها أنه تسبيب إلي الضرر من قبل الشارع فينتفي بلا ضرر. و بذلك يظهر إن هذا التقريب أيضا تام لولا دلالة الروايات علي خلافه، حيث إنها

تدل علي إن إزالة الطلاق لا بد أن يكون صادرا عن الولي الإجباري و هو الحاكم.

التقريب الثاني: إنه يلزم من عدم جعل سلطنة لغير الزوج علي الطلاق

و إزالة عقد الزوجية تسبيب الشارع إلي ضرر الزوجة، فيستكشف من (لا ضرر) وجود هذا الحق للحاكم. و علي هذا التقريب يكون التمسك ب (لا ضرر) استدلالا به في إثبات وجود حكم شرعي. و عليه يبتني تمسك السيد الطباطبائي بهذه القاعدة و ب (لا حرج) لهذا المدعي. بل علي هذا الأساس يبتني تمسك العلامة ب (لا ضرر) في إثبات حق الفسخ للزوجة، و كذا استدلال ابن الجنيد ب (لا حرج) لهذا المدعي فإنه ليس نظرهم إلي دفع اللزوم. بل و كذا تمسك الشيخ و العلامة و غيرهما ب (لا ضرر) لإثبات خيار الغبن الذي هو من الحقوق القابلة للإرث. و يلاحظ: إن بين رفع الحكم ب (لا ضرر) و ثباته به فرقا، فإن الأمر في الأول واضح لان المفروض تعين الحكم الموجب للضرر و هو ما يتوهم بسبب عموم أو إطلاق أو غيرهما. و لكنه ليس كذلك في الثاني لأن الحكم الذي يراد استكشافه لا يكون متعينا غالبا لإمكان رفع الضرر بجعل عدة

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 304

أحكام، كما أشار إلي ذلك الشيخ الأنصاري (قده) في خيار الغبن فلا يمكن استكشاف حكم معين منها إلا بمئونة زائدة. ففي المقام يدور الأمر بين أن يكون الحكم المجعول لرفع الضرر عن الزوجة هو ثبوت حق الطلاق للحاكم عند وجود الشرائط التي منها مطالبة الزوجة بالطلاق، و بين أن يكون ثبوت هذا الحق لنفس الزوجة و بين ثبوت حق الفسخ لأحدهما. و بين الطلاق و الفسخ فرق فإنه علي تقدير الطلاق قد يكون الطلاق رجعيا فيكون للزوج الرجوع في

أثناء العدة إذا تمكن من الإنفاق و هذا بخلاف الفسخ. و تعين أحد هذه الأحكام بحاجة إلي مزيد بيان. و يمكن تقريب ثبوت حق الطلاق بأن المستفاد من الأدلة العامة هو إن وظيفة الزوج أحد الأمرين إما إمساك بالمعروف أو تسريح بإحسان، و يشهد له بالخصوص معتبرة جميل، عن أصحابنا، أو عن عنبسة بن مصعب، و سورة بن كليب، عن أحدهما قال: إذا كساها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها أقامت معه و إلا طلقها) «1». و إذا امتنع الزوج من الطلاق و لو بمراجعة الحاكم الشرعي يكون الحاكم هو المتصدي للطلاق لأنه ولي الممتنع. و يشهد لذلك ما ورد في المفقود من إنه يطلقها الولي و لو بإجباره علي ذلك، و إن لم يكن لها ولي طلقها السلطان «2» و كذلك ما ورد في إن حق

______________________________

(1) لاحظ الوسائل كتاب النكاح. أبواب النفقات الباب 1 الحديث 4 ج 21/ 510 و لاحظ أن الكافي الموجود عندنا يختلف مع ما نقله الشيخ عنه في سند الرواية لكن لا يسع المقام بيان ذلك (منه).

(2) لاحظ المصدر السابق. كتاب الطلاق. أبواب أقسام الطلاق و أحكامه. الباب 23 الحديث 5 ج 22/ 158.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 305

الطلاق لا يكون بيد الزوجة مطلقا و لو بجعل الزوج، ففي معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام إنه قضي في رجل تزوج امرأة و أصدقته هي و اشترطت عليه أن بيدها الجماع و الطلاق. قال: خالفت السنة و وليت حقا ليست بأهله، فقضي أن عليه الصداق و بيده الجماع و الطلاق و ذلك السنة «1». فمن ذلك و غيره يعلم إن الحكم بعدم كون

الطلاق بيد الزوجة ليس من باب اللااقتضائيّ اقتضاء، بل من باب اقتضاء العدم. هذا ما يتعلق بإثبات حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة (لا ضرر). و أما إثبات حق الطلاق للحاكم بقاعدة لإضرار فيختص بالزوج الذي يكون مضارا قال تعالي (وَ لٰا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا) «2» و وجه استفادته منها: ما سبق في شرح مقطع (لإضرار) من إنه يستفاد منه إن للحاكم الشرعي الحق في المنع عن الإضرار حدوثا و بقاء بأنسب و أخف الوسائل الممكنة، و هو في المقام بعد سلسلة من الاجراءات طلاق الزوجة، فيكون حكم طلاق الزوجة حكم نخلة سمرة بن جندب التي أمر النبي صلي الله عليه و آله بقلعها، و علي هذا فتثبت للحاكم هذه السلطة لأنها من شؤون الولاية التنفيذية، و قد أشير إلي هذا التقريب فيما عن شيخنا الحلي (قده) «3».

البحث الثالث: في حكم المسألة علي ضوء الروايات الواردة في المقام

، و هي روايات عديدة: فمنها: ما رواه الصدوق، عن ربعي بن عبد الله، و الفضيل بن يسار،

______________________________

(1) لاحظ الوسائل كتاب النكاح. أبواب المهور. الباب 29 الحديث 1 ج 21/ 289.

(2) البقرة 2/ 231.

(3) بحوث فقهية: 209 210.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 306

جميعا، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالي (وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ) «1» قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة و إلا فرق بينهما. و للصدوق سند صحيح إلي كل منهما في المشيخة. و قد رواه الشيخ بسند فيه محمد بن سنان، عنهما إلا إنه قال (ما يقيم صلبها) «2». و منها: ما رواه الصدوق بسنده المعتبر عن عاصم بن حميد عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

(من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا علي الامام أن يفرق بينهما). و منها: ما نقله في الكافي بسند مخدوش عن روح بن عبد الرحيم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قوله عز و جل (وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اللّٰهُ) قال: (إذا أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة و إلا فرق بينهما). و الظاهر إن كلا من الصدوق و الكليني يفتون بذلك كما أفتي به بعض آخر من فقهائنا، فقد ذكر في الحدائق «3» في عداد أقوال علمائنا إنه (قيل بأن الحاكم يبينها و هذا القول نقله السيد السند في شرح النافع قال: نقل المحقق الشيخ فخر الدين عن المصنف إنه نقل عن بعض علمائنا قولا بأن الحاكم يبينها). و يظهر من كلام المحقق النائيني المناقشة في الاستدلال بها بوجهين:

______________________________

(1) الطلاق 65/ 7.

(2) لاحظ الوسائل. كتاب النكاح أبواب النفقات الباب 10 الحديث 1 ج 21/ 509.

(3) ج 6 ص 141 ط الحجر.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 307

الأول: إنها غير معمول بها «1» و ذلك لان قدماءنا بين من قال بلزوم صبرها و بين من قال بأن لها فسخ العقد كابن الجنيد. لكن قد ظهر مما ذكرنا إنه لا وجه لدعوي الاعراض عنها، بل توقف من توقف في الموضوع قد يكون لعدم الاطلاع علي صحة سند ما صح منها كما أشار إليه صاحب الحدائق «2». الثاني: معارضتها بمثل النبوي (تصبر امرأة المفقود حتي يأتيها يقين بموته أو طلاقه) و العلوي (هذه امرأة ابتليت فلتصبر) و نحو ذلك «3». و لعله يشير بنحو ذلك إلي ما رواه الشيخ عن

محمد بن علي بن محبوب، عن بنان بن محمد، عن أبيه، عن ابن المغيرة، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام إن عليا عليه السلام قال في المفقود: لا تتزوج امرأته حتي يبلغها موته أو طلاقه أو لحوقه بأهل الشرك) «4». لكن لا يمكن الاعتماد علي شي ء من الاخبار الثلاثة: (إما رواية السكوني) فلان في سندها بنان بن محمد و هو عبد الله بن محمد بن عيسي

______________________________

(1) تقريرات المحقق النائيني: 221، و من الغريب ما أورده السيد الأستاذ علي ذلك من أن الروايات الإمرة بالصبر واردة فيما إذا امتنع الزوج من الموافقة (لاحظ مصباح الأصول 2: 561) فإن نظر المحقق النائيني إلي النبوي و العلوي الآتيين و هما واردان في المفقود و لا يرتبطان بمن امتنع عن الموافقة.

(2) تقريرات المحقق النائيني: 221، و من الغريب ما أورده السيد الأستاذ علي ذلك من أن الروايات الإمرة بالصبر واردة فيما إذا امتنع الزوج من الموافقة (لاحظ مصباح الأصول 2: 561) فإن نظر المحقق النائيني إلي النبوي و العلوي الآتيين و هما واردان في المفقود و لا يرتبطان بمن امتنع عن الموافقة.

(3) قال في ج 6/ 141 ط الحجر و ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف أيضا حيث اقتصر علي نقله الأقوال و أدلتها و لم يرجح شيئا في البين إلا أن الظاهر إنه لم يقف علي صحة الخبرين اللذين قدمناهما دليلا لابن الجنيد فإنه إنما نقل رواية ربعي و الفضيل عارية عن وصفها بالصحة و الظاهر أنه أخذها من التهذيب فإنها فيه ضعيفة و إلا فهي في الفقيه صحيحة و أما صحيحة أبي بصير فلم يتعرض لها و الظاهر إنه لو وقف علي صحة هاتين

الروايتين لما عدل عنهما بناء علي عادته و طريقته كما علمته من سبطه في شرح النافع.

(4) الوسائل 22/ 157 158/ 28266.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 308

الأشعري و لم تثبت وثاقته «1».

و أما الأولان: فلم يتعرض لهما إلا الشهيد الثاني حيث قال: (لو تعذر البحث عنه من الحاكم إما لعدمه أو لقصور يده تعين عليها الصبر إلي أن يحكم بموته شرعا، أو يظهر حاله بوجه من الوجوه لأصالة بقاء الزوجية، و عليه يحمل ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله. و عن علي عليه السلام. و من العامة من أوجب ذلك مطلقا عملا بهاتين الروايتين) «2» و قد ذكر السيد الطباطبائي في مقام الجواب عن هذه الروايات الثلاث إنه لا عامل بها مع إن الأولين عاميان «3». و الظاهر إنه لا اعتبار لهما سندا حتي عند العامة و إن كانا موافقين لفتاوي أهل الرأي و بعض الظاهرية كما تقدم.

أما النبوي: ففي المغني لابن قدامة «4» متعرضا للاستدلال به (فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلي الله عليه و آله فلم يثبت و لم يذكره أصحاب السنن).

و أما العلوي: ففيه أيضا بعد ذكر نقله عن الحكم، و حماد، عن علي (و ما رووه عن علي فيرويه الحكم و حماد مرسلا و المسند عنه مثل قولنا)

______________________________

(1) نعم في موثقة سماعة قال سألته عن المفقود فقال إن علمت أنه في أرض فهي منتظرة له أبدا حتي يأتيها موته أو يأتيها طلاق. (الوسائل ج 20 ص 506 حديث 26214) و لكن موردها خصوص المفقود الذي يعلم حياته و لا مانع من العمل بها في موردها و جعلها مخصصة لتلكم الروايات و الحكم بلزوم الصبر علي

المرأة و إن لم يكن للمفقود مال ينفق عليها منه و لا ولي ينفق عليها من مال نفسه.

(2) لاحظ الجواهر ط الحديث 32 ص 290.

(3) ملحقات العروة ص 270.

(4) ج 9 ص 135.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 309

و غرضه بالمسند عنه ما ذكره من إنه قد روي الجوزجاني و غيره بإسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها، و تعتد بعد ذلك أربعة أشهر و عشرا فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق و بين امرأته. و قال الزيلعي «1»: (قلت رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق: أخبرنا محمد بن عبيد الله العرزمي عن الحكم بن عتيبة: إن عليا قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت فلتصبر حتي يأتيها موت أو طلاق انتهي. أخبرنا معمر عن ابن أبي ليلي عن الحكم: إن عليا قال مثل ما سبق. أخبرنا ابن جريح قال: بلغني إن ابن مسعود وافق عليا علي إنها تنتظره أبدا. انتهي. و نقل المحدث النوري في المستدرك «2» عن ابن شهرآشوب في المناقب (و روي أن الصحابة اختلفوا في امرأة المفقود فذكروا إن عليا عليه السلام حكم بأنها لا تتزوج حتي يجي ء موته و قال: هي امرأة ابتليت فلتصبر. و قال عمر: تتربص أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص أربعة أشهر و عشرا. ثم رجع إلي قول علي). و علي أي حال فلا حجية للنبوي و لا للعلوي. فظهر أن الصحيح هو الاعتماد علي ما يدل علي إن الحاكم يفرق بينهما، و الظاهر أنه علي نحو الطلاق، و لا فرق بين كونه موسرا أو معسرا، خلافا لصاحب الحدائق حيث فصل

بينهما فحمل هذه الروايات علي الموسر و وافقه بعض المتأخرين.

______________________________

(1) نصب الراية ج 3 ص 473.

(2) المستدرك للنوري 15: 337/ 18430.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 310

التنبيه السادس: في تعارض الضررين:

اشارة

و لذلك صور عديدة تعرض لها بعض الأصوليين في المقام و نحن نتعرض لتحقيقها تبعا رغم عدم ارتباط بعضها بهذه القاعدة، و هي ترجع إلي صور أصلية ثلاث

الصورة الأولي: ما إذا دار أمر شخص بين ضررين بالنسبة إليه

اشارة

بحيث لا بد له من الوقوع في أحدهما، و منشأ حدوث هذه الحالة أحد عوامل ثلاثة لانه إما أن يكون بفعل نفس المتضرر أو بعامل طبيعي أو بفعل شخص آخر و الفروض الثلاثة تختلف بعض الشي ء في حكم المسألة علي ما سيتضح خلال تحقيقها و يتصور جميعها فيما إذا وقع شخص من السطح و دار أمره بين أن يقع علي أحد شيئين يستوجب تلفه، أو أدخل شخص رأس بعيره في قدر ثم تعذر إخراجه إلا بتلف أحدهما. و لهذه الصور كما ذكر فروع ثلاثة:

الفرع الأول: أن يدور الأمر بين ضررين مباحين

. و الحكم التكليفي في هذه الحالة واضح إذ المفروض إباحة ارتكاب كل من الضررين تكليفا فيبقي كل منهما علي إباحته بلا إشكال فنتيجة ذلك تخير المكلف عقلائي ارتكاب أيهما شاء. و أما الحكم الوضعي و هو الضمان فلا معني لتحققه فيما كان العامل في هذا الاضطرار نفس المكلف أو جهة طبيعية و أما إذا كان العامل شخصا آخر فإذا كان الضرران متساويين، أو كانا مختلفين و لكن ارتكب المضطر أخفهما فإنه لا إشكال في ضمان الغير لما ارتكبه المضطر بخصوصه لان وقوعه في ذلك يستند إلي الغير، و موضوع الضمان أعم من تحقق الضرر مباشرة أو تسبيبا. و أما إذا كان الضرران مختلفين و ارتكب المضطر أشدهما فهاهنا وجوه:

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 311

الأول: أن يضمن الضرر الأشد نظرا إلي إن الغير قد سبب إلي الضرر حسب الفرض و الضرر الواقع إنما هو الضرر الأشد دون الأخف ليكون ضامنا له، فيكون ضامنا له لما وقع لا محالة.

الثاني: أن يضمن الجامع بين الضررين، نظرا إلي إن الغير إنما سبب إلي وقوع المضطر في أحدهما، و إنما كان وقوعه

في الأشد باختيار منه لا بتسبيب من الغير فيكون ضامنا إياه.

الثالث: أن يقال إنه إذا كان المضطر عالما بأشدية أحد الضررين من الأخر، أو احتمله احتمالا معتدا به عقلاء فإنه لا يضمنه الغير أصلا، و أما إذا كان جاهلا بأشدية أحد الضررين أو احتمله احتمالا ضعيفا لا يجب الاعتناء به عقلاء، فإن حكمه حكم صورة التساوي و يكون الغير ضامنا لما ارتكبه المضطر منهما. و هذا الوجه هو الصحيح و ذلك لان ما سبب إليه الغير أولا و بالذات إنما هو أحد الضررين، و لكن هذا العنوان الانتزاعي إنما ينطبق عقلاء علي خصوص الأخف فيما إذا كان المضطر عالما بأشدية أحد الضررين، أو محتملا لها احتمالا معتدا به، فلا يكون ارتكاب الأشد مستندا إلي تسبيب الغير في هذه الحالة لكي يكون ضامنا له، و هذا بخلاف ما إذا كان جاهلا بها أو محتملا لها احتمالا ضعيفا فإن العنوان الانتزاعي في هذه الحالة ينطبق علي ما ارتكبه المضطر منهما كما في حالة تساوي المحتملين فيكون ضامنا لذلك. و توضيح هذا المعني بحاجة إلي الرجوع إلي كيفية تطبيق الحكم بالضمان في مورد التسبيب إلي أحد الضررين، لكي يتضح تخريج هذا الوجه في ضوء ذلك فنقول: إن التسبيب إلي أحد الضررين لا يستوجب الضمان بهذا العنوان لان عنوان الأحد عنوان انتزاعي جامع بين الضررين،

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 312

و الحكم بالضمان في كل ضرر إنما يقتضي ثبوت الضمان بالنسبة إلي كل ضرر ضرر معينا لا الأصل الجامع بين ضررين أو أكثر لأن العام ينحل بحسب الأفراد المعينة دون المنتزعة، و لا سبيل إلي الالتزام بثبوت الضمان بالنسبة إلي كلا الضررين كما هو واضح، و لا

بالنسبة إلي واحد منهما معينا لان نسبة الأحد إليهما علي حد سواء، فتعيين واحد منهما ترجيح من غير مرجح، و علي ضوء هذا: يعرض الإبهام في كيفية تطبيق الحكم بالضمان علي ذلك. و كلما طرأ الإبهام في متعلق الحكم أو موضوعه من ناحية التطبيق، فإنه تدعو الحاجة إلي خطاب متمم يطبق الماهية علي شي ء معين ليرتفع الإبهام بذلك، و نحن نعبر عن هذا الخطاب ب (متمم الجعل التطبيقي) تمييزا له عن سائر أنحاء متمم الجعل. و إنما يعرض الإبهام في مرحلة الجعل في أحد موردين:

المورد الأول: الماهيات الاعتبارية بنحو عام كالصلاة و الحج و الزكاة علي المختار فيها و ذلك لان المعني الاعتباري لا ينطبق علي شي ء خاص قهرا، بل لا بد في تطبيقه من توسط اعتبار آخر، مثلا مجرد وجود السلام و التحية في عرف اجتماعي لا يعين عملا خاصا ينطبق عليه قهرا، و هكذا وجود (الدينار) في القانون المالي لدولة لا يعين نقدا خاصا يتعين انطباقه عليه كما هو واضح، بل ذلك منوط بتطبيق الماهية الاعتبارية ممن بيده الأمر، و ذلك قد يختلف من دين إلي دين أو من مجتمع إلي مجتمع، أو من دولة إلي دولة و هكذا. علي ما هو ملحوظ في هذه الأمثلة.

المورد الثاني: أن تكون هناك خطابات متعددة (بالذات أو بالانحلال من خطاب واحد) و فعلية كل واحد أو تنجزه مشروط بشرط مشترك بينها-

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 313

بالنسبة إلي موضوعها، ففي هذه الحالة تعرض الحاجة إلي متمم الجعل مع توفر شرطين:

أحدهما: أن يتحقق المعني المجعول شرطا بالنسبة إلي أحد الموضوعات لا بالنسبة إلي كل واحد منها لكي يصير الحكم بالنسبة إليها فعليا أو منجزا قهرا.

الثاني:

أن لا يمكن الالتزام بعدم فعلية شي ء من الحكمين أو تنجزه للعلم بتحقق ملاك الحكم بالنسبة إلي أحد الموضوعين. لكن كيف يمكن صيرورة أحد الحكمين فعليا أو منجزا ابتداء لان كلا منهما مشروط بتحقق الشرط بالنسبة إلي خصوص متعلقه و لم يتحقق ذلك بالنسبة إلي شي ء منهما، فلا يكون شي ء منهما فعليا أو منجزا في هذه الحالة دون عناية زائدة. و حل ذلك: أن ينشأ هنا خطاب آخر يطبق الأحد الانتزاعي علي واحد بخصوصه. و حينئذ ينحل الاشكال و يصير الحكم الذي طبق الأحد علي موضوعه أو موضوع تنجزه فعليا أو منجزا قهرا. و كيفية تطبيق ذلك و ضابطه إنه متي كان الطرفان متساويين يطبق الأحد علي كل منهما بشرط عدم تحقق الأخر و إذا كانا مختلفين فيطبق الأحد علي ذي المزية علي اختلاف بين الموارد بحسب تناسباتها لها. و لهذا المورد تطبيقات كثيرة متعددة خلال المباحث الأصولية و الفقهية. منها: في مورد قاعدة الاضطرار و هي ما ورد في الحديث (و كل شي ء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله) فإذا فرضنا اضطرار المكلف بالنسبة إلي أحد محرمين لم يؤثر الاضطرار ابتداء في حلية شي ء منهما، إذ خطاب الحلية إلي كل محرم محرم فإن الجامع بين محرمين ليس بمحرم، لكن حيث لا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 314

يمكن الالتزام بعدم تأثير الاضطرار في رفع الحرمة لحجة إنه قد تعلق بالأحد الجامع، و هو ليس بمحرم لكي يصير حلالا، و لم يتعلق بشي ء من الطرفين فتبقي حرمة كل منهما علي حالها فلا بد من تعيين المضطر إليه بمتمم الجعل التطبيقي ليتأتي رفع حرمته بمعونة قاعدة الاضطرار و بموجب هذا المتمم يكون المضطر إليه

في مورد التساوي احتمالا و محتملا ما ارتكبه المضطر بشرط عدم سبق ارتكاب الأخر أو مقارنته إياه. و في مورد التفاوت يكون المضطر إليه هو الأخف محتملا و الأضعف احتمالا، و علي هذا لا يجوز ارتكاب الأشد أو الأقوي بحجة الاضطرار إلي أحدهما كما يظهر من كلمات الأصوليين في تنبيهات بحث الاشتغال في الكلام علي الاضطرار إلي بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي لان الأشد ليس بمضطر إليه كما هو واضح عقلاء و إنما مثل ارتكاب الأشد في هذه الحالة كارتكاب الحرام فيما اضطر إلي أحد شيئين أحدهما محرم و الآخر مكروه. و منها: في باب تزاحم الخطابين من جهة قصور القدرة عن الجمع بين امتثالهما بناء علي أخذ القدرة الثابتة في موضوع الحكم في مرحلة الإنشاء، فإنه حيث لا تتوفر هذه القدرة بالنسبة إلي كل من المتعلقين، فلا يمكن الحكم بعدم توجه شي ء من الخطابين أيضا للزوم فوت الملاكين المعلومين بإطلاق المادة أو بجهة أخري بعد كون القدرة عقلية لا شرعية دخيلة في الملاك، فلا بد من اعتبار هذه القدرة لواحد منهما معينا ليصير أحد الحكمين فعليا، فإذا كانا متساويين اعتبرت القدرة لكل منهما بشرط عدم الإتيان بالآخر. و إذا كانا مختلفين اعتبرت القدرة قدرة علي الأهم و علي المهم أيضا علي تقدير ترك الأهم. و بناء علي المختار في هذا الباب من أخذ القدرة التامة في موضوع

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 315

الحكم الجزائي في مرحلة تنجز الخطاب، ففي مورد المتساويين يحكم بكون الموضوع للحكم الجزائي هو أحد الأمرين فيكون العقاب عليه أيضا لعدم موافقة العقلاء علي تعدد العقوبة و لا حاجة إلي اعتبار القدرة لكل واحد منهما مشروطا، و

أما في المختلفين فتعتبر القدرة قدرة علي الأهم، و علي المهم علي تقدير ترك الأهم. و منها: غير ذلك مما ذكرناه في محله و لا يناسب ذكره في المقام. و مما يندرج تحت هذا المورد الثاني: مقامنا هذا حيث إن التسبيب إنما هو إلي أحد الضررين بينما الحكم بالضمان منصب علي التسبيب إلي كل ضرر من الإضرار معينا. فكيفية تخريج الحكم بالضمان علي ضوء ما ذكرنا أن يعين الأحد بمتمم الجعل التطبيقي، فإذا كان الضرران متساويين احتمالا و محتملا أو ما هو في حكم التساوي كما لو كان التفاوت في مستوي من القلة و الضعف لا يعتني به عقلاء فينطبق الأحد المسبب إليه علي ما ارتكبه المضطر منهما أيا كان و يكون المسبب ضامنا له. و أما إذا كانا مختلفين اختلافا معتدا به أما احتمالا أو محتملا مع علم المضطر بذلك أو ما في حكمه فإن الأحد حينئذ ينطبق علي الأخف و الأضعف فيكون هو الذي سبب إليه الغير فإن ارتكبه المضطر ضمنه الغير و إذا ارتكب الأشد فإن ارتكابه إياه لا يستند إلي تسبيب الغير عقلاء فلا يوجب ضمانا عليه. و بما ذكرنا يظهر النظر في الوجه الأول و الثاني. أما الأول: فلان الغير و إن كان قد سبب إلي الضرر و كان الضرر الواقع هو الأشد، إلا إن الضرر الذي سبب إليه الغير ليس هو الأشد لينتج ضمانه إياه، و إنما هو أحد الأمرين المنطبق بمعونة متمم الجعل التطبيقي علي الأخف، فلا يكون الأشد مستندا إلي الغير أصلا، بل ما سبب إليه الغير لم

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 316

يقع خارجا، و ذلك نظير ما لو اضطر المكلف إلي ارتكاب أحد

محرمين كشرب النجس و الخمر، و كان أحدهما أشد كالخمر في المثال فارتكب الأشد حيث لا ترتفع عقوبته عنه لعدم كونه مضطرا إليه عقلاء و إن كان مضطرا إلي أحد الأمرين و هذا واضح. و أما الثاني: فلان أحد الأمرين و إن كان قد سبب إليه الغير، إلا إن الضمان لا يتعلق به كما عرفت و إنما يتعلق بالضرر المعين، فلا بد من تطبيقه علي معين بمتمم الجعل لكي يتحقق موضوع الحكم بالضمان في أثر ذلك.

الفرع الثاني: أن يدور الأمر بين ضرر مباح و آخر محرم

. و في هذه الحالة يكون الحكم التكليفي بعد عروض الاضطرار إلي ارتكاب أحد الضررين نفس الحكم المفروض قبل عروض ذلك كما في الفرع الأول فما كان مباحا أولا يكون مباحا كذلك بعد الاضطرار، كما أن ما كان محرما يبقي علي حرمته بعد ذلك. و لا ترتفع الحرمة أو تنجزها بالاضطرار فإن الاضطرار إنما يؤثر في إحدي حالتين: الاولي: أن يتعلق بأمر محرم. الثانية: أن يتعلق بأحد أمرين و ينطبق علي المحرم بمتمم الجعل التطبيقي. و المقام ليس من قبيل الحالة الأولي لأن أحد الأمرين حتي فيما كان الأمران جميعا محرمين ليس بمحرم فضلا عما إذا كان أحدهما حلالا و الآخر حراما، و لا من قبيل الحالة الثانية، لأن الاضطرار و إن تعلق بأحد الأمرين إلا إنه لا ينطبق علي الحرام الذي يكون طرفه حراما أخف من الأول حرمة كما اتضح مما ذكرناه في الفرع الأول فضلا عما إذا كان طرفه مباحا كما في المقام، فالمضطر إليه هنا بمقتضي متمم الجعل إنما هو خصوص المباح، و لا مبرر لارتكاب الحرام في ذلك.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 317

و أما الحكم الوضعي: فهو واضح فإنه إذا كان الغير

هو السبب للوقوع في الضرر و ارتكب المضطر الضرر المباح كان الغير ضامنا له لانه المضطر إليه بمتمم الجعل التطبيقي و أما إذا ارتكب المضطر الضرر المحرم فلا يكون ضامنا له لانه لم يسبب إليه الغير.

الفرع الثالث: أن يدور الأمر بين ضررين محرمين

. و حينئذ يكون المضطر إليه في حالة التساوي و نحوه كل منهما بشرط عدم ارتكاب الأخر سابقا أو مقارنا، و في حالة التفاوت ما كان أخف محتملا و أضعف احتمالا، و ذلك بمئونة متمم الجعل التطبيقي علي ما سبق شرحه في الفرع الأول. و عليه فبالنسبة إلي الحكم التكليفي ترتفع الحرمة عن المضطر إليه بناء علي إن مقتضي قاعدة الاضطرار رفع حرمة المضطر إليه و أما إن قلنا بأن مفادها رفع تنجزها علي ما قربناه في محله فتبقي الحرمة و لكن لا يستحق العقاب بمخالفتها إلا إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار. و أما بالنسبة إلي الحكم الوضعي: فإذا كان الضرر بتسبيب الغير فينطبق أحد الأمرين (المسبب إليه) علي المضطر إليه بمتمم الجعل التطبيقي فيكون الغير ضامنا له لو ارتكبه المضطر، و أما لو ارتكب غيره كان يرتكب ما هو أقوي محتملا فلا يكون الغير ضامنا لعدم تسبيبه إليه عقلاء كما عرفت توضيحه.

الصورة الثانية: أن يدور أمر الضررين بشخصين

اشارة

عكس الصورة الأولي، و مثاله المعروف ما إذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر و لم يمكن تخليصها منه إلا بكسر القدر أو ذبح الدابة. و يخرج عن محل البحث ما إذا كان مال الغير نفسا محترمة كالعبد المسلم أو ما بحكمه فإن الضرر حينئذ يكون دائرا بين أشخاص و يتعين فيه

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 318

إتلاف المال الأخر تحفظا علي نفس العبد. و لهذه الصورة أيضا فروع ثلاثة:

الفرع الأول: ما إذا كان ذلك بفعل أحد المالكين

. و قد ذكر السيد الأستاذ (قده) إن الحكم فيه وجوب إتلاف ماله و تخليص مال الأخر مقدمة لرده علي مالكه لقاعدة اليد و لا يجوز إتلاف مال الغير و دفع مثله أو قيمته إلي مالكه، لانه متي أمكن رد العين وجب ردها و لا تصل النوبة إلي المثل أو القيمة و الانتقال إلي المثل و القيمة إنما هو بعد تعذر العين «1». و التحقيق أن يقال: إنه إما أن يأذن له مالك المال الأخر بإيقاع الضرر المادي علي ماله و لو بشرط الضمان أو لا يأذن له في ذلك. فعلي الأول: يلحق هذا الفرع من ناحية الحكم التكليفي بالصورة الأولي و هو ما إذا كان الضرر يدور بين مالين لشخص واحد، فلا بد من ملاحظة إن إتلاف كل من المالين هل هو في نفسه عمل مباح فيتخير، أو إن إتلاف أحدهما مباح و الآخر محرم و لو من جهة صدق الإسراف و نحوه، فيتعين اختيار المباح، أو إن إتلاف كل منهما محرم فيجوز ارتكاب المضطر إليه منهما و هو في المتساويين ما اختاره المضطر، و في المختلفين ما كان أخف محتملا و أضعف احتمالا كما سبق بيانه؟ و علي الثاني

حيث لا يأذن مالك المال الأخر بإيقاع الضرر علي ماله و يطالب بدفع النقيصة الحاصلة من الحالة الطارئة علي ماله بسبب محل الأخر. فإن كان إيقاع الضرر علي مال نفسه مباحا فلا بد من إيقاع الضرر

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2: 563.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 319

عليه دون مال الغير و ذلك لا من جهة قاعدة اليد فإنه ربما لا يكون تحت يده، بل مقدمة لدفع العيب الطارئ علي مال الأخر، و لا يجوز إيقاع الضرر الذي يتوقف عليه التخليص بمال الغير لانه تصرف في مال الغير بغير أذنه. و أما إن كان إيقاع الضرر علي مال نفسه محرما فيندرج في باب تزاحم الحكمين و يلحقه أحكام هذا الباب.

الفرع الثاني: أن يكون بفعل شخص ثالث غير المالكين

. و قد ذكر السيد الأستاذ (قده) إن في مثله يتخير في إتلاف مال أيهما شاء و يضمن مثله أو قيمته لمالكه إذ بعد تعذر إيصال كلا المالين لمالكهما فعليه إيصال أحدهما بخصوصه، و الآخر بماليته من المثل أو القيمة، لعدم إمكان التحفظ علي كلتا الخصوصيتين. إلا إذا كان التصرف في أحدهما أكثر عدوانا في نظر العرف فيجب عليه إتلاف الأخر «1». لكن الظاهر إنه لا وجه للحكم بجواز إيقاع الضرر في أحد المالين مخيرا في ذلك مطلقا بحسب الوظيفة العملية و لو بحكم العقل، بل عليه استئذان كل من المالكين في التصرف في ماله. فإن أذن له في ذلك أحدهما دون الأخر فيتعين إيقاع الضرر علي ماله و إن كانت إباحته مشروطة بإعطاء قيمته أو مثله أو الأرش فلا بد من بذله له. و إن أذن له كل منهما فلا مانع له من هذه الجهة في إيقاع الضرر علي أيهما شاء. و أما

إن لم يأذن له كل منهما و طالبه برفع الحالة الطارئة الموجبة لنقص ماله، فلا محالة يقع النزاع بينهما و بين هذا الأجنبي فيرجع في حد النزاع إلي الحاكم الشرعي، و الظاهر إنه ليس له الأمر بإيقاع الضرر علي مال

______________________________

(1) لاحظ الدراسات: 346. و مثله في مصباح الأصول 2: 563 لكن لم يذكر فيه قوله (إلا إذا كان.).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 320

أحدهما بلا مرجح، بل يرجع إلي القرعة لأنها مرجح عقلائي حيث لا مرجح عند تزاحم الحقوق و الرغبات كما في المقام إذ المفروض إن كلا منهما يرغب في إرجاع نفس ماله إليه علي ما كانت عليه من الحالة الأولية و قد أوضحنا ذلك في رسالة القرعة. و أما القول بثبوت الاختيار للجاني في إيقاع الضرر علي مال كل منهما أراد و ضمانه، فليس له وجه يعتمد عليه و ربما يكون له غرض خاص في إتلاف مال أحد المالكين كما إذا كانت البقرة في المثال حلوبا و تعلق غرض شخصي منه بذبحها.

الفرع الثالث: أن يكون الحالة الطارئة لعامل طبيعي كالزلزلة و نحوها

. و في هذه الحالة: (تارة) لا يريد أحدهما تخليص ماله كما لو قال صاحب القدر إني لا أحتاج إلي القدر فعلا و لكن الأخر أراد تخليص ماله و هو البقرة و حينئذ فللأول أن يأذن للثاني في إتلاف ماله مع الضمان فيستقر الضمان عليه، و لو لم يأذن له في ذلك فلا يبعد أن يجوز تكليفا لمن يريد تخليص ماله أن يوقع الضرر في مال الأخر مع بذل الغرامة له. و أخري: يريد كل منهما تخليص ماله عن هذه الحالة الطارئة. و حينئذ إذا تراضي الطرفان في طريق رفعها بإيقاع الضرر علي أحد المالين مع بذل غرامته و

لو علي وجه القرعة فالصلح خير، و إن لم يتراضيا بذلك فيحصل بينهما تخاصم لا بد لرفعه من الرجوع إلي الحاكم. و للحاكم بماله من السلطنة و الولاية أن يرفع الخصومة بينهما بإيقاع الضرر علي أحد المالين، لكن في إيقاعه علي واحد معين منهما لا بد من مرجح طبيعي أو جعلي: و الأول: فيما إذا كان إيقاع الضرر علي أحد المالين أقل من حيث زوال المالية أو تنقيصها من إيقاعه علي الأخر فيتعين عليه في هذه الحالة اختيار أخف الضررين تقليلا للخسارة التي يتحملها المتخاصمان علي ما

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 321

سيجي ء بيانه كما إذا فرض إنه لو أمر بذبح البقرة فإن التفاوت بين البقرة الحية و المذبوحة عشرة دنانير، و لو أمر بكسر القدر فالخسارة خمسة دنانير، فلا بد له من الأمر بكسر القدر دون ذبح البقرة. و الثاني: هو الرجوع إلي القرعة في صورة تساويهما من حيث المالية لأنها مرجع عقلائي حيث لا مرجح كما أشرنا إليه سابقا. ثم إن فيمن يتحمل الخسارة الحاصلة من إيقاع الضرر علي أحد المالين بحسب النظر البدوي احتمالات ثلاثة: الأول: أن يتحملها من رجع ماله إلي حالته الطبيعية. و ربما ينسب هذا الوجه إلي المشهور. و الوجه فيه: إن إيقاع الضرر علي مال الغير بإتلاف عين مال الأخر أو صفته إنما هو فداء لماله و تخليص له فتكون الخسارة عليه. و هذا مخدوش لان الحالة الطارئة الناشئة من عامل طبيعي قد طرأت علي كل من المالين، فلم يبق شي ء منهما علي حالته الطبيعية و بذلك نقصت قيمة كل واحد منهما، و المفروض إن كلا من المالكين يطالب بتخليص ماله، فتوجه الخسارة الناشئة من علاج

هذه الحالة الطبيعية إلي خصوص من خلص ماله بلا مشاركة للاخر فيها ليس له أي وجه.

الثاني: إنه يتحملها كل منهما علي سواء بتوهم إنه مقتضي قاعدة العدل و الإنصاف، فإنه لا يعتبر في إجرائها التساوي في جميع الجهات، فتكون العبرة بذات المالين لا بمقدار ماليتهما و لا بما تكون الحالة الطارئة مقتضية لحصوله من الخسارة. ففي رواية النوفلي عن السكوني التي تجعل مؤيدة لتلك القاعدة عن الصادق عن أبيه في رجل استودع رجلا دينارين فاستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها. قال يعطي صاحب الدينارين دينارا،

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 322

و يقسم الأخر بينهما نصفين مع إن احتمال كون التالف من مال صاحب الدينارين و احتمال كونه من مال صاحب الدينار ليس علي سواء بل الأول ضعف الثاني، و يتضح ذلك: فيما لو فرض إن رجلا استودع تسعة و تسعين درهما لدي رجل و استودع الأخر درهما واحدا و تلف أحدهما عند الودعي من دون تعد و تفريط فإن احتمال كون التالف من الأول بنسبة (99 بالمائة) و من الثاني بنسبة (1 بالمائة).

و الجواب عن ذلك مضافا إلي إن الرواية غير معتبرة سندا فإن النوفلي لم يوثق و لا عبرة بكونه من رواة أخبار كامل الزيارات لابن قولويه: إن قاعدة العدل و الإنصاف إنما تقتضي الحكم بالتساوي في الخسارة مع التساوي في جميع الجهات احتمالا و محتملا لا مع عدم التساوي كما في مورد الرواية، فإن المناسب أن يعطي صاحب الدرهمين درهما و ثلث و صاحب الدرهم ثلثي الدرهم كما أوضحناه في محله و سيجي ء ما يقتضيه قانون العدل في المقام.

________________________________________

سيستاني، سيد علي حسيني، قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، در يك

جلد، ه ق قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)؛ ص: 322

الثالث: أن يتحملها كل منهما علي حد سواء في صورة تساري الضررين، و في صورة عدم التساوي يتحملها كل واحد بالنسبة. و قد اختاره السيد الأستاذ (قده) و علل تقسيم الضرر بينهما بقاعدة العدل و الإنصاف الثابتة عند العقلاء و أضاف: إنه يؤيدها ما ورد فيمن تلف عنده درهم مردد بين أن يكون ممن أودع عنده درهمين و من أودع عنده درهما واحدا من الحكم بإعطاء درهم و نصف لصاحب الدرهمين و نصف درهم لصاحب الدرهم الواحد فإنه لا يستقيم إلا علي ما ذكرناه من قاعدة العدل و الإنصاف) «1». و في هذا التقريب جهات من البحث:

______________________________

(1) لاحظ الدراسات: 347 (و في مصباح الأصول 2: 564) أحال إلي ما تقدم في بحث القطع.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 323

1 الاولي: إنه لا يصح جعل مقتضي قاعدة العدل و الإنصاف في مورد تلف الدرهم في يد الودعي التنصيف، و لم يستقر علي الحكم بالتنصيف بناء من العقلاء بل مقتضي العدل عندهم إعطاء صاحب الدرهمين درهما و ثلث درهم و إعطاء صاحب الدرهم ثلثي الدرهم كما أشرنا إليه هنا و فصلناه في مبحث القطع و أما الرواية فهي علي تقدير تمامية سندها، إنما تشتمل علي حكم تعبدي غير موافق للقاعدة مع إنه غير تام من جهة عدم ثبوت وثاقة النوفلي كما مر.

2 الثانية: إن ما ذكره هو في تقريب القاعدة في مبحث القطع لا يأتي في المقام فإنه قال: إن هذه القاعدة مبنية علي تقديم الموافقة القطعية في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك علي الموافقة الاحتمالية في تمام المال فإنه لو أعطي تمام المال

في هذه الموارد لأحدهما للقرعة مثلا احتمل وصول تمام المال إلي مالكه، و يحتمل عدم وصول شي ء منه إليه بخلاف التنصيف فإنه يعلم وصول بعض المال إلي مالكه جزما و لا يصل إليه بعضه الأخر كذلك، فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال إلي مالكه، و يكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدمة لإيصاله إلي مالكه الغائب حسبة، إلا إنه من باب المقدمة الوجودية و المقام من قبيل المقدمة العلمية «1» و وجه عدم جريانه في المقام واضح، إذ ليس، هنا مال مردد بين الشخصين حتي يكون التقسيم بالنسبة مقدمة لإيصاله إلي مالكه من باب المقدمة العلمية بل الكلام في إن الخسارة الواقعة علي أحد المالين لا بد و أن تقسم بينهما بالنسبة، فهذا غير داخل في القاعدة علي التقريب الذي ذكره

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2: 62.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 324

لها.

3 الثالثة: إنه بنفسه قد أنكر ثبوت القاعدة في محل آخر و ناقش في التقريب الذي سبق عنه حيث قال (إن القاعدة في نفسها غير تامة إذ لم يثبت بناء و لا سيرة من العقلاء علي ذلك حتي تكون ممضاة لدي الشارع اللهم إلا إذا تصالحا و تراضيا علي التقسيم علي وجه التنصيف فإنه أمر آخر، و إلا فجريان السيرة علي ذلك بالتعبد من العقلاء أو الشارع استنادا إلي ما يسمي بقاعدة العدل و الإنصاف لا أساس له، و إن كان التعبير حسنا إذ لم يقم أي دليل علي جواز إيصال مقدار من المال إلي غير مالكه مقدمة للعلم بوصول المقدار الأخر إلي المالك، نعم في المقدمة الوجودية ثبت ذلك حسبة و أما العلمية فكلا، فقياس إحدي المقدمتين بالأخري قياس مع

الفارق الظاهر كما لا يخفي) «1». و الصحيح في تقريب المدعي أن يقال: إن الحالة الطارئة بسبب طبيعي علي كل من المالين لما أوجبت نقصا في مالية كل واحد منهما، إذ ليست قيمة البقرة بعد دخول رأسها في القدر متساوية مع قيمتها بدون ذلك و لا القدر الذي فيه رأس البقرة تساوي قيمته لو لم يكن كذلك و إرجاع كل منهما إلي حالته الطبيعية غير ممكن و إرجاع أحدهما إليها يستلزم إيقاع الضرر بالنسبة إلي الأخر و المفروض لزوم إيقاعه علي ما هو أقل قيمة، فحينئذ يكون النقصان الموجب لزوال ماليته أو نقصانه مسببا عن الحالتين غير الطبيعيتين الطارئتين علي كل منهما. فلا بد من ملاحظة إن الخسارة الحاصلة بأية نسبة معلولة لحصول تلك الحالة في القدر و بأية نسبة معلولة لحصولها في البقرة، و بحكم العقلاء يكون ثلثا الخسارة علي صاحب البقرة و ثلثها علي صاحب القدر، علي ما

______________________________

(1) لاحظ مستند العروة كتاب الخمس: 147.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 325

فرضناه سابقا من إن التفاوت بين البقرة في حالتها الطبيعية و بين البقرة المذبوحة هو عشرة دنانير و التفاوت بين القدر علي حاله الطبيعي و القدر المكسور خمسة دنانير، فالحالة الطارئة عليهما التي تدعو إلي إيجاد ما يوجب الخسارة المالية بأدني مستوياتها الممكنة يقتضي تقسيم الخسارة علي المالين بملاحظة النسبة بين الضررين لو فرض وقوع الضرر مع كل منهما. و نظير المقام ما قاله بعض المحققين في مسألة أن المئونة التي أنفقت علي الغنيمة بعد حصولها بحفظ و رعي و جمع و غيرها هل تقدم علي الخمس أم لا؟ قال بأن تقديم الخمس علي المؤن مخالف للعدل. و ربما أورد عليه بأنه

لم يعلم في قواعد الفقه قاعدة تسمي بقاعدة العدل و إنما ذلك يشبه الاستحسان الذي هو من مبادئ فقه الحنفية، و قد أجيب عنه بأن قاعدة العدل من أعظم قواعد الفقه و إن لم تكن معنونة في أبوابه كسائر القواعد و يستدل لها من الكتاب بقوله تعالي (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ) «1» و لا ريب إن من العدل أن تكون مئونة المملوك علي مالكه و من البغي أن تحمل مئونته علي غير مالكه. و الظاهر إنه لا ينبغي الإشكال في أصل القاعدة كما دلت عليه الآيات الشريفة كقوله (وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) «2» و قوله تعالي (وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) «3» إلا إن البحث يقع في أساسه و ضابطه الكلي و قد أوضحنا بعض القول فيه في بعض المباحث الأصولية.

الصورة الثالثة: فيما إذا دار الأمر بين تضرر شخص و الإضرار بالغير

اشارة

______________________________

(1) النحل 16/ 90.

(2) النساء 4/ 58.

(3) الشوري 42/ 15.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 326

من جهة التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره مثلا و قد طرح المحقق النائيني البحث في هذه الصورة حول أن قاعدة السلطنة هل هي محكومة مطلقا بقاعدة (لا ضرر) أو فيما لم يلزم من عدم السلطنة ضرر عليه؟ و أما إذا لزم فلا تكون محكومة لها بل تكون قاعدة السلطنة هي المرجع «1». و ربما يعد منع المالك أي تصرف ضررا عليه و لو كان مضرا بجاره كما سيأتي عن الشيخ الأنصاري، و هو غير تام. و أيا كان فينبغي تعميم البحث لما إذا لزم من عدم تصرفه ضرر علي المالك و ما إذا لزم منه فوت مصلحة بل الأعم من ذلك أيضا. و التعرض لهذه المسألة في غاية الأهمية لكثرة الابتلاء

بها و سعة حدودها. و منشأ تفصيل القول فيها في كلمات المتأخرين في الفقه ما ذكره الفاضل السبزواري في كتاب الكفاية، حيث نقل عن الأصحاب جواز تصرفات المالك في ملكه مطلقا ثم تأمل فيه و صار كلامه موردا للبحث عندهم، قال (قده) «2» (المعروف من مذهب الأصحاب إن ما ذكر في الحريم للبئر و العين و الحائط و الدار مخصوص بما إذا كان الاحياء في الموات فيختص الحريم بالموات و أما الاملاك فلا يعتبر الحريم فيها لأن الاملاك متعارضة و كل واحد من الملاك مسلط علي ماله له التصرف فيه كيف شاء قالوا فله أن يحفر بئرا في ملكه و إن كان لجاره بئر قريب منها و إن نقص ماء الاولي و إن ذلك مكروه. قالوا: حتي لو حفر في ملكه بالوعة و فسد بئر الجار لم يمنع عنه و لا ضمان عليه، و مثله ما لو أعد داره المحفوف بالمسكن حماما أو خانا أو

______________________________

(1) لاحظ تقريرات متن رسالة لا ضرر: 224.

(2) الكفاية: 241 (تذنيب).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 327

طاحونة أو حانوت حداد أو قصار لان له التصرف في ملكه كيف شاء. و يشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضررا فاحشا نظرا إلي ما تضمنته الأخبار المذكورة من نفي الضرر و الإضرار و هو الحديث المعمول به من الخاصة و العامة المستفيض بينهم خصوصا ما تضمنته الأخبار المذكورة من نفي الإضرار الواقع في ملك المضار. و في المسالك نعم له منع ما يضر بحائطه من البئر و الشجر و لو لمرور أصلها إليه و الضرر المؤدي إلي ضرر الحائط و نحو ذلك. و قد تعرض لهذا الكلام صاحب الرياض «1» و

ناقش فيه و فصل القول فيه صاحب مفتاح الكرامة «2» و أشار إلي كلامهما الشيخ الأنصاري (قده) في الرسائل «3». و نحن نقتصر علي نقل كلامين في الموضوع كلاما لصاحب الجواهر و كلاما للشيخ الأنصاري: قال الأول «4» (و بالجملة فالغرض إن المسألة لم يكن فيها إجماع محقق علي جهة الإطلاق. فيمكن أن يقال بمنع التصرف في ماله علي وجه يترتب عليه الضرر في مال الغير، مثلا بتوليدية فعله، بحيث يكون له فعل و تصرف في مال الغير و إتلاف له يتولد من فعله فعل في مال الغير، لا تلف خاصة بلا فعل منه، و خصوصا مع زيادته بفعله عما يحتاج إليه و غلبة ظنه بالسراية، و قاعدة التسلط علي المال لا تقتضي جواز ذلك، و لا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعله.

______________________________

(1) الرياض 2: 320.

(2) مفتاح الكرامة 7: 22 23.

(3) الرسائل 2: 538 539.

(4) الجواهر طبع القديم 6: 185 و طبع الحديث 38: 52.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 328

(نعم) لو كان تصرفه في ماله لا توليد فيه علي الوجه المزبور و إن حصل الضرر مقارنا لذلك لم يمنع منه). و قال الشيخ الأنصاري: (الأوفق بالقواعد لقدم المالك لان حجر المالك في التصرف في ماله ضرر يعارض بذلك ضرر الغير فيرجع إلي عموم قاعدة السلطنة و نفي الحرج).

و لتوضيح القول فيه لا بد من ذكر أمور:
الأمر الأول: في أنه هل هناك ما يدل علي جواز تصرفات المالك في ملكه مطلقا

لكي نحتاج في رفع اليد عنه لما يدل علي خلافه و يكون مقدما عليه أم لا؟ و ما يمكن أن يستدل به وجهان:

الوجه الأول: ما ينسب إلي النبي صلي الله عليه و آله (الناس مسلطون علي أموالهم) و قد وصفه في مفتاح الكرامة بأنه (المعمول عليه بين المسلمين) و قال: بل هو متواتر و أخبار

الإضرار علي ضعف بعضها و عدم مكافئتها لهذه الأدلة يحمل علي ما إذا كان لا غرض له إلا (الإضرار) «1» و إطلاقه يدل علي إن للمالك أن يتصرف في ماله بأي تصرف و لو كان مضرا بجاره. و يمكن المناقشة فيه من جهتين:

الاولي: إنه خبر ضعيف غير مجبور بعمل الأصحاب فإنه لم يرد في جوامعنا الحديثية إلا في كتاب البحار «2» و أما في الكتب الفقهية فقد ذكره الشيخ في الخلاف «3» و ربما يوجد في بعض مصنفات العلامة و لعل صاحب

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 7/ 22.

(2) بحار الأنوار 2: 272/ 7.

(3) الخلاف 3: 176 177 ذيل المسألة 290.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 329

عوالي اللئالي قد أخذه منها و يوجد في كلام المحقق الثاني و غيره التعبير بمضمونه من دون الإشارة إلي أنه رواية، و أما في كتب الحديث للعامة فالظاهر أنه غير موجود في كتبهم المشهورة، كما يعلم بملاحظة المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي و مفتاح كنوز السنة، نعم لا يبعد وجوده في بعض كتبهم الحديثية غير المعروفة، فما وصفه به في مفتاح الكرامة لا يخلو عن مبالغة. الثانية: أن مفاد هذا الكلام ليس أزيد من عدم محجورية المالك في تصرفاته في أمواله بحيث يحتاج إلي استئذان من غيره، و ليس في مقام بيان الجواز التكليفي و الوضعي بالنسبة إلي جميع أنواع التصرفات حتي في حال الإضرار بالغير، و لو شك في كونه في مقام البيان من هذه الجهة مضافا إلي الجهة الأخري فلا أصل يحكم بذلك كما قرر في علم الأصول.

الوجه الثاني: أن يقال إن اعتبار شي ء مملوكا لأحد بملكية تامة يندمج فيه جواز مطلق التصرفات فيه تكليفا و وضعا، علي

ما هو التحقيق من أن الاحكام الوضعية كالملكية مشتملة علي نحو الاندماج علي ما يناسبها من الأحكام التكليفية، و المرتكز لدي العقلاء إن المندمج في الملكية مطلق جوار التصرفات كما يشير إلي ذلك ما جاء عن بعض مخالفي هود عليه السلام من قوله تعالي (أَ صَلٰاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوٰالِنٰا مٰا نَشٰؤُا.) إلخ «1».

و يرد عليه: إن ما يندمج في اعتبار الملكية التامة ليس جواز مطلق التصرفات بل هو جواز التصرفات في الجملة كما يؤكد ذلك ما ذكره بعض

______________________________

(1) هود 11/ 87.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 330

أهل القانون «1».

الأمر الثاني: في إنه لو فرض وجود إطلاق لدليل سلطنة المالك بالنسبة إلي التصرفات التي يصدق عليها أنها إضرار بالنسبة إلي جاره

، فهل ما يدل علي حرمة الإضرار بالغير يكون مقدما علي الإطلاق المفروض؟ لا سيما فيما إذا فرض أن من عدم التصرف المفروض يلزم ضرر علي المالك؟

______________________________

(1) ففي مصادر الحق في الفقه الإسلامي للدكتور عبد الرزاق السنهوري (ج 1 ص 31 تحت عنوان الملك التام) بعد أن نقل إن المادة 11 من مرشد الحيران عرفته علي الوجه الاتي: (الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا و منفعة و استغلالا فينتفع بالعين المملوكة و بغلتها و ثمارها و نتاجها و يتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة) و استنتج منه إن عناصر حق الملك في الفقه الإسلامي كما عن الفقه الغربي ثلاثة عددها قال بعد ذلك: (و ليس حق المادة مطلقا كما توهم عبارة مرشد الحيران، بل هو حق مقيد بوجوب عدم الإضرار بالجار و قد ورد هذا القيد في نصوص مرشد الحيران ذاتها فنصت المادة 57 علي إن (للمالك أن يتصرف كيف شاء في خالص ملكه الذي ليس للغير حق فيه

فيعلي حائطه و يبني ما يريده ما لم يكن تصرفه مضرا بالجار ضررا فاحشا) و عرفت المادة 59 الضرر الفاحش بأنه (ما يكون سببا لوهن البناء أو هدمه أو يمنع الحوائج الأصلية أي المنافع المقصودة من البناء، و أما ما يمنع المنافع التي ليست من الحوائج الأصلية فليست بضرر فاحش) و بينت المادة 60 حكم الضرر الفاحش فقالت: يزال الضرر الفاحش سواء كان قديما أو حادثا. و قال في الوسيط (ج 8 ص 557) في مادة 341 تحت عنوان (أعمال سلبية من المالك)، الأمثلة كثيرة علي الأعمال السلبية التي تقتضي من المالك حتي يقوم بما للملكية من وظيفة اجتماعية و ذكر في عداد بعض الأمثلة:

1 يخب علي المالك أن يمتنع عن استعمال ملكه بحيث يضر بالجار ضررا فاحشا و إذا جاز للمالك أن يطلب من جاره أن يتحمل مضار الجوار المألوفة فلبس له أن يحمله المضار غير المألوفة للجوار، و في هذا المعني تقول المادة 807 مدني (1 علي المالك ألا يغلو في استعماله حقه إلي حد يضر بملك الجار.

2 و ليس للجار أن يرجع علي جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها و إنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف علي أن يراعي في ذلك العرف و طبيعة العقارات و موقع كل منها بالنسبة إلي الأخر، و الغرض الذي خصصت له. إلخ ما ذكره).

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 331

فيمكن أن يقال إن أدلة حرمة الإضرار كمقطع (لا ضرار) مقدمة علي إطلاق دليل السلطنة و إن كان بينهما عموم من وجه، لأن الإضرار من العناوين الثانوية و ما يدل علي الحرمة بالعنوان الثانوي مقدم علي ما

يدل علي الجواز بالعنوان الاولي. و لكن قد يمنع من صحة التمسك به في المقام بأحد تقريرين:

التقرير الأول: إنه فيما إذا كان ترك الإضرار بالغير ضررا علي المالك يكون قوله (لا ضرر) حاكما علي دليل حرمة الإضرار، لأنه متقدم بالحكومة التضييقية علي كل حكم و لو كان حكما بالعنوان الثانوي. و يمكن الجواب عنه بوجهين:

أحدهما: أنه لا يعقل حكومة (لا ضرر) علي (لا ضرار) من جهة ان معني حكومته عليه حلية الإضرار و ارتفاع الحرمة و حيث إن كلا من الحرمة و انتفائها ضرري، فإن في وجود الحرمة ضررا علي المالك و في انتفائها ضررا علي الجار، و قد سبق إن (لا ضرر) كما أنه حاكم علي الأحكام الوجودية فكذلك هو حاكم علي الأحكام العدمية، فيستحيل حكومته عليهما لانه يلزم منه ارتفاع النقيضين و حكومته علي أحدهما ترجيح بلا مرجح. و ثانيهما: أن في قضية سمرة بن جندب لوحظ أولا (لا ضرر) الدال علي نفي استحقاق دخول سمرة في دار الأنصاري بلا استئذان و عدم ترتب ذلك علي حق الاستطراق، ثم رتب عليه حرمية الإضرار بعد تحقق صغراها بملاحظة إن الدخول بغير استئذان من غير حق إضرار بحق الأنصاري و عليه ف (لا ضرار) في الرتبة المتأخرة عن (لا ضرر) فلا يكون حاكما عليه لكن في هذا الوجه تأمل.

التقرير الثاني: ما يظهر من كلام السيد الأستاذ (قده) من عدم إطلاق

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 332

لقوله (لا ضرر) يشمل به مثل المقام «1» و ذلك بأحد وجهين:

أحدهما: إن مقتضي الفقرة الاولي عدم حرمة التصرف لكونه ضررا علي المالك، و مقتضي الفقرة الثانية و هي (لا ضرار) حرمة الإضرار بالغير علي ما تقدم بيانه،

فيقع التعارض بين الصدر و الذيل فلا يمكن العمل بإحدي الفقرتين.

و يرد عليه: إنه إن قلنا بأن (لا ضرر) حاكم علي الأحكام الوجودية كحرمة الإضرار المفادة ب (لا ضرار) فقط فلا معارضة بين الصدر و الذيل لانه لا معارضة بين الدليل الحاكم و المحكوم، و نتيجة ذلك الحكم بجواز التصرف المفروض لسقوط (لا ضرار) بكونه محكوما. و إن قلنا بأنه حاكم علي الأحكام الوجودية و العدمية كما هو المختار فحيث أنه لا يعقل حكومة (لا ضرر) علي (لا ضرار) في المقام علي ما تقدم فلا مانع من التمسك بالفقرة الثانية، و قد وافق هو علي هذا المبني من حكومة لا ضرر بالنسجة إلي الأحكام العدمية إلا أنه ذكر إنه لم يجد مثالا يثبت فيه حكم بواسطة لا ضرر بنفي الحكم الوارد من جهة قاعدة (لا ضرار) و ما ذكرنا لا يقتضي إثبات حكم بلا ضرر حتي يقال بأن لسان (لا ضرر) هو لسان النفي لا لسان الإثبات بل إبقاء (لا ضرار) بلا حاكم عليه. و الوجه الثاني: إن حديث (لا ضرر) لا يشمل المقام لا صدرا و لا ذيلا، لكونه واردا مورد الامتنان علي الأمة الإسلامية فلا يشمل موردا يكون شموله له منافيا للامتنان و من المعلوم إن حرمة التصرف في الملك بما يضر بالجار مخالف للامتنان علي المالك، و الترخيص فيه خلاف الامتنان علي الجار، فلا يكون شي ء منهما مشمولا لحديث (لا ضرر). ثم قال (و بما ذكرناه يظهر أنه لا يمكن التمسك بحديث (لا ضرر) فيما كان ترك التصرف

______________________________

(1) لاحظ مصباح الأصول 2/ 566.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 333

موجبا لفوات المنفعة و إن لم يكن ضررا عليه. لان منع المالك

عن الانتفاع بملكه أيضا مخالف للامتنان فلا يكون مشمولا لحديث (لا ضرر) فلا يمكن التمسك بحديث (لا ضرر) في المقام أصلا بل لا بد من الرجوع إلي غيره. فإن كان هناك عموم أو إطلاق دل علي جواز تصرف المالك في ملكه حتي في مثل المقام يؤخذ به و يحكم بجواز التصرف، و إلا فيرجع إلي الأصل العملي و هو في المقام أصالة البراءة عن الحرمة فيحكم بجواز التصرف. ثم قال (و بما ذكرناه ظهر الحكم فيما إذا كان التصرف في مال الغير موجبا للضرر علي الغير و تركه موجبا للضرر علي المتصرف، فيجري فيه الكلام السابق من عدم جواز الرجوع إلي حديث (لا ضرر)، لكونه واردا مورد الامتنان فيرجع إلي عموم أدلة حرمة التصرف في مال الغير كقوله عليه السلام (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) و غيره من أدلة حرمة التصرف في مال الغير و يحكم بحرمة التصرف. و يرد عليه:

أولا: إن المسلم إنما هو ملاحظة جهة الامتنان في هذا الحديث في الجملة و لو علي نحو الحكمة لا علي نحو العلة حتي يكون مخصصا له بصورة الامتنان، فإنه ليس في شي ء من أدلتها ما يدل علي ذلك أو ما يمنع عن الأخذ بالإطلاق. و قضية سمرة بن جندب إنما تدل علي إن النبي صلي الله عليه و آله كان بصدد تمييز الحقوق و إيصال ذي الحق إلي حقه بالصرامة التي تقتضيها مرحلة القضاء أو التنفيذ.

و ثانيا: إن البيان المذكور يقتضي قصور (لا ضرر) عن شمول كل من حرمة الإضرار و جوازه، و نتيجة ذلك إنه لا يصلح للحكومة علي (لا ضرار) فيبقي (لا ضرار) بلا حاكم عليه كما ذكرناه أولا، و معه

لا وجه للرجوع إلي ما دل علي جواز التصرف في ماله لو فرض شموله للمقام، لان الجواز هنا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 334

جواز اقتضائي فلا ينافي ما دل علي الحرمة، كما لا وجه للرجوع إلي البراءة أيضا.

و ثالثا: أنه علي تقدير قصور (لا ضرار) فيمكن الرجوع إلي غيره من الأدلة الدالة علي حرمة مال الغير، فإن الإضرار بالغير إما أن يكون بالتصرف الحقيقي في ماله و لو علي نحو التوليد، كوهن الحائط بسريان الرطوبة، و إما أن يكون بالتصرف الحكمي فيه كما لو بني معمل دباغة أو حدادة في منطقة سكنية مما يوجب عدم قابلية الدور المجاورة للسكني، و في كلتا الصورتين يكون المالك بعمله هذا قد ألغي احترام مال الغيم و إن نوقش في صدق التصرف الذي هو بمعني التغيير و التبديل خصوصا في القسم الأخير، فيأتي في المقام ما يدل علي حرمة مال الغير بدون تقييده بعنوان التصرف. كما في قوله: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) و قوله: (و حرمة ماله كحرمة دمه). و لا يعارضها أيضا ما دل علي جواز التصرف في ماله كما لا تجري أصالة البراءة كما تقدم.

الأمر الثالث: في أنه هل يمكن ادعاء أنه إذا لزم من ترك التصرف ضرر علي المالك

فترتفع حرمة الإضرار بقاعدة رفع المضطر إليه أم لا؟ الظاهر هو الثاني لوجهين:

الأول: إن وصول مطلق الضرر علي المالك لا يوجب صدق الاضطرار علي الإضرار بالغير، بل مفهوم الاضطرار يختص بما إذا وقع الشخص في الضيق و لا مهرب له إلا ارتكاب المحرم، مثل هلاك النفس و ما يلحق به، أو قل أنه يختص بمورد الضرورة التي تجوز ارتكاب المحرمات.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 335

فإذا وصل إلي هذا الحد فلا إشكال في

الجواز التكليفي. الوجه الثاني: إن حديث الرفع بقرينة قوله (عن أمتي) ظاهر في كون الرفع امتنانا علي الأمة فلا يصلح لرفع ما يكون في رفعه خلاف المنة بالنسبة إلي بعض الأمة.

الأمر الرابع: في إن دليل الحرج هل يقتضي جواز التصرف في مال النفس بما يوجب الضرر المالي علي الغير أم لا؟

فقد يقال: أنه يقتضي ذلك لان حجر المالك عن الانتفاع بما له حرج عليه، فيرتفع بدليل نفي الحرج. و يرد عليه: أولا: إن الحرج المنفي إنما هو بمعني المشقة التي لا تتحمل عادة لا مطلق الكلفة، و إلا لاقتضي ارتفاع مطلق التكاليف. و من المعلوم إن منع المالك في التصرف في ماله خصوصا إذا كان فيه إضرار فاحش بالغير لا يكون حرجيا عليه مطلقا بل قد يكون و قد لا يكون. و ثانيا: إن اجراء لا حرج بالنسبة إليه معارض بإجرائه في ناحية الجار فإن جواز التصرف للمالك في ماله علي نحو يوجب الضرر الفاحش في مال الجار حرجي عليه، كما أوضحنا ذلك في بحث التقية. و بما ذكرنا يظهر أن مقتضي القواعد حرمة الإضرار بالغير و إن كان التصرف في مال نفسه. نعم، إذا كان عدم التصرف الخاص في ماله مولدا للضرر الذي يحرم إيقاعه علي نفسه فالظاهر عدم الحرمة من جهة صدق الاضطرار لو كان، و إلا تزاحمت الحرمتان فلا بد من ملاحظة الأهم و المهم. و في كل مورد حكمنا بالترخيص التكليفي، فإن كان الضرر عليه مما

قاعدة لا ضرر و لا ضرار (للسيستاني)، ص: 336

يكون له ضمان فيحكم بالضمان و لا يمكن رفعه بحديث (لا ضرر) إما لانه في مقام الامتنان أو لأن الحكم بالضمان بطبعه ضرري و (لا ضرر) لا يرفع مثل ذلك. هذا تمام الكلام في قاعدة (لا ضرر). و الحمد لله رب العالمين.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.